الخميس ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦

تقاطعات البوح في ديوان «خطى الجبل»

ياسين الحراق

بعد التجربتين الشعريتين: «سترون في الطريق خطاي»، «ظلال الفجيعة»، يسعى الشاعر الفلسطيني «محمد علوش» إلى مراكمة نتاجه الجمالي عبر مجموعة شعرية جديدة موسومة بـ «خطى الجبل»، صدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية (2016).

وتضم 68 قصيدة على امتداد مساحة إبداعية تشمل 196 صفحة من الحجم المتوسط، كما يكتنف المجموعة تقديم للشاعر المغربي صالح لبريني.

ويستهل محمد علوش عمله الشعري - خطى الجبل - بقصيدة "أحمل أوجاعي" وينتهي بقصيدة "تلويحة"، مما يوحي بحضور صخرة المعاناة الثقيلة التي ما زال يحملها الشاعر في قلبه، لكنه حمل لا يشبه في شيء حمل سيزيف، ما دام العنوان يتشح بالاستعارة التخييلية، حيث تحيل لفظة "الجبل" على صور الصمود والقوة والتماسك والشموخ والثقة... ومن هنا يتبين أن خطى الجبل، ليست سوى خطى شعب محتل تتهدده نيران الجور والحرمان والتقتيل الممنهج، ومع ذلك ما زال يشق طريقه بقوة نحو الخلاص الأبدي، متقويا بالإرث التاريخي الضارب في القدم.

إنه خلاص يمتح من تجربة يسوع المسيح الذي أفنى حياته كي يمهد لقيام عالم تكتنفه المثل والفضيلة، فمسار الأحداث وتتابعها بشكل درامي في فلسطين، كان له أثر كبير في توجيه تجربة "الديوان" نحو سياق التمرد والانعتاق من أغلال المحتل، فاتحاً بذلك نوافذ القصيد على البوح الذاتي المتقاطع مع البوح الجماعي المرتبط بالهوية وبروح الإرادة الحرة.

إن الكتابة الشعرية لمحمد علوش تنتمي إلى قصيدة النثر، خاصة في جانب توظيف النثر في المقول الشعري، وهو ما يبرز تخلص الشاعر من صنم الوزن التفعيلي على الخصوص، إنها كتابة ممزوجة بمرجعيات ثقافية متعددة، منطبعة بالتراث المحلي والعربي والعالمي، حيث يمكن تبيان ذلك بوضوح داخل العمل الإبداعي.

وقد جاءت قصائد المجموعة، مزاوجة بين النص العضوي المترابط، وبين النص الشذري، منتجة معاني ودلالات الكلية والكمال في النص.

ضمن هذا الأفق كتب محمد علوش الشاعر مؤسسا خطابا شعريا يقوم على التعبير الشخصي المتقاطع مع التعبير الجماعي، مقحما القارئ منذ القصيدة الافتتاح في أجواء الجرح الفلسطيني:

"مازال نزفي رمادا
لذكرياتي
وأوجاعي
تسكنني كأنني كهفها
وملاذها
تشظياتها بقايا رواية
وعيون قلب جريح
الحزن صورته الأخيرة
وصورته الباقية"

إن الذات الشاعرة، موبوءة بالانكسارات والمواجع، مضمخة بحصيلة إرث استعماري ثقيل وتفيض قسوة، فالمادة الشعرية هنا تنطرح خارج دائرة الانفعال الذاتي الضيق بنقلها لمأساة إنسانية كبرى ومروعة.

ومن ثمة يخلص الشاعر إلى التعبير عبر لغة شفيفة عن شكل وجوده في أرض موشومة بالفجيعة المعتّقة، فيوظف في ذلك أسلوب التناص الذي يمكن تلمسه بوضوح في قصيدة "جئتك وفرسي بلا أجنحة" كإحالة صريحة تؤرخ لحادث معراج محمد النبي في القدس.

ولأن الشاعر لا يملك ما يقدمه لموئله غير روحه يهديها كقربان، فإنه يجابه قدره بعزيمة المحارب الذاهب إلى الحرب.

يبدو أن انتماء الشاعر محمد علوش لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتباره مديرا لمكتب جبهة النضال الشعبي في طولكرم، كان له أثرا كبيرا في توجيه تجربته الشعرية نحو القضية الفلسطينية والمشترك الكوني.

فالشاعر لا يمحق عبر متن المجموعة الشعرية انتمائه النضالي وتحيزه للقضية، بل يمضي فيه محايثا مفهوم المثقف العضوي المواكب لهموم عصره، فيحيل على رموز الكفاح الفلسطيني متأثرا بأسماء من ماتوا كالأمين العام لجبهة النضال الشعبي "سمير غوشة"، أو من استشهدوا كناجي العلي، أو من تم اغتيالهم كخليل الزبن:

"وإن غيبتك الرصاصات
ستبقى تحرس حقل الورد
وتفجر ينابيع الماء العذب
لتروي عطش الأيام"

لا يتوقف محمد علوش عند ينابيع الرمز والإيحاء المؤثث للمتن الشعري داخل مجموعة خطى الجبل بقدر ما يركن للمجازات والإيقاعات وتناغمها في إنتاج المعنى إنتاجا واع شعريا، محايثا للصورة واللغة والفكرة.

كما تُعَضّدُ نصوص المجموعة بأكثر من تيمة باعتبارها لازمة " إيقاعية ووجدانية وأسلوبية "كدلالة على صيرورة الرؤيا داخل العمل الشعري ، ليقوَّم بذلك الذات المنشطرة بتشظيات الواقع الفلسطيني، فتنحاز نحو الانتصار للحياة نكاية في سديم المحتل:

"توجتني الجبال أميرها
وفارس أحلام
لصباحها الندي
أحفظ سر زنبقتي
وأبقى وفيا لوصايا النخيل
وعناق الأرض لشمس الظهيرة
أطلالا لحلم
وقصيدة للخيول"

ان تجربة "خطى الجبل" لمحمد علوش، تجربة تنماز بازدواجية المأساة والصراع مما حدا بالشاعر إلى توظيف يراعه وفق أسس وطنية وقومية وإنسانية لإبراز حق الإنسان الفلسطيني، وفي الآن نفسه تفتح أفقا جماليا يمتح جماليته من دقات قلب شاعر مترع بريح التراث والأرض، متشح بالحرية والانفكاك.

ياسين الحراق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى