الثلاثاء ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧

«رواية مسك الكفاية» في اليوم السابع

رنا القنبر

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني الحكواتي في القدس رواية مسك الكفاية "سيرة سيدة الظلال الحرة " للشاعر والروائي الأسير باسم خندقجي وتقع الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2014 في 341 صفحة من الحجم المتوسط.
الكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السجون العثمانية في أواخر العهد العثماني، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشهيرة عام 1930تخليدا للشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشاعر الشعبي عوض النابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشهيرة” ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(أوراق سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل، و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة "سجينة" القصصية للراحل عزّت الغزّاوي، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان، "و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايات "ستائر العتمة" و "مدفن الأحياء"و"أمهات في مدفن الأحياء"وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي، وكتبت عائشة عودة "أحلام بالحرية" و"ثمناً للشمس". و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي،، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرمل” لنافذ الرفاعي، ورواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وفي العام 2010 صدرت رواية"عناق الأصابع" لعادل سالم، وفي العام 2011 صدر "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي" لمروان البرغوثي" و”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، ورواية “سجن السجن” لعصمت منصور،وفي العام 2012 صدرت رواية"الشمس تولد من الجبل لموسى الشيخ ومحمد البيروتي" كما صدر قبل ذلك أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون ايضا، ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن. وفي العام 2013صدر كتاب"الصمت البليغ" لخالد رشيد الزبدة، وكتاب نصب تذكاري لحافظ أبو عباية ومحمد البيروتي" وفي العام 2014 رواية"العسف" لجميل السلحوت، وفي العام 2015 "مرايا الأسر"قصص وحكايا من الزمن الحبي" لحسام كناعنة، ورواية" مسك الكفاية سيرة سيدة الظلال الحرة" للكاتب الأسير باسم الخندقجي، وفي العام 2016 رواية "الشتات"لأشرف حمدونة، وديوان "ماذا يريد الموت منا؟"لتحرير اسماعيل البرغوثي، ورواية "الأسير 1578" للأسير هيثم جمال جابر.

وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني الحديث، أفرزتها خصوصية الوضع الفلسطيني، مع التذكير أنها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشعراء الفلسطينيون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا.

كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضا، فقد كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط. وكتب فاضل الغزاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لاترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر

وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب) و (السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية، أما ما يهتم بأدب العصر الحديث، فنذكر منها: (أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح) و(شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش) وأحدث دراسة في ذلك كتاب "القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر"

أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعرا أو نثرا فهي ليست قليلة، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث: نذكر منها (روميات أبي فراس الحمداني) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم. أما في الأدب الحديث فنذكر: (حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي ) و (شاعر في النظارة: شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار: محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية "خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي".

كما يجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكرا على الفلسطينيين والعرب فقط، بل هناك آخرون مثل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وشاعر تشيلي العظيم بابلونيرودا، والروائي الروسي ديستوفسكي في روايته”منزل الأموات” فالسجون موجودة والتعذيب موجود في كل الدول منذ القديم وحتى أيامنا هذه، ولن يتوقف الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وفي العام 20166 صدر بحث الدكتورة لينا الشيخ حشمة عن "أدب السجون في مصر، سورية والعراق – الحرية والرقيب.

بدأ الحديث ديمة السمان التي أدارت الندوة وتحدثت عن الرواية واعتبرتها ملحمة أدبية.
وقالت رنا القنبر:

تقع الرواية في عشرين فصلا مقسما بين المونولوج، ولسان الراوي العليم في سيرة ذاتية تدور احداثها عام 145 للهجرة في عهد خلافة أبي جعفر المنصور وبناء عاصمة الخلافة بغداد، حول فتاة من سبأ آسرة الجمال ممشوقة القوام تقع فريسة أمير الجند فيقرر أخذها هدية الى مولاه الخليفة، ولحسن حظها يقطع طريق القافلة فرسان الصحراء فيخلصها الأنهد وهو أحد فرسان الصحراء الهاربين من البطش العباسي والعبودية المتمردين الذين يسكنون الصحراء، فيدثرها بعباءته بعدما حاول أحد أعوانه التحرش بها ويأخذ عهدا على نفسه بأن لا يمسها أحد، فتمكث في الصحراء فتتعلم الفصاحة والحكمة والبلاغة من رقية التي اعتنت بها وعلمتها من حكمتها وذكائها. يقرر الأنهد ارجاعها الى ذويها، لكن أحلامها كبرت وازدهرت في عمق الصحراء.

تقرر تحقيق أحلامها ومآربها لتصبح سيدة الظلال الحرة كما كانت تريد. تابى ذلك وتطلب منه أن يذهب بها حيث قصر الامير لتكون جاريته وتسكن قصره حيث ستكون احلامها بانتظارها هناك.
الرواية هي سيرة ذاتية للمقاء بنت عطاء بن سبأ، التي أصبح اسمها بعد ذلك الخيزران زوجة المهدي وأم موسى الهادي وهارون الرشيد، التي تحولت من جارية الى زوجة أمير المؤمنين ومن ثم أمّ أمير المؤمنين بعد تولي هارون ابنها الخلافة بعد موت أخيه موسى، وما تلا ذلك من نزاعات حول الخلافة في عصر العباسيين الذين استنندوا في حقهم بالخلافة على قرابتهم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال رحلتها داخل القصر في مخدع الجواري اكتسبت حب واحترام ولي العهد المهدي؛ لتصبح بعد ذلك أميرة فؤاده ومحظيته، فتذهله بفصاحة لسانها وحدة بصيرتها حتى أخذت مكانة كبيرة في قلبه، فيكون لها الفضل بعد ابيه بتوليه الخلافة بمشورتها ودهائها، فتصبح أول جارية زوجة شرعية لأمير المؤمنين بعد توليه الخلافة بعد موت أبيه أبي جعفر المنصور في أحداث تاريخية فعلية في سياق سردي متخيل.

ماذا أراد باسم خندقجي إيصاله لنا من خلال هذه الرواية " الرايات السود" " الصحراء" "القصر" ثلاث دلالات واضحة، بدأ رحلته عبر التاريخ بها من خلال أحداث متناغمة تسيطر عليها اللغة الشعرية والبلاغة اللغوية وحبكة مشوقة

ليسافر بنا عبر الزمن الى العصر العباسي واتساءل ما الذي اضافه باسم لنا في روايته التاريخية؟
هل قصد بان زماننا ما هو الا امتداد لذلك الزمن وأن تلك الحقبة لا تختلف كثيرا عن ما نعيشه الآن في ظل الرايات السود وزواج النكاح والقتل والتدمير، فتعمد الكاتب ذكر "العصر البائد" عن العصر الاموي أكثر من مرة في سياق الرواية، فهل هذا يعني أن هذا العصر ما هو الا امتداد لتلك الحقبة من الزمن أي العصر العباسي؟

وهل ما زلنا ندفع ثمن ما حققته الرايات السود بحد السيف وحز الرقاب وإراقة الدماء في سبيل المال والجاه والحكم، أسئلة كثيرة اعترتني وأنا أبحر في ثنايا هذه الرواية اختار باسم سرد روايته عن العصر العباسي، أمّا المكان فهو البلاد العربية الخاضعة لحكمه، وصحرائها بين الحرية والسبي وبين الخنوع والخضوع والتمرد والتشرد. وهي المقارنة التي أراد الكاتب إيصالها للقارئ..

هل انتصرت الخيزران للمرأة بأن أصبحت أمّ المؤمنين؟

لكن هذا الانتصار المبني على الذل والانكسار والتفريط والهوان، وتضحيتها في جسدها مقابل حريتها واعتاقها التي كانت ستحظى بكليهما لو أنها عادت مع الأنهد إلى ذويها، ولكن كيف تعود فهي لن تحظى أبدا بالجاه والحسب والنسب في كنف عائلتها؛ فالحرية لا تكفيها أبدا فكان مسك كفايتها الجاه والمكانة والسلطان، وبقيت أحلامها أكبر من كل ما حققته، ففاقت متوقعها فلم تكتفي ولم تنضب تلك الأحلام والأماني إلا حين باغتها الموت لتستعد إليه سيدة الظلال الحرة.

وعن أحلام الخيزران أتساءل هل تأثر الكاتب بالمثيلوجيا الإغريقية ليكتب أحلام الخيزران المملوئة بالجمال والشهوة؟ فكانت في احلامها اله من آلهة الإغريق المفعمة بالأساطير والخرافات.
وأخيرا نحن أمام رواية ثنائية الأسلوب في قالب تاريخي وحبكة متماسكة ولغة شعرية جميلة جمعت بين السرد المتخيل، والحدث التاريخي الفعلي، ومما لا شك فيه أن الكاتب هو قارئ نهم للتاريخ يتمتع بثقافة عالية لافتة.

وقال محمد عمر يوسف قراعين:

في هذه الرواية، لم يكتف المؤلف بتناول سيدة الظلال الحرة، بل تناول تاريخ دولة لم تستتب لها الأمور إلا بالدسائس والمؤامرات والمعارك، سآتي إليه بعد إبلاء الخيزران حقها. هل نحن أمام سيدتي الجميلة، أو My Fair Lady؟ التي أبدعها برنارد شو، من فتاة ريفية بسيطة، وأدخلها قصور المجتمع المخملي، سرعان ما كشفت نفسها بسذاجتها، في حين أن نجمتنا اتخذت المركب الصعب، كأنها تقول:

فإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام "وإذا سرقتَ فاسرق جمل" المقاء بنت عطاء بن سبأ صبية في عمر الورد، تعيش في شبوة من اليمن، حيث الخوارج الخارجون على سلطان العباسيين كما الأمويين قبلهم. يأسرها أمير الجند على أنها ترسل الطعام للعصاة، ليأخذها هدية لمولاه الخليفة. تتعرض لمحاولة اغتصاب ينقذها منه فارس شهم، هو الأنهد بن عروة بن الورد، الذي يهم بإعادتها لأهلها، ولكنها تصر على الذهاب إلى بغداد سبية تباع في سوق الجواري. يبدو أنها أصيبت بعقدة السبي، فأرادت استكمال دورها، أو بالأحرى أن المؤلف رتب ذلك في سياق الرواية، مع أن الأنهد حاول ثنيها بإطلاعها على حياة الجواري وبيعهم المذل في سوق النخاسة. لجمالها وعذريتها، ترسلها راعية الحريم بعد تفحصها في الخان إلى الري، حيث القصر الزينبدي للمهدي ابن الخليفة المنصور، وتطلق عليها اسم الخيزران، الذي علمت فيما سبق أنه من أسماء الأضداد، لأنها لم تكن بهذا القدر من الرشاقة غير المرغوبة. فالشاعر البدوي يصف الجمال هكذا:

فهي هيفاء هضيم كشحها (أي خصرها) ضخمة حيث يُشد المؤتزر تُنجب للمهدي ولي عهده الهادي، وهي جارية أم ولد، لم ينادها حتى باسمها، فلم تتقبل ابنها لأنه ابن فض، وتنجب هارون فتتقبله وتنتقل من قصر إلى آخر، من الزينبدي إلى قصر الخلد فالرصافة وعيسباد، إلى أن يبني لها المهدي قصر الخيزرانية، لأنه أحبها وأعجب بها لسداد رأيها ونصحها له. ولكنها لم تبلغ ذروة الكفاية، فهي تصبو إلى الانعتاق والتحرر، الذي تفضل عليها به المهدي، لأن ولي العهد موسى الهادي يجب أن يكون ابن حرة.

حياة القصور في بغداد حافلة بالمكائد والعزل والقتل، وهي تشارك فيها لتعزيز مكانتها، وعندما يموت المهدي عام 169 هجرية، يخلفه الهادي الذي كان بطاشا بالعلويين، متعجرفا ضيق الصدر يبيح الخمور في مجلسه. لم يعجب الخيزران تخبطه ومجونه، كما لم يعجبه انفتاح أمه على العباد وأولي الأمر، فحاول تسميمها بوليمة عامرة، مات بعدها مختنقا تحت جوار ثلاث قويات البنية سنة 170.

أخيرا أصبح ابنها الحبيب هارون الخليفة، الذي سئم من الفتنة المشتعلة بين أمه، التي تفضل حفيدها المأمون ابن الجارية الرومية مراجل، على الأمين ابن زوجته زبيدة، فآثر النأي بنفسه عن قصر خلافته، لاجئا إلى برية سلطانه، واثقا بقدرة وزيره البرمكي وأمه من ورائه، على إدارة شؤون الحكم والرعية، واثقا أيضا أن الغمامة أنى ذهبت فخراجها يعود إليه. وهنا تصل الخيزران إلى مسك الكفاية، فهي تتربع على عرش الدولة العباسية الشاهق، وكل ما واجهته وانتصرت عليه، يقبع أسفلها في هاوية انتقامها. تمضي إلى جناح الحريم في القصر بطولها الفارع، قائلة للحواري: انهضن واذهبن فأنتن حرائر.

قدم لنا المؤلف رواية متنوعة مستفيدا من وقته في الأسر، ومن الكتب والمراجع المتاحة، لتكون شاملة للأدب والتاريخ، والاجتماع والسياسة وحتى نواحي العشق والغرام، كما كان ينوع في سرده بين مسيرة الخيزران، كسبية من الكوفة للري فبغداد، ليعيدنا بين آن وآخر إلى الصحراء مع الأنهد ورقية وسيدة القبيلة، حيث يحدثونا عن سكان الصحراء، بأنهم أحرار يخدمون بعضهم بعضا ولا سيد عليهم، وعن الصعاليك وقصص من التاريخ، عن سبأ وخزاعة وزرقاء اليمامة، والحب بين توبة بن الحمير وليلى الأخيلية، والجواري ومصادرهن وأصنافهن، فأضاف لنا الكثير. وقد أحبت المقاء بهذه المناسبة فارسها الأنهد، وحافظت على ذكراه بعباءته السوداء المخبأة بصندوقها الخشبي، فقد كان رجلها الأول، ولكنها لم تكن أنثاه الأولى التي هي رقية.

في الرواية يبدو لنا الوجه غير المشرق، للعصر العباسي الأول، الذي حسبنا أنه أزهى عصور الدولة العربية الإسلامية. فهذه عاصمة الرشيد، التي بناها المنصور بسخاء، مع أنه كان يعرف بأبي الدوانيق لبخله، كما كنا نعتز بأن الخليفة الأول، أخذ لقب السفاح لأنه استعمل الشدة معذورا لضبط الأمن في دولته الجديدة، مغفلين أنه سرق الخلافة من محمد بن عبد الله بن الحسين بن علي، المشهور بالمهدي أو النفس الزكية، حيث كانت الدعوة له في أواخر عهد الأمويين، فخذله المنصور والسفاح، كما قضى المنصور على أبي مسلم الخراساني، قائد جيش العباسيين ضد مروان بن محمد، وقضى على عمه عبد الله بن علي، ثم نقض ولاية العهد لعيسى بن موسى ابن أخيه لمصلحة ابنه المهدي. تبع ذلك محاولة الهادي نقض ولاية أخيه هارون لمصلحة ابنه جعفر، ومحاولة الخيزران نقض ولاية الأمين كما مر سابقا.

كل هذه الدسائس والمؤامرات تحدث في أقل من أربعين عاما من عمر الخلافة العباسية، يقابلها الانتقال السلس في ولاية العهد في بريطانيا مثلا، خلال أكثر من خمسة قرون، خلال حكم ثلاث أسر منذ نهاية القرن الخامس عشر، حيث تداول السلطة ملوك وملكات، حسب أحقيتهم في ولاية العرش، بدون إقصاء أي منهم لتولية وريث أخر. هذا الأسلوب الذي استنه المنصور ومن بعده ظل سائدا خلال حكم العباسيين، الذي أصبح اسميا بعد المتوكل 247 هجرية، وانتقل حتى للدولة العثمانية. كما يلاحظ أن ترك أمور الدولة للوزير البرمكي من قبل الرشيد، أصبح تقليدا اتبعه الخلفاء من بعده، حتى أصبح الحكم بعد المتوكل أيضا، بيد القادة الأتراك والبويهيين والسلاجقة، الذين كانوا السلاطين في الدولة، وأصبح الخليفة العباسي صورة فقط لشرعنة الحكم، كما كان يقال:

خليفة في قفص بين وصيف وبغى يقول ما قالا له كما تقول الببغا.

وقال مهند الصباح:

" ان للسيوف وحدها الحق في العلو والسيادة "بهذه الكلمات أراد الكاتب باسم الخندقجي في روايته " مسك الكافية " أن يخبرنا عن حقبة دامية من تاريخنا العربي و الإسلامي، حقبة قال عنها بعض المؤرخين أنها العصر الذهبي للخلافة العباسيّة التي امتدت لأكثر من ثلاثة قرون. بيد أنّ السيوف لم تكن عربية فقط، فقد اعتمدت على الفُرس الناقمين على الأمويين لاستبعادهم من مراكز الحكم والسلطة وحصرها على العرب. نجح العباسيون من تجنيد سيف أبي مسلم الخراساني في اخضاع البلاد والعباد وانتزاع البيّعة عنوة لأبي العباس ومن بعده أبو جعفر المنصور الذي تخلص منه لاحقا. حقبة كان روادها لا يكترثون بإنسانية الإنسان، بل على العكس فإنّ سعيهم إلى السلطة والنفوذ قادهم إلى ممالك ركائزها جماجم العامّة وأولوا العلم.

استطاع الكاتب عمل تشريح اجتماعيّ وثقافيّ لتلك الفترة حين تحدث عن جناح الجواري في قصر المهدي والذي عج بالفارسيات والروميات والحبشيات والعربيات، حيث تعددت الثقافات في كنف الدولة، ومن جناح الجواري استطاع الكاتب أن يُقدم لنا تحليل سسيو- سياسي لما كان عليه حال الخلافة العباسيّة وهذا الحال مهدّ لحدوث ثروات سياسية لاحقا كثورة الأدارسة والفاطميين فحملت الحقبة في ثناياها بذور الفناء والأفول.

تتطرق الكاتب لحياة الصحراء ودورها في بناء الشخصية العربية من حب للحرية والكرامة والصبر والمثابرة والدفاع عن الذات من أجل البقاء، ناهيك عن التوحّد في إطار قيم تجمع الإنسانية وتمثل ذلك في قبيلة الأنهد بن الورد. قيمٌ صقلت شخصية الخيزران صاحبة الجمال وفصاحة اللسان فاستفادت منها في الوصول إلى منيتها في قصر المهدي، حملت من الصحراء رفضها للظلم والأنفة فأراحت الجواري من بطش الفارسية.

أما على صعيد تطور شخصية المقاء ولاحقا الخيزران فإن كاتبنا قدم لنا شرحا حول قدرة الإنسان على الصمود وإصراره على الحياة مما يجعله قادرا على التأقلم مع الظروف والأحوال المتغيرة، مدللا على أنّ سيكولوجية الإنسان هي واحدة في رغبته بالعيش الكريم إذا ما تجردت من شوائب المُلك والسيطرة. فكانت الخيزران تجتاز الرمال المتحركة لتتراكم لديها الخبرة والمعرفة مما يسهل عليها اجتاز المستنقع التالي وتجاوز العقبات وصولا إلى ما سعت إليه.

قدمت لنا الرواية معلومات تاريخيّة هامة – اذا صحّت مصادرها- مما جعلها قريبة للقارئ بأسلوب مشوّق وتصاعدي. إلا أنّ المبالغة في سرد تفاصيل الفراش والمخدع والخلوات الماجنة قد يؤثر سلبا على المتلقي خاصة من فئة غير العارفين في خفايا الأدب الروائي ورسائله المبطنة.
وأخيرا يمكننا القول بأنّ هذا العمل اعتمد على السياق التاريخي في النشأة والتطور ومن ثم الفناء. وكأن الكاتب عمل اسقاطا تاريخيا على واقعنا المعاش المليء بالدماء وحدّ السيف الحامي لدولة الطغاة في مشرقنا العربي، واستخدامه لمصطلحات مثل (أصحاب الرايات السود، قوم يأتون من الشرق، الاستشهاد بمراسلات أبب جعفر والنفس الزكية، وأموال آل العباس في شراء الفرس) خير دليل على هذا الاسقاط.

هي رسائل يوجهها إلينا وقد استنبطها من تاريخ بعيد علنا نبني مستقبلا ودولا ركيزتها الإنسان.
وقالت سوسن عابدين الحشيم:

رواية تاريخية تحكي سيرة فتاة يمنية من شبوة سبأ أيام الحكم العباسي للدولة الاسلامية؛ لتصبح فيما بعد زوجة الخليفة المهدي وأمّ الخليفة العباسي هارون الرشيد، فالبناء الروائي كان متينا بعناصر الرواية، الزمان فترة الحكم العباسي، والمكان الصحراء وقصور الخلافة في الكوفة وبغداد، وشخصيات الرواية الخيزران والخلفاء أبو جعفر المنصور الهادي والمهدي وهارون الرشيد، وبعض الجواري وفتاة الصحراء، والأنهد منقذها وفارسها المغوار، وهدف الرواية التحرر من العبودية، وصلت الخيزران بالنهاية الى ما كانت تصبو اليه وتهدف منذ سبيها على أيدي أمير الجند العباسي؛ ليهديها للخليفة، ولكن بالطريق يحررها أحد الصعاليك فتى الصحراء أنهد، وينقذها ويأخذها الى الصحراء ليرجعها الى أمها وأهلها، ولكنها تأبى وتصمم على الذهاب كجارية الى قصور الخلافة العباسية؛ لكي تأخذ حريتها منهم كما سبيت لهم، لجأ الكاتب الى أسلوب السرد الواقعي مستخدما اللغة العربية الفصحى؛ لتناسب لغة ذلك العصر ولغة الصحراء، نجح الكاتب باختيار الألفاظ والكلمات البدوية مثل الأثمد للكحل العربي، وبعض الكلمات التي وضع معانيها في نهاية الصفحة، لغة قاسية وأحداث درامية تناسب جو الصحراء شديد الحرارة والبرودة، كما أن الكاتب كان متميزا بسرد الوقائع بطريقة تختلف عن باقي الروائيين، حيث كان الكاتب يحكي أحداث الرواية فصلا بالصحراء وفصلا بالقصور، كأنه يذكر القارئ بكل جوانب وأبعاد الرواية، والتي تاخد مسار النقيضين، خيمة وقصر، صحراء ومدينة، فقر وغنى، عدل وظلم، حب وكره، حرية وعبودية، فصاحة وجهل، عزة ومذلة، شهامة ونذالة، نصر وهزيمة، ركز الكاتب على شخصية الرواية وبطلتها الجارية التي تصبح حرة كما حلمت بالانعتاق طيلة فصول الرواية، والتي لقبت بالخيزران لصلابتها وقسوتها كالشجرة القوية التي لا تنكسر والممتدة بظلالها الحرة، لتحمي الخلافة العباسية ضد المؤامرات، فاعطاها الكاتب لقب سيدة الظلال الحرة، كما أوضح الكاتب هذا الحلم وتحقق في صفحة 282 واكتفت بنهاية الرواية بمسك الختام لتصبح أم أمير المؤمنين وتصل الخلافة العباسية في ظلها الى أوجها وذروتها بالازدهار العلمي في ذلك الزمان، أيام حكم هارون الرشيد، بمعاونة وزيره الحكيم يحيى البرمكي، يلجأ الكاتب الى الشعر والحكمة وقصص العرب القديمة كقصة زرقاء اليمامة وقصص الأعراب الأخرى؛ لتوافق واقع الحياة هناك، كما أن الكاتب جعل روايته شجرة ممتدة جذورها منذ العهد الأموي الى يومنا هذا، قتل الأمويين للعلويين والخوارج وقتل العباسيين لبني أمية والعلويين أيضا، تماما كما نراه الآن من قتل وتدمير من أجل الجاه والسلطان، لم يتغير تاريخنا العربي متأصل بسفك الدماء، وهذا رأي الكاتب في صفحة 155، إن عماد هذه الدولة وسر عزيمتها سنة الدم وإفناء الذين يقفون في وجه سلطان بني العباس، وأيضا في صفحة 157 يقول على لسان المهدي ’ًانه العهد الذي استمديناه من حقنا في إمامة المسلمين’.... من أعطى لهم الحق في السلطان؟ ومن أعطى لهم الحق في قتل الأبرياء وسفك الدماء؟ كما أن كل خليفة يريد أن يولي عهده لابنه لا لأخيه، فيستمرالحقد والضغينة بين الأخوة، هذا هو الجانب السيء للخلافة العباسية والبذخ والترف والفجور والجواري وسبي النساء في قصورهم، لم ينته زمانهم الى الآن فنحن نعيشه الآن، وما يجري في سوريا والعراق واليمن لهو شاهد على التفرقة بين أمة الاسلام والتي توحدت في زمن الخلفاء الراشدين وانتهت بعد مقتل علي بن ابي طالب، أنهيت قراءة الرواية وأسئلة تراودني ويثيرها الكاتب لنستمد من الرواية عبرة نستفيد منها في زمننا هذا، متى ينتهي النزاع والخلاف بين الأمة العربية؟ متى تنتهي الحروب والظلم والتشريد؟ متى ينتهي سفك الدماء؟ تموت الخيزران في نهاية الرواية ويبكيها ابنها هارون ويرثيها بأبيات الشعر:

وكنا كندماني جذيمة برهة في الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا’ صفحة 338.

وقال طارق السيد:

بعد قراءة الصفحات الاولى للعمل ادركت اني امام تحفة روائية، فالرواية الجيدة يمكن تلمسها من صفحاتها الاولى..رواية ايقظ فيها تاريخا مدفونا نفض غباره وقام بتزيينه وعرضه من جديد، نعم هذا هو التاريخ هذه هي الخلافات القائمة على استعباد الناس ونظام التوريث والعطش الى الدماء من اجل السلطة والكرسي..

ابو العباس السفاح ومن بعده ابو جعفر المنصور اقاموا خلافتهم على شلال من الدماء، انتزعوا الاموين من قبورهم واحرقوا عظامهم هذا هو التاريخ يا سادة، هذا هو التاريخ لمن يحلمون بخلافة جديدة على نظام التوريث واستعباد الناس.

كان من الممكن ان تكون الخيزران جارية فقط ولكنها بحنكتها اليمنية استطاعت ان تسخر جمالها في خدمتها فهي تملك نعمة الغواية التي ابدعت في استعمالها..

لماذا هذه الرواية في هذه الايام؟ سؤال تبادر على ذهني، هل هي محض صدفة؟ ام ان الكاتب اراد ان يصنع ملائمة تاريخية على الواقع الذي نعيشه اليوم ويسقط كلماته ليصنع منها اسقاط على الواقع..

الذبح والقتل باسم الدين ما يزال مستمرا لم يتوقف يوما واحد، وفي القصور نرى الصورة الاخرى التي تعتمد على حياة البذخ والجواري، وانا اعتقد انه استمد صور من الذاكرة لقصص الف ليلة وليلة ليخرج لنا بهذه النتيجة..

اليوم نكتشف ان الف ليلة وليلة ليست جميعها مبالغات او صدف، لكنها حقيقة، فتجارة العبيد والرق والجواري واليالي الحمراء التي كانت تشتعل بالقصور كانت حقيقية..
بالعودة الى الخيزران التي اسرت قلب مولاها واستطاعت ان تنفذ في السلطة والحكم في دولة قوية تركيبتها الاجتماعية خليط من العرب والعجم، الرواية ليست للمتعة فقط بل فيها رسائل واضحة ومباشرة تتحدث فيها عن التكالب على السلطة باسم الدين بشكل ظاهر ولكن ما خفي كان اعظم، اراد الكاتب ان يوقظ الموتى ليعظ الاحياء..ليتعلموا من تاريخ غابر..لان من لا يتعلم من اخطاءه لن ينجح ابدا..

الرواية كتبت باسلوب احترافي قلما نشهده على مستوى الساحة الفلسطينية..استعمل ادواته بمهارة من خلال اساليب فنية مثل تقطيع المشاهد بزاوية الفلاش باك..واعتمد على تركيب الرواية بطريقة تجعل من العمل تحفة مشوقة، كما انه ادخل الادب والشعر من خلال شعر المتصعلك عروة بن الورد، وادخلنا ايضا الى لسان الصحراء وخرافاتها..

مزج باسم بين الفنتازيا من خلال مشاهد العرافة والحقيقة من خلال احداث تاريخية ورسائل موثقة كما راينا الرسائل بين ابي جعفر والنفس الذكية...

لقد نسى الفريقان ان الاسلام كان للناس كافة ولم يكن فقط لال قريش وبني امية ومن تشيع لهم.

استعمال الكاتب للحبكات المتتالية وتوقفه في كل فصل عند الذروة ليصحب القارئ الى المزيد من التشويق ويلتهم الرواية اكثر واكثر..

استعمال الكلمات ايضا بلغة شعرية عذبة بالاضافة الى جهد واضح من خلال الكاتب في انتقاء الكلمات والتصنع بها ولست اعلم ان كانت تحسب له ام عليه..

مسك الكفاية...ليست فلسطينية..بل رواية عالمية تستحق ان تضم الى رفوف الروايات العالمية وباعتقادي ان باسم فاجأ الجميع بهذا النوع من الادب.

وكتب ابراهيم جوهر:

باسم خندقجي يكتب روايتين في واحدة (رواية مسك الكفاية)- سيرة سيدة الظلال الحرة تكتب الواقع بنصّ التاريخ تأخذني سيدة الظلال إلى ظلال الأسئلة، والتاريخ فأسأل:

لماذا كان تاريخنا دمويا على هذه الصورة من الدم والعداء والأنانية؟

ولماذا انتقى (باسم) صفحات سوداء من ذاك التاريخ وهو في الأسر بسبب الواقع المعاش!!!
حين يتعمق الإنسان في المعرفة باحثا عن تفسير لما هو قائم يبدع، وإبداعه يأتي صادما لما توارثناه.

ماذا ستضيف (سيرة سيدة الظلال) إلى الرواية العربية؟

ليست هذه المرة الأولى التي يكتب التاريخ فيها على شكل رواية، ولا المزاوجة بين التاريخ والواقع الكائن، فما الذي تضيفه رواية الأسير (باسم الخندقجي) هنا؟

يكتب الروائي روايته هذه وعينه على الواقع؛ يريد أن يرى الواقع بعين التاريخ وأن يجد أصلا في التاريخ لما هو حادث طارئ قائم في عين الواقع. من هنا لجأ الكاتب إلى سيرة (الخيزران) التي كان اسمها (المقّاء) وقد سبيت على حين غفلة وبراءة لتجد رعاية وحماية من فارس شهم أبيّ يحميها وينقذ كرامتها اسمه (الأنهد بن الورد) وهو ينتسب دما وخلقا إلى الصعاليك، فتكون هذه السبيّة والدة خليفة المسلمين هارون الرشيد بسبب من إرادتها وإصرارها على أن تتميّز وتحقق هدفها البعيد.

و(الأنهد) هذا هو الرمز الذي أوجده الكاتب ليشير إلى الحل لكل من يسأل: ما الحل؟ وما البديل؟
إنه الشهامة والعدل والشجاعة وأخلاق الفارس الأصيل غير المزوّر في زمن ضاعت فيه قيم الوفاء والشهامة والمروءة.

الكاتب باسم خندقجي في (مسك الكفاية) يكتب روايتين؛ إحداهما متخيّلة تضع الحلول وتومئ إليها، والثانية تاريخية اعتمد في كتابتها على عدد من المراجع. لذا وجدناه يتناص دينيا وتاريخيا وأدبيا في كثير من أحداث الرواية ولغتها وشخصياتها.

هل قرأ (باسم الخندقجي) ألف ليلة وليلة؟

سحر الشرق ولهوه وعبثه وجواريه وشذوذه المكبوت يجد له مكانا في (مسك الكفاية) التي استندت للتاريخ العربي في العصر العباسي لتفسّر- حالنا. يبدو الكاتب متأثرا بأسلوب (ألف ليلة وليلة) في تسيير أحداثه وحواره ولغته الوصفية والسردية، كما يظهر تأثره بقراءاته في أدب تلك الفترة التي احتوت أحداثه الروائية، ويبدو أن تاريخنا المسكوت عن أهمّ جوانبه سوداوية قد ابتدأ من هناك بقسوة وعبث وإن كان امتدادا لصراع القبائل والأنانية من قبل.

وتطفو رموز على سطح الرواية وفي لحمها، وهي تستدعي التوقف عندها للوقوف على ما أراده الكاتب، وللتعمق أكثر في ظلال الرواية التي حملت عنوانا فرعيا هو (سيرة سيدة الظلال) إذ يجد القارئ أن (الظلال) تحمل أكثر من دلالة واحدة وحيدة، فإن كانت الظلال لغويا قد جاءت من بيارق العباسيين كما يظهر في تعريفه لها في الصفحة 35 (راية الظل التي توحي مؤكدة في خفقانها أن الدولة العباسية ودعوتها السامية ستبقى بقاء الظل على الأرض...)، وقد جاء (الظل) و(الظلال) حسب السياق الروائي ليوحي بمن يحكم تارة، وبمن يعاني تارة أخرى، وبمن يقيم على هامش الحياة في الصحراء تارة ثالثة.

لقد تكررت (الصحراء) لفظا ومكانا تكرارا لافتا فأضحت ثيمة يبني عليها الكاتب فكرته المركزية في عمله هذا. وقد جاءت الصحراء هنا فكرة ومعنى وتاريخا فيها الملجأ من الظلم، ومنها ينطلق العدل، والظلم، والاحتراب والاقتتال.

والكاتب يضع الصحراء في تواز حاد مع المدينة، فالمدينة رمز للدم والمؤامرة والأنانية واللهو والعبث والفساد والمؤامرات، في حين تقف الصحراء على النقيض منها. من هنا لم تنجح (الخيزران) في الدخول إلى المدن التي تمنّت زيارتها وظلت تقف على تخومها ولم يتحقق حلمها للانغماس في نعيم المدينة والتعرف عليها.

تبقى رموز أخرى تلفت الانتباه ويجب فكّها...فحين يتوقف الكاتب عند (نجمة الصباح) بألقها وإيحاءاتها، وحين يشير إلى الصعاليك وابن الورد، وكذا (الخراب) الذي أصاب اليمن السعيد، ومثله لفظ (الخيزران) الذي صار وصفا لسياسة فإنه يمسك بيد القارئ ليعمل التفكير في ما وراء الحدث والموقف والكلمة. وهي رموز ذات دلالة واضحة في السياق الروائي والفني الذي يمزج الواقع بالتاريخ وكليهما بالمتخيل.

جاءت (المرأة) في سيرة سيدة الظلال بأكثر من نموذج واحد؛ فهنا (الخيزران- المقّاء) نفسها صاحبة السيرة، وهناك الجواري، والجدّة الحكيمة، والمسؤولات عن الجواري بقسوتهن وشذوذهن، وزوجة هارون الرشيد المراوغة، ووالدة الخيزران الغامضة التي تشير إلى التربية بالغموض والإخفاء، فهي لم تعلم ابنتها بالمخاطر المتربصة خارج حدود بيئتها المحصورة.
ويلاحظ الاستطراد والتفصيل في أسلوب سرد الكاتب ووصفه وتوقفه عند دقائق قد لا تخدم سير الرواية في بعض المواقف، وهذا عائد –كما أرى- إلى ما اكتسبه الكاتب من بيئة الأسر التي يحيى فيها، إذ اكتسب هذا الاستطراد من آلية التغلب على قسوة الزمن والواقع المحاصر. من هنا تعكس الرواية بأسلوبها جانبا من (النفسية) التي يجابه بها الأسير واقع أسره.

صدرت الرواية (مسك الختام – سيرة سيدة الظلال) عن الدار العربية للعلوم- ناشرون في طبعتها الأولى سنة 2014م. في 338 صفحة من الحجم.

وكتب عبدالله دعيس:

هل يمكن صناعة الحريّة من بين أغلال العبوديّة؟ وهل الذي بين العبوديّة والحريّة شعرة دقيقة يتأرجح عليها النجاح والفشل؟ يطلّ علينا الكاتب باسم خندقجي من وراء القضبان؛ ليقودنا في رحلة تاريخيّة بين العبوديّة والحريّة، والنجاح والفشل، والحقّ الذي يُفرض بحدّ السيف ولغة القوة، والباطل الذي يكتب بنوده المنتصر، يُوهم به من هوت بهم رياح الهزيمة.

يسطّر الكاتب صفحة أخرى من تاريخنا، ويقصّ حكاية تحكمها الرغبات والشهوات تماما كما البطولة والفروسيّة. فمن صهوات خيول العباسيين التي كانت تخضع أطراف الدولة الشاسعة لسلطانها، إلى أسرّة الهوى في أحضان الجواري. حكاية تضع أيدينا على أحداث تاريخية تضيء بعض جوانب الحقيقة، في أسلوب روائي ممتع، يحمل القارئ على أجنحة الخيال، ليعيش في بدايات العصر العباسيّ، حيث سطوة السيف توطّد أركان الدولة الفتيّة. وتشير أيضا إلى بداية أفول شمس العرب وهم في أوج قوّتهم، بتأثير الجواري اللاتي حُملن من أقطاب الأرض لينجبن الخلفاء بعد لحظات شهوة عارمة غمرت الأمراء العائدين من غبار المعارك إلى أحضان النساء.

شقّت الخيزران - زوجة الخليفة المهدي وأم الرشيد - طريقها خلال هذه المنظومة، التي أحاطت بها الجواري من شعوب الأرض المختلفة؛ لتصبح وهي العربية ابنة سبأ، سيدة القصور وأم الخلفاء. وقد مهّدت لهم الطريق، بذكائها وحيلتها وفتنتها، ليقودوا العالم ويضعوا بصمة (المقاء بنت عطاء بن سبأ) تلك السبيّة الساذجة الضعيفة على تاريخ البشرية.

نعيش في هذه الرواية حياة حواضر العالم الإسلامي في القرن الهجري الثاني وكذلك حياة البادية التي تميّزت بإباء أهلها وتمرّدهم على القيود، وتوقهم إلى الانعتاق، وتحمّلهم جميع الظروف الشاقة، بينما كان البعض يرفل في قيود العبوديّة، في الحواضر، يستعذبونها ويؤثرون حياة الدعة في القصور على تنفّس نسيم الحريّة.

استخدم الكاتب حيلة فنية رائعة، تمثلت بالمزاوجة بين سيرة الخيزران قبل الأسر ورحلتها نحو العبوديّة، وسيرتها في قصر الأمير والخليفة ورحلتها نحو المجد وتثبيت أركان الملك لأبنائها. فالقارئ يبدأ بطفولة الخيزران وهي تقصّ حكاية أسرها في الفصل الأوّل، لينتقل إلى حياتها في القصر بلسان راوٍ عليم في الفصل الثاني، ليعود في الفصل الثالث لعيش معها في الصحراء وهي تتعلم الفصاحة وتكتشف أسرار الصحراء وحكمتها، ثمّ ليذهب في الفصل الرابع إلى القصر وهي توظّف فصاحتها وحكمتها التي اكتسبتها في الصحراء لتحقيق غايتها. وهكذا يبقى القارئ يراوح بين حكايتين تكتملان في نهاية الروايتة لتخلقا رواية واحدة مشوّقة متينة البنيان.

كان هذا التزاوج في محلّة؛ فقد خدم الفكرة التي أرادها الكاتب: فالرواية هي حكاية العبوديّة كذلك فهي حكاية الانعتاق من العبوديّة. في الرواية المرأة القويّة القادرة على صناعة التاريخ، وفيها أيضا المرأة الضعيفة التي تستسلم لقدرها وترضى أن تكون سلعة رخيصة وأداة للمتعة. في الرواية الأمير القوي الذي يُخضع الأعداء، والضعيف الذي ينحني أمام موجات الشهوة وأقدام الحريم. وفي الرواية الأم التي تسوق أبناءها نحو المجد، ولكنها لا تتردّد حتّى أن تسلبهم حياتهم إذا ما وقفوا عقبة في طريقها. وفيها صورة مشرقة لعظمة الخلافة العباسيّة وقوتها وعدلها، وكذلك صورة الضعف والظلم والتسلّط. هذه الأفكار المتناقضة توزّعت بين أبواب الرواية المتقابلة لتخلق جوا مفعما بالتناقض يخدم النصّ بصورة فذّة.

هذه الرواية التاريخيّة، وإن كانت تعطي صورة عن الحياة في صدر العصر العباسيّ، إلا أنّها لا تبرز جميع الجوانب وتغفل عن كثير ممّا تميّز به هذا العصر من العلم والازدهار. يدخل الكاتب إلى قصور الأمراء والخلفاء ويتخيّل الكثير من الأمور التي كانت تحدث خلف الجدران المغلقة، وينقل العديد من النصوص من كتب تاريخية وأدبية مختلفة، قد لا تعطي الحقيقة، فهذه الكتب ألّفت لأهداف مختلفة ولكتّاب لهم مشاربهم ومآربهم الخاصة. فكما يكتب المنتصر التاريخ، فإن المغلوب قد يبالغ في تشويه صورة المنتصر.

ينجز الكاتب، باسم خندقجي، هذا العمل من خلف القضبان، بلغة جميلة جزلة وأدب رفيع مؤثّر، ليقول لنا أن الحريّة لا يمكن أن تحدّها القضبان وأنّها قد تخرج من رحم الأسر، تماما كما خرجت الخيزران من رحم العبوديّة لتكون نموذجا للمرأة القوية الحرّة.

وكتبت نزهة الرملاوي:

من خلف قضبان السجن وظلمته...يخرج نور حرية يحلم به سجين، أضاء عصرا نام في كتب التاريخ والذاكرة، وأحيا في روحنا قوة تواجه المشكلات والعبودية، نعم إنها رواية عميقة المعاني ذات أبعاد تاريخية ودينية وسياسية وإجتماعية، أضف إلى ذلك أبعادها الإنسانية الصادقة أثناء الطرح.

لقد نجح الكاتب في روايته، أن يصور الأحداث التاريخية بطريقة درامية مؤثرة، أخذتنا إلى عصر ذهبي من تاريخنا، واسوقفتنا على مشارف ديمومتها الغارقة في بسط السيادة والولاء لمن يعتبرون أنفسهم حماة للدين ويحكمون باسم الدين، ونلمس أن أيديهم لطخت بدماء المعارضين، ووجدنا بها تحولات ومفارقات كبيرة غيرت مجرى الحياة لأشخاص عاشوا البداوة والخوف وخرجوا من الصحراء يتعلمون اغتنام الفرص بحكمة وفطنة، ليسودوا العالم الحاكم بكل ثقة كالخيزران.
من جماليات الرواية أنها من الفصل الأول حتى نهاية الفصل الثالث كانت تروى بلسان الخيزران، وشدنا الكاتب بجمال سرده وأسلوبه إلى رقيق كلماتها وخوفها وحنينها وبكائها، فلقد عشنا من خلال روعة السرد أجمل تفاصيل البعد عن الأم والأهل حينما أخذت الخيزران سبية من قبل امير الجند.

أبدع الكاتب في تصويره وتخيلاته للأحداث،فلقد أخذتنا تفاصيل جميلة ما بين السبي والإنتقال إلى الصحراء ثم إلى قصر الخلافة دون ملل، وفي معظم مواقف التعرف على الخيزران، كانت تذكرنا في جمالها وقوامها ومشيتها، واتخذت من ذلك سبيلا إلى إغواء المهدي نفسه، ولن تقبل بأقل منه رتبة، وفي نفس الوقت كانت تعتز بأنها عربية حرة فلقد علمتها رقية الاعتزاز بتلك الصفة، وغرست في نفسها الشموخ والاستعلاء كنجمة.

وشعرنا أن الخيزران تأثرت بجدة رقية الصحراوية في الفصل الخامس حين همست لها بأنها قمر يحتجب بالسواد ويعم بالنور وأن لها عظمة وقدر من الزمان، فقد ألبستها سبحة كان لها تأثير نفسي على قوة شخصيتها وجمالها.

أدخلنا الكاتب إلى عمق الصحراء وأهلها، ونخوة العربي وشهامته، وتمرد المعارضين وإخضاعهم بحد السيف، وقد أسهب بذلك وكرره في عدة مواقف.

الرواية ذات دلالات عميقة وأبعاد متعددة...والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الكاتب كون من شخصية الخيزران التي أرادت المجد والسيادة والحلم في الحرية رمزا للقوة والحرية؟ هل جرأة الخيزران في قتل من وقفوا في طريق سيادتها حتى ابنها الذي قتلته يبدو متوافقا مع ما تريده فلسطين من تحرير لذاتها؟ بمعنى آخر هل القتل والسبي ستارا يخفي وراءه الكاتب تحقيق الأحلام والسيادة وبسط النفوذ والاحتفاظ بكرسي الحكم؟ هل حقا نحن في زمن شبيه بذلك الزمن؟

هل كانت الرمزية طاغية على رواية باسم الخندقجي؟ أم كانت واضحة المعالم وأدت الشخصيات التاريخية دورها بكل صدق من قبل الكاتب الذي أتحفنا بروايته الغنية بعنصر المفاجأة؟

امتازت الرواية بالتشبيهات وإضفاء الشاعرية في استخدام الجمل، اتسمت بالترتيب الزمني للتاريخ، وتخلل سردها الآيات القرآنية والأبيات الشعرية والحكم، وأجاد وصف الشخوص والأماكن، فعندما وصف الصحراء جاء بمفردات الرمال والسماء والنجوم والحر والقيظ والتعرق والبداوة، وعندما وصف القصور والجواري وصف أجسادهن وانحطاطهن، كوصف راعية الحريم الفارسية وما تفعله للسبايا حين تذهب لشراءهن من خان الجواري، فهن من شتى الأجناس، حرائر بلادهن، سبايا السلطة، وأن ما كانت ترويه الجواري بعد ليالي السمر مع المهدي وغيره، كذبته خلوب حينما أخبرت الخيزران بأنهن يكايدن بعضهن البعض فهن يختلقن هذه القصص من باب الأماني، وأن مجلس المهدي لا يمت لها بأي صلة، فهل يعتبر ذلك دليل على تشويه ذلك العصر حدثنا الراوي بما كان في عصر ليس بالبعيد عن عهد النبي صلوات الله عليه، فهل اختلط خيال الكاتب بالحقائق؟ هل تلك الوقائع الإباحية والدسائس السياسية استوحاها الكاتب من مصادر ومراجع تاريخية موثوق بها؟ أم كان للوراق والنساخ ميل لبعض الحكام أو المعارضين، فيزهرون الصحراء، ويقحلون الجنات؟

هل الوقائع التي ترجمت كانت مناسبة لشخصية الخيزران والعصر العباسي؟

أم زاد الكاتب من وهجها وتفنن في تزيينها وفق ما رآه مناسبا لإثراء النصوص بين يديه؟

تحولات جذرية في حياة الخيزران، عاشت في كنف أهلها حرة، ثم تحول مسار حياتها كسبية في صحراء أدت إلى تحول في شخصيتها، حيث اكتسبت من الصحراء الفصاحة والتعلم، وأخذت منها شحنات الأمل والقوة، فلم ترغب بالعودة إلى أهلها ليقال أنها كانت سبية يوما فيحط من قدرها، لذا آثرت التمسك بحلمها، ثم جارية في قصر الخليفة، وبعد خمس عشرة عاما من العيش في قصر الجواري، قرر المهدي اتخاذها زوجة له، وليست ملك يمين أو جارية، ليكون ابنها الهادي البعيد عنها وعن إرشاداتها وليا للعهد، حولت الخلافة لابنها هارون الرشيد فأرجعت لنفسها السيادة والقوة، حولت قصرها للمساكين وأصحاب المظالم، حتى أعتقت الجواري فأصبحن حرائر.

امتازت الرواية بعنصر التشويق في سرد الأحداث، وعنصر التجديد حينما اتخذ من العصر العباسي وبعض شخصياته منطلقا أدبيا يقدمه كرواية.

أخفق الكاتب في روايته حينما أطفأ نور عصر عباسي ذهبي مزدهر متحضر، أنار الشرق بعلمه واقتصاده، والغرب نائم في ظلماته، يتفشى فيه التخلف والاستبداد من قبل الكنيسة وهيمنتها على العلماء والكتاب واتهامهم بالسحر والجنون، في الوقت الذي كان به الشعراء والخطباء والعلماء ينعمون بعطايا الخلفاء ويحثهم ديننا الحنيف على التعلم والمعرفة.

بالقدر الذي تمتعت به أثناء قراءة الرواية، إلا أنني أحسست بظلم الإنسان وتسلطه وعبوديته تجاه الآخر، فأي زمن ستسود به الحياة الكريمة والعدل والمساواه؟.

كتبت رشا السرميطي:

رواية غريبة تربط قيدا وتفك الآخر عن ذات المرأة من أغرب الروايات التي قرأتها هذا العام، إذ تصنف ضمن باب الرواية العربية التاريخية التي انتشرت كتابتها في أواخر القرن العشرين، وكان من أشهر كتابها: جورجي زيدان، سليم البستاني، أمين معلوف، نجيب محفوظ وغيرهم...

وها هو باسم خندقجي ينشر روايته التاريخية محاولا وصف تاريخ الدولة العباسية من حيث: مجالس الحكم، أحوال الرعية، الجواري، مجالس السمر، الحروب، وغيرها، كاشفا بذلك الستار عن تلك الرايات السوداء التي كان لها عزها قديما، وكيف يبلغ الحكم بالدّم والجواري، معريا الشخصيات التاريخية الحقيقية إبان الصراعات على الخلافة والإمارة آنذاك، ممازجا ذلك كله بأحداث ماتعة ملأت أركانها شخصيات خيالية رسمها من وحي حبر القلم، وأخرى وهمية ذات ضرب من الشعوذة والضلال وما وراء المجهول، مرتكزا على شخصيته الأولى " المرأة" التي أسماها المقاء.

في بداية روايته يشير باسم لقرائه بأنّ ما كتبه ضرب من جنون وذهول وحزن ص(55)، وفي واقع ما قرأته وجدت هذه الثلاثة قد تعاركت أمام قلم كاتب مثقف، محلل، ولديه اطلاع عميق، اتضح ذلك من اللغة الرشيقة المستخدمة في بناء نص الرواية، والصور البلاغية الأنيقة في رصانة بنائها، كما أبيات الشعر التي دمجها بين أسطر روايته لتزيدها ألقا وجمالا فتبدو أبهى بفصاحة نظمها.
أخذ باسم بنظريات الفيزياء الحديثة عندما كتب " مسك الكفاية" حيث سافر نحو الماضي وتقمص أدوار عهود سابقة بشخصيات مختلفة ومتنوعة كانت البطولة فيها لامرأة تدعى " المقاء " أو " الخيزران"، وما هذه المحاولة إلا سفر عبر الزّمن، كانت ذات أبعاد فلسفية عميقة، وقدرة على التحليل والربط بذكاء. ولعل السؤال الملح على ذهني كقارئة:

لم سافر باسم إلى الدولة العباسية الآن ورجع بقرائه لمئات العقود الماضية؟

ربما كان سوء الحال الذي خيم على أرجاء الوطن العربي، وما حل بالعراق ولبنان واليمن وفلسطين وسوريا وما سيحل في بقية مشارق العرب، هو السبب الذي دفعه للرجوع للوراء كي يفهم ما يجري الآن، وليجد ضالته عن مذلة أهل العز من الأمة الاسلامية تحديدا. وعلى الطرف الآخر أراد باسم أن يتعلم ويعلم قراءه تاريخ الدولة العباسية من هذه الرحلة البحثية التي تكبد مشاقها لتخرج لنا روايته " مسك الكفاية" فتكسر أغلال الأسر، وتهدم الحواجز العسكرية التي تحجب جسده عن النور، لتحلق بنا كلماته هادرة بالمعنى الحقيقي للحرية. الحرية التي لن يفهم معناها إلا من فقدها، ولا يعرف القارئ البتة كيف استطاع باسم اخراج هذه الرواية، وأي ظروف صعبة مرت بهما الكلمات لتخرج من مخاض العتمة لنجومية النجاح الباهر، الذي يسجل لصالحه كروائي فلسطيني، مما يغفر له أيضا زلاته في تنسيق الرواية من النواحي الإملائية والنحوية وكذا اللغوية ببعض المواطن.

أيكون باسم قد حاول من خلال هذه الرواية جعل الفن الروائي خادما للتاريخ وغايته في ذلك تثقيف وتعليم قارئه على غرار أقرانه ممن سبقوه في كتابة الرواية التاريخية؟

نعم هذا ما وجدته خلال مروري على صفحات الرواية حيث وجدتني أمام مسلسل ذي حلقات مشوقة، قسمها باسم إلى فصول، ويمكن اختزالها أيضًا لتكون مسرحية بمشاهد واضحة المعالم، تبدأ بالمقاء لتنتهي بأميرة المؤمنين ووليها هارون الرشيد.

ترى ما فائدة الرواية إذا لم تضف جديدا للتاريخ؟

أعتقد أنّ طرح التاريخ من خلال رواية يجعله سهلا، ويقرب الصورة لقرائه، ويعطي مجالا للنقد والتحكيم، لفهم الماضي وأخذ العبرة، كما امتلاك الحاضر والمستقبل. لقد توخى الخندقجي جهدا في أن تكون الرواية حاكمة على التاريخ لا هو حاكم عليها، وقد أتى بحوادثه تشويقا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها، لكنه دمج فيها قصصا غرامية، وحوارات دافئة، تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، مما جعل الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ.

ما هدف الروائي باسم خندقجي من روايته؟

إن رواية مسك الكفاية ما هي إلا محاولة للبحث عن الذات القومية القوية المنتصرة فترة سطوع فتوحات الدولة العباسية، والبحث عن دواء شاف للمحن التي تتعرض لها الأمة العربية الاسلامية في وقتنا الحاضر، ربما لأجل الحلم والخيال على واقع التمني بالانتصار خلال فترات الانهزام، من خلال تجسيد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضي على الحاضر وتفسيره. هدف الرواية الرئيسي هو التثقيف وتعليم التاريخ، بالإضافة إلى التوجيه والإرشاد، وهذا الباب من الأدب يعد أكثر أنواع الرواية رقيا، فهو يسمو بموضوعاته لتحقيق أهداف ذات أهمية بالغة، إذ يسعى الكاتب من خلال روايته التاريخية لإحياء وبعث ماض تليد لقراءة الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، بحيث يصبح التاريخ هو المجتمع، وبهذا أراد باسم خندقجي أن يسمو بالرواية إلى قمة الفلسفة، بإعطاء الصورة الكاملة عن الحكم العباسي.

هل اكتملت العناصر الفنية في رواية مسك الكفاية التاريخية؟

أتقن باسم خندقجي سرده القصصي كأدب نثري لقصصه عن المقاء وما دارت بأحداث في حياتها، بحيث انتقلت بها من فتاة عادية من "شبوة" التي لجأ إليها والدها الأموي المهزوم وقد غادرها مبكرًا لتتربى في كنف أمها الخائفة عليها من جمالها، ولم تعلم عقلها كيف تحافظ على هذا الجمال وتحتفظ به، لتسقط سبية بيد أمير الجند فينقذها الأعرابي المقنع "الأنهد" ويسترها بعباءته، ليفاجئ القراء بعزوفها عن العودة لوالدتها، رغم إتاحة ذلك بعد قضاء أوقات في الصحراء تعلمت بها البلاغة والفصاحة من خليلتها رقية، فانساقت وراء شعوذة تلك العجوز ذات العيون الزرقاء، التي عششت في رأسها فكرة المستقبل الآخر الذي ينتظرها، فهي ظل بلقيس، حتى انغمست بمجاهل لم تكن على دراية بما فيها من حزن وفرح تعلقت بحبالهما، وتأرجحت على جسد أمير المؤمنين لينتهي بها المطاف وأسرتها في قصور السلاطين، لديها هارون الرشيد بعد أن فقدت زوجها وولديها موسى والبانوقة، وأسرتها التي تشعر بغربة جسدها بينهم.

المكان والزمان واضحين عند الخندقجي وقد امتلك الكاتب لغة وصف تصويرية بالغة الترتيب والجمال فتغنى بالصحراء وبالقصور، وبالجبال، وبفصاحة اللغة والشعر، بل بكل ما تشتهي مآقيه في زنزانته المعتمة التي أضاءها لنفسه ولقرائه بنجوم الكلمات في أفلاك معانيه، ليجسد من جديد المعنى الحقيقي للحرية في " تخيل " الأشياء، وبنائها كما يريد، لا كما أراد سلطات الاحتلال من دفن زهرة شبابه، بدأ من المرأة لسلط الضوء على وهنها عندما تكون جاهلة، فارغة، وانتهى بعقل المرأة وبراعتها في استخدام ذكائها وحيلتها، إلى جانب الجسد والفتنة، ورغم مبالغته بالأخير إلا أن ذلك واقعا لا يمكننا انكاره خاصة في مجال الحكم والسلطة عند العرب وغيرهم.

الشخصيات كانت ملك كاتبها، أمسكها ببراعة فنان دمى الأصابع وحركها بمهارة على مسرحه الورقي، في كثير من الفصول وجدت اللغة التصويرية في بناء المشاهد، لأرى القصر وتفاصيله، الجاريات وزينتهن. لكنه لم يتطرق للحروب ونقل أحداثها وما سطع في فترة حكم العباسيين، واكتفى بنصر وهزيمة وتقسيم لولائم الحكم، ومرد ذلك رغبته في رؤية ظل لم يرى من غيره، بعيون تلك المرأة سيد الظلال الحرة التي لم أرها حرة، بل وجدتها مغامرة ومشاكسة لعبت بأقدارها، في زمن المتخيل والمتمنى من قصص الجدات وروحانيات زمن ألف ليلة وليلة، إذ اعتمدت على جمالها وذكائها لتغادر عالم الجواري الذي اختارته بنفسها، فتبلغ منصب أميرة المؤمنين بحيل أنثوية.

الحوار بين شخصياته كان محكما ففرق بين لغة الأمير، الصحراوي، الجارية، وبدا اختلاف لسان شخصياته رغم أنَّ كاتبها ذات القلم. كما نادت روايته بمفاهيم: العدل، الإنسانية، المحبة، تقوى الله، وعلى النقيض نهت عن الرذائل والخمر والنساء والتسلط بما يغضب الله ويحل لعنة ذلك على الدم بين الأخوة.

الفكرة كانت واضحة: التاريخ العباسي بين النصر وأسباب الهزيمة. الرواية كانت زاخرة بالمعلومات والحقائق وكذا المعارف المثقفة لقارئها، كانت ثرية جدًا.

الخيال وأساليب اللغة، بدا ممتعًا للقارئ تلك الأحداث الروحانية والتنبؤ بالشعوذة، لاستقراء المستقبل، وعالم الأحلام المتخيل وما يحمله من رسائل للخيزرانة.

مما أعجبني فقطفتِ من بستان الكاتب: " إن الصحراء امرأة شاسعة.. مرهفة مليئة بالغموض والمفاجآت"، " طرية العود لأنكسر في لحظات، جاهلة وضعيفة نكرة مثقلة بأسئلة ضخمة تحاصرني، تهجم علي، تصرعني بالجهل والضعف والسبي، لو أنَّ أمي أنارت لي درب المعرفة، لو أنها أرضعتني الجرأة مع حليب الحياشة في بيت مات صاحبه"، " أنا ما سأكون.. ما سأحلم"، " الخيمة سيدة الرحيل"، " مضى إلى جوفها بقبر من حزن وطين"، " الخوف أول العشق"، " ثمة عرب بائدة، وعرب مستعربة، وعرب عاربة، أنا ابنة العرب الهاربة، ابنة العرب الجارية"، " سيدة الظلال المرتعشة"، " أكتشف هشاشتي وبأنني آنية خزف رغم جمالها الأخاذ، إلا أنها بهزة خفيفة تتهشم في هاوية الدم.

وكتبت نسب أديب حسين:

تحملنا هذا الرواية الصادرة عام 2014 إلى القرن الثاني الهجري، إلى العصر العباسي تحديدا، من أواخر حكم الخليفة الثاني المنصور وحتى عهد الخليفة الخامس

رنا القنبر

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى