الجمعة ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة.
بقلم حسن برطال

مــــاســــح الأدمــغــة

لمح بنصف عينيه طيفا لشخص ما يتحرك خلفه..أدرك خطورة الموقف فانقض كالنسر على صندوقه
بيده اليسرى متكئا على اليمنى لينطلق كالسهم...لم يكن هناك أحد خلفه..سوى صورته التي كانت تقلد
حركاته داخل الواجهة الزجاجية للمحل التجاري الفخم الذي كان يجلس بالقرب منه..توقف..يلهث...

تأكد من خلو المكان و عدم المطاردة فعاد الهدوء إلى أطرافه..مسح طول الرصيف و جنبات الشارع
بعينيه..لم يجد زبونه..ضرب الكف على الكف متحسرا على العشرة دراهم التي ضاعت منه قائلا:

 الله يلعن هذا الزمان..لقد أصبحنا نخاف من خيالنا..
 أتـمـسح الـدمــاغ..أم الـحـذاء..؟؟
هذه هي العبارة التي يرددها موحا كلما وقف أحدهم أمامه يطلب تلميع حدائه..إنها لغة التواصل بينه
و بين زبنائه..منهم من يتجاوب بسرعة فيجيبه:
 الله يعفو..
فينكب موحا على تلميع الحذاء و هذا هو الزبون الذي ينعته ب ( القافز )1
على عكس ذلك الذي تختلط عليه المعاني و الرموز فيضل شاردا..

يدخل يده في جيبه..يخرجها بسرعة..يضع شيئا في يد زبونه خفية, يتناول عشرة دراهم..يمضي الزبون إلى حال سبيله ضاربا موعدا محددا..فيحرك موحا رأسه مشيرا بالقبول..مبتسما..مرددا:
 ســيــرور...ســيــرور...(2 )

يقف أمام الواجهة الزجاجية للمحل التجاري حيت وضعت أحذية براقة..رائعة..صففت بأثقان على أشكال
هندسية خلف زجاج خالص..تحت أشعة ملونة تزيدها رونقا و جمالا..يلبسها خياله..يمضي معها في رحلة
مشي طويلة..

ماذا تقول تلك الأرقام..التي وضعت قرب الأحذية..؟؟
كانت مومس بجلباب تمسك طفلا حافي القدمين بيد..و باليد الأخرى قفة فارغة..تتظاهر بالرغبة في شراء شيء ما..تقف أمام المحل..تشرع في أعمالها التحضيرية لاقتناص الضحية..لكن صراخ الصبي و هو يشير إلى أحد الأحذية المعروضة يربكها..فتصرخ في وجهه:
 بزاف عليك يا ابن الحرام...ثم تمضي غاضبة..

حشود المارة خطوط من النمل..منهم الغادي و منهم الرايح..همس.. لغط...قهقهات..عدد لا يحصى كأرقام تلك المعروضات و التي لازال سرها يحير موحا..فيزيل حذائه من رجله يقرأ عليه رقم 41
فلم يفهم معنى رقم 499
الذي وضع قرب الحذاء...و الذي هو بحجم حذائه..
تهمس شقراء بزي أوروبي في أذن خطيبها:
 حذاء جميل...يستاهل..موحا لم يفهم من الكلام شيئا..
يخرج صاحب المحل, يرحب بالزبونة و خطيبها..يأمر موحا بالابتعاد والا سيحمل سماعة الهاتف
موحا يستسمح..يتوسل..ينحني في إجلال, ثم ينصرف داعيا:
— الله يجيب التيسير أسي الحاج...

كانت مراسيم البيع و الشراء بين الشقراء و خطيبها من جهة..و صاحب المحل من جهة أخرى
ترسم اشراقة على وجه المومس التي توجد الآن على الواجهة الأخرى من الرصيف و كأنها
تقول لنفسها إن حرفتها لا تزال بخير..مادام الرجل بامكانه تأدية هذا المبلغ مقابل حذاء..
لكن سرعان ما تلتقط أدنها من بعيد صوت موحا و هو يردد وسط المارة:

سيدور...ســيــرور..

فتصبح الصورة مغايرة تماما لما رسمته في فضائها الجوكندا الشقراء قبل قليل..لتدرك بأن
زبنائها ليسوا من صنف ذلك الرجل الأنيق الذي تراه خلف الزجاج ..يقيس الحذاء و هو
يقول لشقرائه:
 كل شيء يليق بمقامك فهو هين علي..يا عزيزتي..

تعال هنا أيها ( البزناس ) (3 ).... هكذا نادت المومس على موحا حينما اقترب منها.
 اعطني ( انبييش ) (4 ) ...
وضع في يدها مثقال ذرة من مادة بنية بلون الحذاء الذي يحمله في يده ذلك الرجل الأنيق
و هو يغادر المحل التجاري...تقول المومس لموحا :
 انظر إلى ســـيـــدك...
يلتفت موحا..يرى أناقة..حذاء يخص الحفلات..فيتذكر الجوارب المثقوبة التي صادفها و هو
يمسح مثل هذه الأحذية..فيجيبها :
 أيها..المزوق من الخارج.. آش خبارك من الداخل..ثم ينصرف مرددا:
ســـيـــرور....ســـيـــرور...

أوقفه أحدهم..جلس موحا القرفصاء خلف صندوقه...أي رجل هذه التي وضعت بكل ثقلها
فوق رأسه بدل المكان المخصص لها فوق الصندوق..؟؟
الرجل تضغط..أسطوانة المعجون الأسود تقترب من وجهه..تسللت إلى أنفه رائحة المخفر المعتادة
مع نتانة ( السراج ) رأى القضبان...العسس..و أشياء أخرى..
أزال موحا طربوشه من فوق رأسه بأنامل مرتعشة..ضرب به الأرض تكونت سحابة من الغبار
داخل ( السيلون )..صرخ..رددت الجدران معه..
 الله يلعنها عيشة..

هـــوامش:

1) الذكي بالعامية المغربية

2) عبارة يرددها ماسح الأحذية—

3) لقب يطلق على بائع المخدرات

4) مثقال ذرة من المخدر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى