الأحد ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

جولة مع المثل: العصا من العُصَـيَّـة

معنى المثل أن الشيء الكبير يتأتّى من الصغير، وبهذا المعنى يقول الشاعر:

كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر

(نُسب لابن القيّم الجوزية- في شأن غضّ البصر)

العصا (تكتب بألف مقصورة قائمة) ومثناها عصَوان، وتصغيرها عُصَيّة، فقد أضيفت التاء لأنها اسم ثلاثي مؤنث كتصغير هند- هُنيدة ، وعين- عُيينة...

وهذا التصغير يفيد التكبير أو التعظيم كتصغير داهية- دُويهِـيَة- انظر فيما يلي.

وقالوا في هذا المعنى: "إن القَرْم من الأفيل" – القَرم: الفحل من الإبل، والأَفِيل: الفصيل وأبن المخاض فما فوقه، فالصغير يعظم ويصير كبيرًا.

أول من قال المثل هو الأفعى الجُرْهُمي حينما احتكم إليه أبناء نِزار الأربعة (مُضر وإياد وربيعة وأنمار) في قصة طويلة، فكان كل منهم قد أظهر فِراسة ونَباهة وصدق حَدْس، فإُعجِب بهم الأفعى لنباهتهم، فقال:

إن العصا من العُصيّة
وإن خُشَـيْـنًا من أخشن

(خشين وأخشن جبلان أحدهما أكبر من الآخر).

والمعنى أنهم يشبهون أباهم في حصافته.

(المثل وقصة أبناء نزار تجدهما في كتاب الميداني: مجمع الأمثال، المثل 32).

ثمة تعليل آخر ورد في كتب الأدب أن فَـلْحَسًا- وهو رجل رئيس من بني شَيبان، زعموا أنه كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة سأل سهمًا لامرأته ثم لناقته. ونص الجوهري: كان يسأل سهمًا في الجيش وهو في بيته، فيعطى لعزّه وسؤدده، فإذا أُعطيهِ سأل لامرأته، فإذا أعطيه سأل لبعيره، فقالوا: أسأل من فلحس، وضرب به المثل، وقيل: أطمع من فلحس.

وكذا قولهم: أعظم في نفسه من فلحس.

وفي ابنه زاهر قيل: العصا من العصية أي لا يكون ابن فلحس إلا مثله.

(انظر مثلاً: الزَّبيدي- تاج العروس، مادة فلحس.)

قيل في تعليل آخر إن العصا هي فرس لجَذيمَة الأبرش يقال إن قََصيرًا (الذي جدع أنفه) نجا عليها من الزبّاء (زنوبيا)، والعُصيّة هي أمها، فالعصا كأمها في أصالتها وعِتْقها.

(مجمع الأمثال- م.س)

ورد في مقامات البديع:

تلك العصا من العصيه
وهل تلد الحيّة إلا الحيه

معنى العجز يختلف، فهو يقصد ما نقوله في المثل "خَصلة في الآباء متصلة بالأبناء"، فالمرء يكسب الطباع التي ورثها عن أبيه، إن خيرًا فخير، أو شرًا فشر. والمعنى كما هو في شرح محقق المقامات:

"إنه لا يلد مثل ذلك الغلام الجريء والفتى الفاتك إلا مثل الأم التي ولدت بِشرًا، فليس ما رآه منه عجيبًا [....] وقريب منه قول زهير:

وهل ينبُتُ الخَطِّـيَّ إلا وشيجُه
وتُغرَسُ إلا في منابتِها النَّخلُ

( مقامات الهمَذاني – المقامة البِشْرية، ص 482.)

ولا أرى الآية ولا يلدوا إلا فاجرًا كفّارا- نوح، 27 ببعيدة عن هذا المعنى المجازي- على اعتبار ما يكون.

هناك من رأى أن المثل في الأصل "العصية من العصا" فقُلب، وذلك لأن المعنى أن الابن يكون كأبيه، ومن شابه أباه فما ظلم.

أما بيت الشعر في المقامة فليس للهمذاني، فقد سبق أن أورده الجاحظ في (الحيوان، ج1، ص 9) على أنه من قول العرب.

ذكرت أعلاه أن (العصية) تصغير يراد به التعظيم ككلمة (دُويْهِيَة)- تصغير (داهية)، وقد ورد في أمثال العرب مثل هذا التصغير:

أنا عُذَيقُها المُرَجَّب، وجُذّيلُها المُحَكّك

القائل: الحُباب بن المنذِر الأنصاريّ- يوم السقيفة.

المعنى : -

عُذَيق: تصغير عَـذْق وهو النخلة بحِملها.

المُرجَّب :من رجَّب الشجرة إذا دعمها بما يمنعها من الانكسار والسقوط لثقل حملها.
الجُذَيل : تصغير جِذل وهو عود ينصب للجربى من الإبل لتحتك به.

يفخر القائل بأنه صاحب الأمر المضروب فيه المثل، وهو به لايضعف عن احتمال الصعاب والنهوض بها.

في الشعر الحديث قرأت للبياتي:

"القطط العمياء
تلد القطط العمياء".

يتبدى التناص الذي استشرفه من المثل: (هل تلد الحية إلا الحية).

يصف البياتي في قوله ذلك الواقع السياسي المشوّه، الذي يسيطر عليه المهرجون، الذين صبوا الماء على الماء/ ورقصوا فوق حبال الكلمات الصفراء/ وصنعوا شعراء/ ونصبوا خلفاء…، والذين تتحول عندهم المفاهيم، وتأخذ مسارًا مخالفًا، فالولادةٌ شوهاءُ، لا يتحقق فيها الانبعاث، ولا تعود فيها الحياة إلى مجراها، فالكلمات الكاذبة الجوفاء/ لن تصنع عنقاء/ من جمل الصحراء، والقطط العمياء لن تلد إلا قططًا عمياء، مثلما أن هذا الواقع الفاسد، لن ينتج إلا واقعًا أشد فسادًا.

(التحليل من مقالة د. أحمد طعمة الجلبي- نشرها في موقع ستار تايمز).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى