الخميس ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (18)

استسهال استخدام اللغة والمصطلحات طامّة كبرى:

وأعتقد أن هناك سببا آخر مهما وراء هذا الخطأ والأخطاء الأخر، وهو استسهال استخدام اللغة خصوصا بعد موجة حداثوية غربية (فرنسية أصلا) سامة فُهمت خطأ – من قبل الكثير من النقّاد العرب - عن أهمية اللغة الشعرية في النص النقدي والبحثي من ناحية، والتباس المصطلحات وعدم تحديد معانيها حتى صار لمصطلح مثل"الشعرية (بكسر الشين) – poetics" سبعة عشر تعريفا أحصاها الناقد الراحل د. عبد العزيز حمودة في كتابه (المرايا المحدّبة). فالفعل"ارتحل" مثلا، معانيه القاموسية والدلالية واضحة: انتقل من مكان إلى آخر (طبعا هناك معانٍ أخر لكنها تدور حول نفس الدلالة). ولكن حين نستخدم هذا الفعل بكثرة لا نستغرب ما يقوله ناجح مثلا عن"ارتحال" الزهرة من مكان إلى آخر وكأن العالم لم تكن فيه زهور وظل ينتظر أن تأتيه من العراق أو مصر !!:

(ووحدت الزهرة رمزيا بين الشاب بايتي وعدد من الالهة الشباب. وهذا ما ستحاول الدراسة الاشارة له لأن الزهرة، اختصرت كثيرا من العقائد و(ارتحلت) (التقويس منّي) الى مناطق جديدة لتوميء للخصوبة حينا، وللانبعاث حينا آخر - ص 147) (115).

والصحيح أن الزهور موجودة في كل مكان. ولكن مفاهيم الخصب والانبعاث التي ارتبطت بها هي التي ارتحلت من حضارة إلى أخرى بالرغم من وجود مبالغات كبيرة في هذا الشأن، فمن الصعب أن نقرأ ونستوعب معلومة تقول إن الإنسان القديم كان يقدّم زهرة للإنسان الآخر كرمز للكره والموت والقتال. قبل 21000 سنة وضع العراقي القديم باقة زهور على ضريح ابنته، وهي أول باقة زهور تُستخدم لهذا الغرض في تاريخ البشرية (116)، ولكن هذا لا يعني أن الشعوب – وكحالة عامة قد يكون لها اسثناءات بسيطة - التي جاءت بعده قد استخدمت الزهور في غير مجالات الحب والإلفة والسلام.

ثم ينطلق ناجح – وكعادته في نقل الإقتباسات الأسطورية التي تظهر تعلّق مفاهيم وعقائد الخصب والانبعاث وطقوسها بالزهور - من آتيس مرورا بالمندالا اليابانية وزهرة اللوتس (ص 147 و148)، معتقدا أن الزهور (ترتحل) في حين أن المفاهيم والعقائد هي التي ترتحل.

وفي موضع آخر يقول ناجح معلّقاً على ذبح الثور باتا وتحوّل قطرتين من دمه إلى شجرتين بالقول:

(وتتبدّى الفعالية السحرية من خلال قوة الارتحال والتحوّل قوة الارتحال المتمثلة بتحول الكائن الحي/الحيواني/ الثور الى كائن حي اخر - ص 176 و177) (117).

فهل هذا هو الإرتحال؟؟

هل تحوّل الثور الى كائن حي آخر هو ارتحال؟؟ أم هو"تحوّل" و"تغيّر" لا علاقة له بالإنتقال في المكان؟

وإذ تحدّث ناجح عن قوّة الإرتحال (ولاحظ صياغة الجملة رجاءً)، فأين قوّة التحوّل؟

آراء أُخر غريبة ومتناقضة:

من الآراء الأخر الغريبة هو ما يطرحه ناجح في تفسير طقس الإخصاء الذاتي الذي يقوم به مريدو الإله الشاب القتيل، حيث يقول:

(والتضحية بالذكورة في واحدة من مستوياتها العميقة هي محاولة للفداء نيابة عن الاله، والالهة الشباب كثر في كل ديانة من ديانات الشرق لان تضحية الاله بذكورته يعني موته المؤقت ونزوله الى العالم الاسفل وصعوده ثانية وما بين النزول والصعود / الانبعاث يقتضي الطقس، استمرار الندب والحزن والتجريح، وحتى لا تتكرر هذه الطقوس يقوم فرد او مجاميع من الشباب باخصاء ذكورتهم - ص 91) (118).

ولا أعلم – ابتداءً – هل هذا الرأي لناجح أم لروبرت سمث الذي اقتبس منه الآراء السابقة على هذا الرأي لأن طريقة ناجح في الإقتباس والتضمين – كما قلت – هو أن لا يضعها بين أقواس فلا يعرف القارىء أين يبدأ المقبوس وأين ينتهي ـ وهل هو له أم لغيره. وحتى لو كان هذا الرأي لروبرت سمث من كتابه (محاضرات في ديانة الساميين)، فهو رأي خاطىء، ويناقض الجوهر الأساسي لديانة الإله القتيل. فجوهر هذه الديانة يقوم على طقس مركزي هو الإحتفاء بالتجدّد والخصب والإنبعاث، كوسيلة لمقاومة الفناء والجدب والموت، فإذا كان المُريد مؤمناً بهذه الديانة فكيف يريد من خلال إخصائه لذاته – كما يقول ناجح – أن يضع حدّاً لتكرار طقوسها السنوية؟!

هل كان الأخ الأكبر ممثلا للسلطة الذكورية العنيفة؟:

يقول ناجح:

(ان الجماعات الباحثة عن ابنة رع حورس والتي ارسلها فرعون الى هناك / اكدت التوازي القائم بين السلطات الذكورية المتعددة ونظائرها في الحق الممنوح لها، مع ملاحظة التفاوت القائم بين سلطة واخرى بسبب عناصرها ووظائفها. والجماعات المُرسلة هي امتداد للسلطة الفرعونية وتجسيد للقوة الملكية، كما انها نمط من السلطة الذكورية القادرة على ممارسة العنف/ والقتل باعتبارها رأسمالا رمزيا لها، وهي امتداد بشكل ما لسلطة انوبو / الاخ الاكبر - ص 127) (119).

وحين نعود إلى قراءة الحكاية وتأمّلها بهدوء نستطيع القول وبثقة أنّ ما يقوله ناجح هنا من استنتاج عن أن انبو هو نمط من أنماط السلطة الذكورية ؛ سلطة قادرة على ممارسة العنف والقتل باعتباره رأسمال رمزي لها، هو استنتاج غير صحيح ولا محل له، ولا يوجد أي دليل عليه في الحكاية.

لقد كان أنبو بمثابة الأب لباتا، وباتا نفسه كان يقول ذلك، ويعمل مع أخيه بصفاء. وفي موسم الحراثة والبذار – وكما رأينا من مجريات الحكاية – كان أنبو يعمل مع أخيه سواء بسواء. وحينما خدعت الزوجة الغادرة الفاسدة أنبو وصوّرت له الأمر على عكس حقيقته، واشتعل غيضا ولحق أخاه الأصغر بالخنجر ليقتله، شاهدنا ردود فعله النادمة بصورة شديدة جدا من بكاء وأسف ورثاء ودعوة لأخيه للعودة.

وقد صحح أنبو موقفه هذا فور عودته إلى بيته، عندما قام بقتل الزوجة الغادرة ورمي جثتها إلى الكلاب.. وبقائه حزينا على فراق أخيه.

ومن هو الذي أنقذ باتا، في محاولة مستميتة ومرهقة استمرت ثلاث سنوات قضاها في البحث عن"بذرة" قلب أخيه الميّت، ليجدها في بداية السنة الرابعة بعد أن يئس، ويعيده إلى الحياة؟! أليس هو الأخ الأكبر؟!

ومن كان معاون باتا الرئيسي في تنفيذ خطّته في الثأر من الزوجة الخائنة عندما تحوّل إلى ثور مقدّس؟ أليس هو أخوه الأكبر؟

كان أنبو في الواقع إنساناً صالحا ومسالماً ومحبا لأخيه، وبعيدا عن العنف والدمويّة كما قال ناجح.

افتراض غريب آخر:

يقول ناجح:

(كان الاختطاف الذي حصل للزوجة سحريا، لانها لم تستطع مقاومة له، بحيث عطّلت قدرات الجماعة السحرية امكاناتها على الرفض والتحدي ورضخت للامر الواقع - ص 129) (120).

ولا أعلم من أين يأتي ناجح بهذا الكلام وهذه التصوّرات التي لا أساس لها. حتى سليمان مظهر في صياغته الأدبية لم يقل أن الجماعة التي أرسلها الفرعون لجلب الفتاة قد استخدمت السحر!

لقد أرسل الفرعون مجموعة من الجنود المسلّحين إلى"الأرض البعيدة" – أرض باتا كما سمّوها - حسب استشارة مستشاريه، لغرض اختطاف الفتاة التي فتنه عطرها، وإحضارها إليه كي يتزوجها. لكن باتا قتلهم جميعا عدا شخص واحد عاد ليخبر الفرعون بما جرى. هنا قرّر الفرعون أن يرسل مجموعة كبيرة من الرجال والجنود ومعهم امرأة. هذه المرأة زوّدها بهدايا وحلى نسوية ثمينة جدا لتغري الفتاة وليست لتزيينها كما يرى ناجح. وهذه الهدايا وفعل المرأة – وليس السحر - هي التي أثرت في الفتاة المتعطّشة للحركة والحرية والإنطلاق والهيبة والإشباع الجنسي بعد سنوات العزلة في بيت باتا الذي لم يشبعها نفسياً وجسديا وجنسيا لأنه"مثلها امرأة" كما قال لها. لقد تمت دغدغة مواضع نرجسية هذه الفتاة واستثارتها من خلال الإغواء المادي الذي هو بالنسبة للفتاة إغواء نفسي وعميق، والوعد بإرواء طموحاتها نحو السلطان والثراء والعيش مع ملك إله، فقد خلقتها الآلهة ومن الصعب أن تقنع بالإنزواء في بيت منعزل في وادٍ عميق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى