السبت ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
تصالح الذكورة والأنوثة في كائن واحد
بقلم جاكلين سلام

أغنية ليليت» للشاعرة الكندية جوي كوغاوا"

الإشارة إلى مصادر الرموز، الأفكار والاقتباسات التي قد ترد في سياق مقالة، أطروحة، مشروع أدبي أو علمي، ضرورة علمية، حقوقية وأخلاقية تخضع لها الثقافة والكتابة الإنكليزية، وهذا ما نجد تفاصيله في مقدمة المجموعة الشعرية الفنية «أغنية ليليت» للشاعرة الكندية جوي كوغاوا، معتمدة «الحوارية الشعرية الميلودرامية» إلى جانب المنولوج، المناجاة الذاتية في «سبعة فصول» تبتدئ بالعنوان «الأغنية الأولى»، وتنتهي بفصل بعنوان «عودة ليليت».

النص المترافق بالتوازي مع جماليات الجسد الأنثوي في لوحات الفنانة «ليليان بروكا»، حيث تطالعنا فصول الجسد الليليتي الأسطوري الحديث الذي يتشكل من الطين، كما جاء في هذه الأسطورة، ليتماهى مع المحيط الطبيعي من صخر ورمل وسماء. جسد خارج عن كل ألبسة العصور ليبقى حرا، منتميا إلى البدايات فقط، ومتماشيا في الآن ذاته مع مقاييس الجمال والرشاقة العصرية. الجسد الذي يستوي في ملكوت فتنته وتحليقه إلى الأقاصي والأعالي عبر أجنجة الكلمات التي تخطها الشاعرة حول جسد اللوحة لتحلق بها ليليت إلى آخر العالم ـ إلى أول منفى صنعته المخيلة وعاشته البشرية.

إنها أجنحة الكلمات التي تجعل عودة ليليت من عزلتها إلى العالم، رغبة وحقيقة. تعود المرأة التي «ترقص حتى آخر أجنحتها»، لتجسد التصالح ما بين الذكورة التقليدية وسمات الأنوثة العصرية. ليليت ـ الأغنية، الفكرة، الأسطورة، القصيدة ذات الخلفية الفكرية، الدينية، والتي تتضارب الآراء حولها تحضر في هذه القصيدة الطويلة التي صدرت في كندا باللغة الانكليزية عام 2000، بمنحة من مجلس الفنون الكندي لشاعرة كندية بارزة من أصول يابانية، مواليد 1935، ونتاجها مترجم إلى عدد من لغات العالم ـ عدا العربية ـ كما تُدرّس بعض كتبها لطلبة التعليم الجامعي، قسم الآداب الانكليزية في جامعات كندا. وهي جوي كوغاوا وتعد روايتها «أوباسان» واحدة من أهم روائع الأدب العالمي في القرن العشرين. محصلة عمرها الإبداعي الطويل والمشرق لم تسرق منها البساطة والتواضع الجم والعفوية. استوقفني قدها الجسماني الصغير، هدوءها «البوذي»، صوتها الناعم، شعرها الأبيض، كلماتها القليلة وهي تحدث قراءها وتجيب على أسئلتهم، وهي تضع توقيعها على كتبها التي بحوزتهم ـ القديمة والجديدة ـ في فسحة قصيرة بعد قراءة شعرية لها في تورنتو هذا الشتاء.

تكتب الفنانة ليليان بروكا في المقدمة كيف بدأت تشكيل خطوطها الأولى: «بدأت في رسم هذه الشخصية منذ عام 1995. وبعد محاكمة معرفية وذهنية، اخترت أن أرسم ليليت عارية، لأن الملابس تضعنا في حقبة زمنية محددة. كما أنني اخترت الجسد بمقاييسه الجمالية المعاصرة، نحيفا ومتناسقا. إن ليليت في نظري ولوحاتي ليست الطراز البدائي والنموذج الأسري للطاعة والتفاني، ليليت ليست أم الآلهة، بل انها نموذج المرأة الواعية، المستقلة، الروحانية، الحاسمة، العملية التي لا تتخلى عن حسها وحساسيتها الذاهبة نحو تغيير العالم، كما أنها ساحرة بجمالها فوق العادي.

في صيف 1998، قدم بعض الأصدقاء لزيارتي، وأعجبهم ما توصلت إليه من لوحات، فاقترحوا علي استكمال العمل بحوار شعري تكتبه الشاعرة الكندية، اليابانية الأصل، جوي كوغاوا، وكذلك البحث عن جوقة فنية لتحويل العمل إلى «كونسيرت»، بما يقتضيه ذلك من إلقاء مسرحي، وموسيقى خاصة بهذه الشخصية. بعدها تم الاتفاق مع الشاعرة وأخذت المجموعة طريقها إلى النشر والعرض المسرحي».

أما الشاعرة جوي كوغاوا، فتقول في المقدمة: «لم أكن أعرف شيئا عن هذه الشخصية الأسطورية حين اقترح الأصدقاء عليّ كتابة حوار شعري خاص بـ ليليت. فكرت بالموضوع وأعجبتني أبعاد الشخصية عبر لوحات الفنانة ليليان بروكا. عبر المراسلة الالكترونية، تبلورت خطوط عملنا المصحوب بالتفاهم والاحترام وعشق هذا الإبداع المشترك. شعرنا بطعم الحياة مع ليليت، ومع جميع بناتها اللواتي غرقن بذهول في ميلاد ـ انبعاث ليليت». هذا وتشير الشاعرة إلى ظروف عملها اليومي المرهق، حين قدمت على هذا العمل: «كنت أعمل نهارا لأعود إلى القلم ليلا، مغلقة دفاتر النهار وتفاصيله المادية، وهناك بدأت تحضرني ليليت أيضا وهي تغلق أبواب العقل، خارجة من مكامن قلقها وأساها، إلى خلوة المكان، لتكتشف سر الحب المعطى للإنسان... خرجتْ من حيز الإنصات إلى آلامها ووقعت على المفاجأة العظيمة. مباركة أصبحت حين امتلكت أجنحة، حلقت عاليا. خرجت من قبضة الضياع لتسقط في نعمة الحب».

تفاصيل وهوامش أسطورة ليليت

تبدأ المقدمة بالسؤال الذي أطلقته الكاتبة «افيفا كانتور عام 1976 في صحيفة ليليت: من هي ليليت؟ هل هي الجميلة المتمردة على الطاغية، أم أنها الساحرة المنتقمة ذات الشعر الأشعث؟ وذهبت في التقصي والبحث: هل هي أسطورة بدون حقيقة تاريخية، وهل هي رمز يفتح لنا طاقة صوب الماضي؟ تذهب المقدمة في عرض التفاصيل ما بين قصة حواء شريكة آدم المطيعة المخلوقة من ضلعه، وما بين ليليت المخلوقة مثله من التراب والغبار، ندا قويا ومتكافئا».

تضيف كانتور بالبحث عبر المسودات المنجزة: «ليليت أدركت انها مساوية لآدم، «كلانا من التراب»، لكن آدم لم يقبل هذه المساواة. فغضبت واستخدمت حكمتها وحازت على السر الإلهي، نمت لها أجنجة مكنتها من الهرب من جنة عدن إلى آخر العالم. وحين حاولت الآلهة إقناعها بالعودة الى آدم الحزين بإرسال ثلاثة ملائكة لمحاورتها، رفضت. كما أنها رفضت العروض المتتالية من ذهب وجاه ووعود قدمها الشيطان المرسل إليها». وتضيف كانتور: «مطالبتها اللاواعية بالمساواة لم تكن شديدة وحسب، بل كانت هبة طبيعية تسيرها.. لقد كانت ليليت مهيأة لأن تخسر الرخاء المادي في جنة عدن لتقيم وحيدة في عزلتها عن المجتمع».

كانتور وآخرون قادهم الجدل حول هذه النقطة إلى أن ليليت ـ الأنثى القوية، ربما تكون أول أمرأة ذات نزعة فمنستية في العالم. هي التي عرفت بالقوة والإصرار، ورفضت أن تكون في موقع الضحية. وتم تخريب صورتها لتصبح في الذاكرة الجمعية نموذج المنتقمة، الشريرة، الشيطانية الأهواء، والتي لا تتوانى عن قتل الأطفال، وسلب الرجال عقولهم بجمالها الذي يوقظ الشهوات والأحلام الايروتيكية. لذلك أسقط رجالات الدين اليهودي حكايتها وأصبحت ملعونة، مغضوبا عليها، تحذر النساء من اقتداء نموذجها، وتم تغييب الجانب الإيجابي من أبعاد شخصيتها الغنية، المتناقضة.

كما تشير إحدى الباحثات بالقول: «ما البعد الشرير والشيطاني لها إلا الوجه الآخر لحكمتها، سعة نظرها، عدالتها وعطاؤها الحميمي، إذ لكل حالة جانب إيجابي وآخر سلبي». في هذه المجموعة، تحضر نصف صورة حواء في شخص ليليت، الواثقة المستقلة الواهبة. إنها التجسيد العصري لرمز قديم. «إنها المرأة التي ابتكرت المساواة لتساعدنا أن نصبح كاملين في شخصنا، حيث يجتمع ويتصالح عنصرا الذكورة والأنوثة في الكائن. ليليت امرأة العاطفة والعدالة والقوة، الطبيبة الشافية والرائية. إنها دليلنا إلى مستقبلنا». (ص 14)

فصول المجموعة

تقع المجموعة في 110 صفحات، بقياس متوسط ومربع الحجم. وتقسم إلى سبعة فصول، تبدأ بعنوان «الأغنية الأولى»، مرفقة باللوحات الفاتنة التي تحكي سيرة المرأة الأولى، وآدم وحواء، وحضور الشياطين والملائكة لإقناعها بالعودة إلى آدم وجنة عدن. يتصاعد الحوار الشعري بين فقرات الكتاب ونصل إلى المصالحة المرجوة في فصل بعنوان خادمة العشق، مبتدئا بـ«عودة ليليت» الجميلة من «منفاها» إلى الحياة، حاملة جسدها عبر طيات الأرض، رطبا ونازفا نارا ودمعا وخصبا. نلمس بعض فقراته في هذه المقطوعات المختارة من فصل عودة ليليت:

ليليت

عويل وأهازيج طويلة

أولى نساء الأرض، وجوهرها

في نهار غامض عجنت

من الغبار والحلم

واليوم ولدتْ من النار والدمع.

ليليت

تمثال انبعاثها هو:

زهرة، صخرة ونجمة

في حديقة أبعد من كل الحدائق

في الأزمنة العصية والتراجيدية الإنسانية

ليليت وحواء

حواء وليليت

الاثنتان تدمعان كواحدة

وتغنيان أغنية جديدة/تؤديها الواحدة المقدسة التي لم ترتكب خطيئة... (ص 89)

تتنوع إيقاعات الأغنية بين الديالوغ والمونولج في تقصي رحلة ليليت وميلادها الجديد، صراعها بين وجوه الخير والشر، بين سمات شخصيتها الغنية والمثيرة للشهوات والرغبات، والمثيرة للجدل. تعود لتتصالح مع عالمها وتعود لعمادة الجسد في ماء الحب على هذه الأرض التي منها خُلقت المرأة وخلق الرجل، ليقيما حديقة كونية مباركة. «أغنية ليليت قصيدة ميلودرامية روحانية عميقة وطويلة، إنها الجنة النسوية المفقودة»، ليرعاها الجميع ويبذرون الحياة في رحابها:

لأن الحب هو الجوهر

الذي فيه نسبح

الحب قوتنا الفانية

الحب بيتنا القادم

وهو زمننا المتحول

هذه الموسيقى،

أنا ليليت، أسمعُها

ومقدس هو المغني

أنصتُ إليه.

ليتبارك» ( ص 104)

ما بين الأسطورة والخلق الفني

إذا راقبنا النتاج الثقافي في الساحة العربية والعالمية، لا بد سنقع على عدد لا يحصى من المعالجات، الاقتباسات والمداولات التي تصب في حيوات شخصيات أسطورية أو دينية مهمة. تكتسب هذه المعالجات الأدبية صفة «الخلق الفني»، انطلاقا من تجديد زوايا نظرها، معالجتها، إسباغ صفات مغايرة على جوهر وصفات الشخصية التاريخية. وقد تتقاطع بعض النتاجات في بعض جوانبها، وعالم المبدعين لا يخلو من «صدفة التشابه»، ولكن بحدود!. قد نؤمن بالمصادفات البحتة، وقد يحق لنا أن نسائل الناقد العربي ليفكك لنا ما التبس، ويدلنا على الحدود الفاصلة ما بين الأصل والصورة، وإلى أي مدى قد يصدف التأثر والتأثير!

عديدة هي الإصدارات التي كتبت عن شخصية ليليت، سواء في المسرحية، الرواية، والقصيدة على صعيد العالم، و«إن كانت التجربة الشعرية الأولى ـ عربيا». فتجربتي المتواضعة جعلتني على لقاء مباشر مع أكثر من كاتب(ة) في كندا، تناولوا هذه الشخصية في نتاجاتهم، منهم الشاعر الكندي الإيراني «رضى برهاني» الذي كتب عنها مسرحية عرضت في فرنسا.

> > ليليان بروكا: فنانة تشكيلية كندية معروفة أقامت معارض كثيرة في شمال أميركا وتم اقتناء أعمالها في عدد كبير من المعارض العامة والخاصة تعيش في فانكوفر مقاطعة بريتش كولومبيا الكندية

> > جوي كوغاوا: ولدت في فانكوفر ـ كندا من أصل ياباني حازت شهرة عالمية عن روايتها «أوباسان»

التي كرستها للحديث عن معاناة اليابانيين الكنديين أثناء الحرب العالمية الثانية .

عن الشرق الأوسط - الملحق الثقافي - السابع من حزيران 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى