الخميس ١٧ أيار (مايو) ٢٠١٨
بقلم فاروق مواسي

الضرير والبصيرة من كتاباتي

يتعلم الطلاب قصيدة جميلة وردت على لسان أعمى، ومطلعها:

يا أمَّ ما شكلُ السماء وما الضياء وما القمرْ
بجمالها تتحدّثـــــــــــون ولا أرى منها أثرْ

القصيدة لا يُعرف تمامًا من هو مؤلفها، فقد ذكر لي الشاعر المرحوم جمال قعوار أن القصيدة هي من تأليف طه حسين، ولم أجد قوله في أي مصدر موثوق به.

وأرى شخصيًا أنها أقرب إلى شعر محمد الهرّاوي المصري، وحبذا أن نعرف يقينًا من هو الشاعر- يوافيني به قارئ من قرائي معتمدًا على مصدر.

أذكر أنني علمت القصيدة في أحد الصفوف السادسة، وأن أحد الطلاب مثّل الأعمى، فوضع منديلاً على عينيه، وأمسك بعكاز وهو يقرأ بصوت متألم أسيان.

دعاني ذلك المشهد وإعجابي به إلى أن أكتب قصيدة معارضة. وأهديت القصيدة لطلابي، حيث علقوها على حائط الصف.

كم سرني بعد نشر قصيدتي أن بعض المعلمين علّموها، وذلك مباشرة بعد القصيدة المطلوبة في مناهج التدريس.

وهأنذا أدعو القراء ومعلمي العربية أن يقرأوا هذه القصيدة التي تنطلق من منطلق غير يائس ولا أسيان.* ويا حبذا تعليم القصيدتين معًا!

الأعمى يَقول:

(مــاذا جَـنَـيْـتُ مِـنَ الـذُّنـوبِ
بِـهـا يُـعــاكِـسُـنـي الـقَـدَرْ )

شَـكواكَ فـيـها أنَّـةٌ
ظَـلَّـتْ بِـقَلْبي تَعْتَصِرْ
فَـدَعِ الـكَآبَةَ والأَسى
إنْ كُـنْـتَ مِـمَّـنْ يَعْتَبِرْ
اللهُ يَـجْـزي عَبـدَهُ
بِـبَـصيـرةٍ بَـدَلَ البَصَرْ
هـذا المَـعـرّي شاعِرٌ
كَـنْـزُ الأديـب الـمُدَّخَرْ
تَـهدي لُـزومِـيّـاتُـهُ
نـورَ المَـواعِـظِ والعِبر
هـوميـرُ قالَ رَوائعـًا

وَقَـصائِـدًا مِثـلَ الدُّرَرْ:

أوديَـسـةً إلـيـــاذّةً
كُـنْـهَ الـمشاعِِرِ والفِكرْ
مِـلْـتُــنُّ مـِن ْ مَفْقُودِهِ
فِـرْدَوسُـهُ كـانَ الأثَـرْ
بَـشّـارُ يَـهْدي مُبْصرًا
فـي شِـعـرِهِ هـذا ذَكَرْ
طــه عَـظيمٌ شـأنُهُ
فـي شَـكّـهِ أبْـقـى أثَرْ
إنَّ الـذَكـاءَ لــغالِـبٌ
عِـنْـدَ الّذي فَقَدَ الـبَصَرْ
لا تـأسَ مِـنْ هذا الضَّنى
ما فـازَ إلا مَـنْ صَـبَر
كَـمْ مِـنْ حَزينٍ صامِتٍ
لا يَـشْـتَـكي وَطء َ الغِيرْ
أوْ فَـيْـلَـسـوفٍ ساخِرٍ
لا يَـجْـتَـني حُـلوَ الثَمَرْ
الدّهْـرُ يُـنزِلُ حُـكْمَهُ
والـمرْء يَـخْضَعُ لِـلْقَدَرْ
كَـمْ مُـبْـصِرٍ لا يُبصِرُ
إنْ عُـدَّ عُـدَّ مِـنَ البَـشَرْ
إنْ قُـلْتَ: ما شَكْلُ السّماءِ
ومــا الضّياءُ وما القَمَـرْ؟
ألْـفـيْـتَـهُ فـي لَـيْـلَةٍ
لَـيْـلاءَ لا يَـدْري الخَـبَرْ
الْـعُـمي عُـمْيٌ بالبَصائِر
والذكاءُ المعتَـبَـرْ

(نشرت القصيدة في مجموعتي "إلى الآفاق"- شعر للطلاب. عكا: مكتبة الأسوار- 1979، ص 79).

ومن المؤسف أن أحدهم أهدى طالبًا ضريرًا متفوقًا درعًا عليه قصيدة "يا أم ما شكل السماء"، وقد عاتبته على ذلك، لأنه يذكّره بعماه وعمق تساؤلاته، وكم وددت لو أهداه بيتًا من قصيدتي بالذات،

فهل أنا على حق؟

لاحظ القارئ أنني ذكرت للطفل الضرير شخصيات عالمية مثل هوميروس- صاحب الإلياذة والأوديسة، ومِلتن- صاحب "الفردوس المفقود"، وطه حسين- عميد الأدب العربي، وقبل ذلك المعري- صاحب اللزوميات، وبشار بن برد الذي سأقف عنده قليلاً:

فقد أوردت في القصيدة "يهدي مبصرًا" إشارة إلى قول بشار:

أعمى يقود بصيرًا لا أبا لكم
قد ضلَّ من كانت العميان تهديه
إِذَا وُلِدَ المَولود أعمى وجَدْتَه
وجدِّكَ أهدى من بصيرٍ وأجولا

أما قولي في القصيدة: "إن الذكاء لغالب

عند الذي فقد البصر"، وقولي "والذكاء المعتبر" فقد رجعت في ذلك إلى قول بشار:

عَميتُ جنينًا والذكاءُ من العَمَى
فجئتُ عجيبَ الظنَ للعلم موئلا
وغَاضَ ضياءُ العينِ للقلب فاغْتَدَى
بقلْبٍ إِذا مَا ضَيَّعَ النَّاسُ حَصَّلا

أما الذين عابوا عليه عماه فيجيبهم بشار جوابًا مسكتًا:

قالوا العمى منظر قبيح
قلنا بفقدي لكم يهون
تالله ما في البلاد شيء
تأسى على فقده العيون

ثم إن قولي في القصيدة "كم مبصر لا يبصر..." سبقني إليه الصنوبري- أحد شعراء سيف الدولة:

"كمْ مِنْ ضريرٍ بَصيرٍ
وَمِنْ بصيرٍ ضَريرٍ
"وَمِنْ حَميرٍ تراهُمْ
على ظهورِ حمير
وفي قصيدة أخرى:

لا أحِبُّ الضريرَ غَيْرَ ضَريرٍ
ثاقبِ الفِكْرِ ذي فؤادٍ بصيرِ
هلْ يَضُرُّ الضريرَ ناظِرُهُ المُظْ
ـلِمُ ما كانَ ذا فؤادٍ مُنيرِ

في هذا المعنى كنت قرأت في رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" (وقد تعرفت إليه في القاهرة) عن شخصية الشيخ حسني، فيسأل الراوي- من هو الذي لا يرى؟

هل هو الأعمى الذي فقد البصر أم البصيرة؟

من خلال أحداث القص وشخصية الشيخ حسني قام الكاتب بالإجابة عن هذا السؤال، وكانت إجابته أن الأعمى هو كل إنسان فقد البصيرة.

وكنت قرأت من تساءل: ترى، لو لم يكن طه حسين بذكائه- هل كان سيقعد أمام عتبة المساجد؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى