الثلاثاء ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
قصة
بقلم أحمد زياد محبك

الجدار.. والقبعة الصغيرة

أبو صخر وأبو خالد أمام الجدار وعلى مقربة منهما، عند حافة الرصيف، يقف أبو طارق وراء عربته المحملة بقليل من البرتقال، وبين المشاة على الرصيف بعض الشباب يروحون ويجيئون، قبضاتهم المشدودة مستعدة لدى أول إشارة لالتقاط الحجارة الكثيرة المتناثرة على الرصيف بصورة غير عادية.

أبو صخر، وهو أمام الجدار، يرفع بيده اليسرى علبة الدهان البخّاخ إلى فوق قليلاً، فيحسّ بشيء من الألم.

لا بأس، فليكن، لابد من بعض الألم، هو على الأقل ليس كالألم يوم لواها مجندان إلى الوراء، ثم ركزاها على طرف الحفرة، وأخذ مجند ثالث يرضخها بحجر.
يده اليمنى مرخية إلى جواره، لا يستطيع تحريكها، بل لا يحسّ لها بأثر، كأنها ليست منه، كأنها ليست بشيء.

اخترقتها رصاصة منذ عامين، فماتت، ماتت على الفور، أصبحت مثل خرقة بالية.
ويلتفت إلى أبو خالد، يناديه:

"أبو خالد، أنا ليس عندي غير يد واحدة، لا تتعجل الكتابة، تمهل".
أبو خالد على بضعة أمتار منه، يرفع علبة الدهان البخّاخ بيده اليمنى، ويضغط بإبهامه، ويكتب على الجدار.

يرد عليه:
"لا تقلق يا أبو صخر، سأكون أبطأ منك، على كل حال، نحن معاً".
أمام هذا الجدار وقفت ساعات وساعات، مرفوع اليدين إلى أعلى، ومعي أكثر من عشرين شاباً، وجوهنا جميعاً إلى الجدار، أيدينا مرفوعة إلى فوق، ووراء ظهورنا البنادق والسيارات المصفحة، وعشرات المجندين.
هذا هو جدارنا، وراءه قبور إخوتنا وآبائنا وأجدادنا، قبور شهدائنا.
الحاكم العسكري في الطرف الآخر من الساحة يزعجه أن يطل من شرفته فيرى الجدار ومن ورائه المقبرة.

على هذا الجدار سنظل نكتب، وعلى هذا الجدار سيظل دمنا يتدفق.
أمام هذا الجدار سقط أخي أبو المجد، وبقع الدم من قلبه النازف ما تزال آثارها هنا وهناك على الجدار.

ويلتفت إلى وراء، ينظر إلى أبو طارق.
أبو طارق يقف وراء عربته، يرقب أول الشارع وآخره، يمد نظره إلى آخر الساحة، إلى الطرف الآخر، حيث مقر الحاكم العسكري.
الناس يمرون به، لا يشترون شيئاً من البرتقال، بل لا يسألونه، يعرفون لِمَ هو واقف.
"يا حسن"
بين لحظة وأخرى أبو صخر وأبو خالد يتوقعان سماع هذا النداء. يلذّ لهما سماعه، تطلقه حنجرة أبو طارق.
أبو طارق يداه لا تقدران على دفع العربة، ولا على البيع ولا على الشراء، قضبان المعدن ما تزال مغروسة في ساعديه.

أبو صخر يلتفت إليه، يغمز له بعينه، وهو ما يزال يكتب بيده اليسرى.
أنزلانا معاً، أنا وأبو طارق، في حفرة، هم تسعة أو عشرة، ثلاثة أو أربعة حولي، وثلاثة أو أربعة حول أبو طارق، وربما ثلاثة أو أكثر، يطلون على الحفرة.
اثنان يشدان ذراعيّ إلى وراء، واثنان يشدان ذراعيْ أبو طارق إلى وراء، أنظر إلى عينيه، أضغط على أسناني، فيرفع لي حاجبه، فليكن، لن نموت، ولو دقوا أعناقنا.
ذراعي ملوية إلى وراء، والأخرى مشلولة، عرفوا أنها مشلولة فتركوها، لوَوْها في البدء فالتوت مثل خرقة، وأنا في عز الألم ضحكت، تمنيت ساعتها لو كانت الأخرى مشلولة، لذلك تكالبوا عليها، شدوها بقوة، أحسست أنهم يخلعونها من الكتف.
المجنّد لا ينظر في عيني، وهو يلوي الذراع، يضعها على حافة الحفرة، فوق حجر، لا يرضى بذلك، بل يرفع القميص عن الساعد، وأغلق فمي، وينفجر الألم، العظم يتشظى، وأصرخ، كنت عازماً على ألا أصرخ، ولكن الألم شديد، زاغت عيناي، اسودت الدنيا أمامي، وكدت أسقط.

ورضخة أخرى على الساعد، وأصحو، أصرخ، أصيح، ليتهم بتروها، ربما كان البتر أسهل، الدم يختنق، تمنيت لو انفجر، لو تدفق.
لم أشعر بمثل هذا يوم اخترقت الرصاصة الذراع اليمنى، ماتت على الفور، ولكن هذه لم تمت، ولن تموت.

أبو طارق أقوى مني، لم يصرخ سوى مرة واحدة، رأيتهم يرضخون ساعديه الاثنتين بحجر أكبر من الحجر الذي رضخوا به ساعدي، ثم دفعوا به، فإذا هو يسقط أمامي في قعر الحفرة، أميل عليه، أحاول رفعه، فلا أقدر، يد شلاّء، ويد محطمة، وأراه، يضغط على الأرض بظهره، يضغط، وينهض بكامل جذعه، في اندفاع، لا أعرف، هل الأرض هي التي دفعته فنهض؟
وألتفت، وإذا هو الآن ورائي.
أبو خالد يناديه مازحاً:
"يا أبو صخر، لا تنس النقطة فوق الفاء"
"إذا نسيتها دمي يكتبها"
ويرد أبو خالد:
 "دمك له وقت آخر، لم يحن بعد"

أبو صخر يضغط بإبهامه على علبة الدهان، رائحة الدهان تنعشه، الحروف على الجدار تمتد أمامه، تمتد مروجاً وحقولاً وبيارات، تزهر برتقالاً، هو وسناء يتراكضان، يتدحرجان على الهضاب، يتسلقان شجرة برتقال.
ويأتيه صوت أبو خالد:
"يا أبو صخر، الكتابة في غيابهم ليس لها معنى، أريد أن يروني وأنا أكتب"
"الآن تأتي سياراتهم، وينهمر عليك الرصاص"
الأمر محير حقاً، هل نسي أبو طارق كلمة السر: "يا حسن؟" هكذا اتفقنا، إذا ما رأى أي سيارة من سياراتهم قادمة، أو أي مجند، فليهتف؟ ولكن ما بالهم لا يأتون؟
مقر الحاكم العسكري هناك، عند الطرف الآخر من الساحة، وما هو ببعيد.
ويلتمع في ذراعه ألم شديد، فيصرخ:

"آخ"
ويلتفت، الشيوخ والأطفال والشباب يقفون، ينظرون، عيونهم تتألق، وجوههم كالربيع، وهم يقرؤون الكلمات بكتبها على الجدار، والكوفيات على رؤوسهم يداعبها النسيم.

الشارع يضج بالحركة، سيارات ومشاة وحوانيت وساحة، صخب وضوضاء وضجيج، ولكن أين هم؟ أين سياراتهم المصفحة وجنودهم؟ الأمر اليوم مختلف.
سنة كاملة، وأنا أشتهي قذفهم بحجر، ولكن يدي لا تساعدني، ابني صخر في الثانية عشر، يخرج أمامي، يقذفهم بحجارة، وأنا لا أقدر، يد مشلولة، ويد مكسورة، قالوا لي: يكفي صوتك، تهتف، تنادي، تحذّر، تنبّه، ولكن لا، أكثر من مرة حاولت قذف حجر بقدمي، ولكن لم أقتنع، أود لو رميت ذراعي، لو قذفت بها في وجوههم، منذ يومين فقط رفعوا القضبان المعدنية من ذراعي، ربما رفعوا القضبان المعدنية من ذراعي أبو طارق بعد أسبوع.

أبو ماهر قال لي: سنرسلك إلى الخارج للعلاج. قلت له: لا ضرورة. هناك من جراحه أخطر، وهو أولى مني بالعلاج في الخارج. على كل حال الشباب ههنا تدربوا على كل شيء، الواقع علمهم، وهم طوروا خبرتهم وأدواتهم بأنفسهم، هم قادرون على إجراء كل العمليات، غداً سيتعلم هؤلاء الشباب تركيب ذراع بدلاً من أخرى مبتورة، وغرقنا في الضحك.

سنبيع ونشتري ونتزوج وننجب ونبني ويصاب بعضنا ويستشهد بعضنا الآخر، ولكن لابد بعد ذلك…
والآن، لا أكاد أصدّق، الألم يشتد.
"يا أبو خالد، أسرع، الألم في ذراعي يشتد، يجب أن ننتهي بسرعة، أحسُّ كأن أحداً ورائي يطعنني بخنجر"
"لا تقلق، هل نسيت الحفرة؟!".

لن نموت يا أبو صخر، لن نموت، أنا لا أنسى هذا الجدار، رشقة رصاص دوّت وراءنا، وأهوي على الأرض مع ركام من الشباب، وأنا لا أدري، هل أصبت أم لم أصب؟ أرمي بنفسي، ولطخ الدماء على الجدار، دم يشخب نازفاً من جراح، صدور تحشرج، رعشات أخيرة، موت وانطفاء، أحسّ بركام الجثث من حولي، وأحسّ بشيء بارد كالصقيع ينسلّ في كتفي، ثم يتوهّج كالتّنور، ثم أحس ببقعة ساخنة عند الكتف تبل القميص، البقعة تكبر وتكبر، النار تشتعل في اللحم، أرى الدم يقطر من أصابعي.
أدرك أنني أصبت، وأدرك أنني لم أمت.

عينا أبو طارق تنتقلان ما بين أول الشارع، وآخره، تستقران في البعيد، عند طرف الساحة، حيث الحاكم العسكري.
من هنا أو من هناك، لابد أن يأتوا، ولكنهم لم يأتوا؟ ليست هي عادتهم، لابد أنهم رأونا.

الشارع يضج بالحركة.

عجوز تدبّ على الرصيف بخطا وئيدة، تتوكأ على عصا، تقف أمام الجدار، تتأمل طويلاً الكلمات المكتوبة.
"أنا لا أقرأ ولا أكتب، ولكن أعرف، أعرف، بارك الله فيكم يا أولادي".
شاب بقربها يصيح غاضبا:
"إلى متى؟ سنوات مرت ونحن كلمة وحجر وهم دبابة ومدفع؟".
تلتفت إليه العجوز، تنظر في عينيه، وبصوت متهدّج تتكلم:
"الحق معك يا ولدي، ولكن، مع ذلك، لابد، أقسم بالله، لابد، إذا ما رأيتها أنا، فسوف تراها أنت، لابد من الدولة، لا تقلق، يا ولدي".
وتمضي.

أبو خالد يلتفت إلى أبو صخر:
"هيا يا أبو صخر، انتهينا"
"لحظة واحدة فقط، للمرة الأخيرة فلسطين دولة، عربية حرة مستقلة، سأملأ بها الجدار، بل العالم".

يده إلى أعلى، وهو يكتب.
وتدوّي طلقة، الرصاصة في الظهر، تخترق القلب.
"يا حسن".
أين النداء؟ أين أبو طارق؟.
ويهوي الجسد على الجدار، يلتصق به، بقعة دم كبيرة ترتسم على الجدار، والجسد ينزلق رويداً، الذراعان تتشبثان بالجدار، الأصابع متعلقة بـ "فلسطين"، والجسد يأبى السقوط.

أبو خالد يمد يديه إلى الجسد، يحمله قبل أن يبلغ الأرض، وينطلق به مع عشرات الأيدي، ترفعه إلى أعلى إلى فوق.
الرصيف والإسفلت والجدران والأيدي كلها تشظّت حجارة تنهمر على ثلاثة ركضوا نحو الطرف الآخر من الساحة.

أحدهم يلف رأسه بكوفية، الكوفية تطير، يحاول تثبيتها، لا يعرف، الكوفية تسقط عن رأسه.

وإذا على يأفوخه قبعة صغيرة.
الحجارة في إثرهم ترجمهم، وعلى الجدار ما تزال بقع من دم، وكلمات تنبض: فلسطين عربية، فلسطين حرة، فلسطين دولة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى