الخميس ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم زياد الجيوسي

خلاخيل

من ناصرة الجليل الفلسطينية وعلى مركب النسمات الغربية العابقة برائحة البحر السليب، كانت الكاتبة دعاء زعبي خطيب تحط في أمسية ناعمة النسمات في عمًان عاصمة الأردن الجميل، في رواق بيت الثقافة والفنون بين حضور جميل لتتمازج نسمات ضفتي النهر المقدس، في حفل اشهار كتابها الأول: "خلاخيل" الصادر عن دارة المها للنشر والترجمة في الناصرة، حيث بدأ الحفل بحديث موجز للشاعر مختار العالم الذي قال: لن أتحدث عن الكاتبة وعن الكتاب، فشهادتي ستبقى مجروحة لصلة القرابة التي تربطنا، لذا سأكتفي بمقاطع من نص لي تولد وأنا أجول كتاب خلاخيل وأستعيد ذاكرة الطفولة التي جمعتني بالكاتبة دعاء.. (رنّات خلخالٍ بدرب الذاكرة /لمّا تزل بالنبض بعدُ مسافرة/ لحنٌ يموسقُ حُسنها ودلالها/ حتّى انتشى فكرٌ يداعبُ خاطرة/ سامرتُهُ والليلُ يأكلُ بعضهُ/ أوقاتهُ مع نبض قلبي ساهرة/ أفشيتُ سرّي والجنونُ يعضُهُ/ فينزُ سحرًا من جمال الساحرة..)، ليتحدث بعده الكاتب والناقد أحمد الغماز، فيقدم نبذة عن الكاتبة ومسيرتها وحياتها، وقراءات في بعض نصوص الكتاب أشار فيها لما وراء النص من جماليات الصور والفكرة، كما تحدثت الكاتبة عن بعض المحطات التي أدت لإشراقة مولودها الأول في عالم الكتابة، وقرأت عدة نصوص من كتابها على انغام الناي وعزف العود، وبدأت القراءة بمقدمة تعريفية عن الكتاب: "بخطى وثيرة، حالمة، ثابتة، تجوب خلاخيلي طرق الذاكرة، وذاكرتي لا تحتاج لأوراق ثبوتية كي تؤكد حقها في قسمات المكان، وفواصل اللغة، وشوارع مدن أرهقها سير العسكر وترنح الحب فيها.. هي أقمار أضاءت أقدام روحي وحثتها على السير فسارت، معلنة حربها على الصمت والنسيان".

هذه المقدمة في بداية الكتاب تضعنا مسبقا بالهدف من الكتاب والرسالة التي حملها، ويلي ذلك الاهداء الذي قالت الكاتبة فيه: "لسنوات عمري التي مضت تنتظر هذا الحلم فأهدتني الكثير لأكتب فكتبت. ولتلك التي ستأتي بعد، علها تكسر ما تبقى لي من لحظات شوق وجدران صمت"، وفي جولة سريعة في الكتاب الذي حوى عدد كبير من النصوص تراوحت في تصنيفها بين شعر وقصة وخاطرة وومضة، جعلتها بوح روح بعيد عن التصنيفات الأدبية مما يوقع الناقد بمطب اشتباك النصوص إن تناول الكتاب بقراءة نقدية، بدأتها بــ "رقصة الروح" وأنهتها بالحديث عن أبيها الذي رحل في نص "أبي"، كانت نصوص الكتاب حافلة بالرمزية والمعاني خلف السطور معبرة عما يجول في داخلها من براكين الغضب من احتلال طال، فـهي "دارت ودار معها زمانها في رقصة غجرية مجنونة لا تشبه الرقص.. غابت عن كل شيء، مسحورة، مأسورة، تصارع قدرًا أحادي الرقص"، فهي رقصت على من ألم جرحها الوطني، فجالت في كتابها بين ذكريات الطفولة وبين من غادروا الوطن وعاشوا في الشتات الفلسطيني، وبين من هجروا وبين من يحلمون بالعودة.

حرب لبنان لم تغب عن ذاكرتها ولا المجازر التي تلتها في صبرا وشاتيلا، ولا غابت بيروت ولا مجد الأندلس، ولا ذلك الصهيوني المعادي لكل ما هو عربي على مقاعد الدراسة المشتركة الذي ذهب للحرب ولم يعد، ولا مظاهرات العرب تضامنا مع شعبهم في لبنان ومطاردتهم من شرطة الكيان الاستيطاني، ولم تغب عن لقاء الأهل بين الضفة الغربية والعمق الفلسطيني في ظل هزيمة 1967 حين أصبحت كل فلسطين تحت الاحتلال، كما تحدثت عن قصف مدرسة بحر البقر في مصر كي لا تذهب الذاكرة في ظل زمن أصبحت الخيانة فيه وجهة نظر، وعن الشام الجريحة؛ ولم تغفل أن تتحدث عن بعض من الحياة اليومية العربية في الوطن الذي ارادوا أن يشطبوا ذاكرته فتحدثت عن خميس والعرق سوس والستيني بائع الكعك بالسمسم، وعن الرعب لدى المحتلين في مقهى حين سمعوها تقول الله أكبر وهي تروي حكاية لصديقتها عن أمها، وعن رفض فكرة الحب بين جندي احتلالي وفتاة عربية، وعن ذاكرة اطفال المرحلة وعن الشاعر الكبير المناضل توفيق زياد ابن الناصرة.

حكاية طويلة بل حكايات روتها الكاتبة في "خلاخيل" تحتاج للكثير من الحديث عنها، لكن للقارئ حق أن يقرأ بنفسه نصوص الكتاب ويحلق معها ومع الروح التي باحت بها وكتبتها، حكايات الوطن والروح والقلب والأحاسيس والمشاعر والطفولة والنضوج والوعي الوطني المبكر تحت احتلال يبذل كل جهده لاستلاب الأرواح كما استلب وطن ننشد له القصائد فقالت الكاتبة في أحد النصوص: "وهل يحتاج الوطن لقصائد يضيئها ورد أنثى؟"..

في خلاخيلها أخذتنا الكاتبة لفضاءات قريبة قرب الوطن من القلوب، وبعيدة كما بعد القناعة أنه يمكن أن تكون هذه الأرض لغير اهلها الذين قطنوها منذ ضرب كنعان أول ضربة معول وبنى مدينة القمر أريحا، بأسلوب سهل بعيد عن التعقيد وإن حفل بالرمزيات الكثيرة وما وراء الكلمات، فالنص الأدبي إن كان مباشرا تحول إلى الخطابة، وإن ابتعد عن تكثيف اللغة تحول إلى سرد ممل، وهذا ما سعت الكاتبة أن تبتعد عنه، فكانت خلاخيل كما حديقة ورود، لكن كل وردة فيها لم تخلو من وخز الأشواك، فكانت خلاخيل باكورة عودتي للكتابة بعد غياب لأسباب صحية.
ونهاية حديثي، خلاخيل كتاب أردات به الكاتبة أن تُسمع صوت خلاخيلها الكنعانية الجذور بعد طول صمت حتى فاض بها الكيل، فهي أرادت أن تدق جدران الخزان لمن يجب أن يسمع، فهي كما قالت في نصها "رقصة روح": "بدأت تهذي بجنون الكلام، وابتدأ الرقص".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى