الثلاثاء ١١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم زكية علال

ذاكرة من أربعة طوابق

كانت أنفاس الغرفة تسبح في لون رمادي عقيم وتتحرك داخل ذاكرة تصعد أدراج العمر لتختصر كل المسافات
التي باضت وأفرخت في عش خرافي ... فالستائر أسدلت على تفاصيل أحلام أخذت لون فراشة متمردة ، رفرفت على شرفات الروح ، ثم سحبت ظل ألوانها لتحط بها خارج حدود الأمل ... والنوافذ أغلقت على همس ابتسامة تأرجحت طويلا ثم هوت كعصفور ظل يعتقد أن السماء مملكته وعشه الكبير الذي لن يتنازل عنه ، إلى أن فاجأته حجارة وجع قاتل فهوت بعرشه الرخامي وزلت قدم ظنه ، فكان طعاما شهيا لسخرية العبث ...

لم يكن يسمع في الغرفة إلا طقطقة ذكريات وهي تسحب نفسها متعثرة مرة بهمس كان يشرق هنا ، ومرة بدف
كان ينبت هناك ، ومرة أخرى بحرارة أنفاس تختلط بهمهمات الروح .
كان هو قد فتح حقيبة كبيرة في عرض السرير ، وراح يجمع فيها ما تناثر في هذا العش الدافئ وما تدلى على جدار
ذاكرته زمنا طويلا وسد كل ممراته : بدأ بانكسار فرحته الأولى وهو يخرج من البوابة الكبرى للجامعة ، كان يحمل شهادة
جامعية عليا تدل على تفوقه ونبوغه المتميز الذي ظل يلازمه ، وفي يمين القلب المتوهج يقبض بقوة على فرحة أمل في تكون
تكون هذه الشهادة مفتاحا لكل الأفراح الممكنة في ربيع مقيم في مشرق القلب ... لكن تناسل الأيام أحاله على شوارع باردة
امتصت حرارة أحلامه وعبثت بدمه ليغدو جسما متكورا تتناقله الأرصفة الطاغية وتسنده الجدران الأسمنتية القاسية ، وتلهو
بأحلامه قدم السخرية وهي تدحرجه من مقهى إلى مقهى وتستبيح دم الرجاء الذي ظل مطمئنا في عروقه .

ثم مدد في الحقيبة فرحته الأولى وهو يحصل على أول تعيين كمتعاون مع إذاعة محلية بالجنوب ، كان هو يزودها
بأخبار ساخنة عن مدينة يحاصرها الصقيع ، وكانت هي تمنحه أجرا زهيدا لايكفي ثمنا للأوراق التي يحرر فيها تفاصيل
الأخبار . كان كلما حرر خبرا مختصرا أحس أنه يحرر معه مساحات واسعة للخراب في داخله فتأتي على كل حقول
الصفاء الروحي الذي كان يسبح فيه ... وكلما نقل خبر زيارة مسئول إلى قريته ، أحس ملايين الخلايا تتخرب في
فضائه لتحدث خللا في تفكيره ...كان يتدلى على جدران وطن وهو يساعد في تزييف الحقيقة ...

تعلم من عمله كمراسل – كيف لمدينة يابسة عقيمة أن تدب فيها الحياة وتتجدد فيها خلايا الإصباح ، بل وتعود –بعد اليأس- إلى
التناسل لمجرد مرور مسئول على هامش شارع عابر ... كم مرة حاول أن يخترق الحزام الأمني والدائرة البرتوكولية
ويعترف للرئيس بصوت متجبر عال : ً قبل ساعات فقط لم تكن هذه الأشجار تنبت هنا ، ولا الجدران كانت تقف على هذا
هذا الزي الجميل ، ولا الشوارع كانت ترفل في كل هذه البهاء ، إنها صورة مزيفة لعابر مبرمج . ً لكن لا يدري لماذا
يتنصر عليه الصمت ، ويهزمه الجبن ، مع أنه لن يخسر شيئا ... ولا يملك ما يخاف خسارته ، فحياة روتينية باردة
لا تستحق كل هذا الجبن في المحافظة عليها ... وعندما يعود أدراجه في المساء ويخلو إلى لحظات الصدق كان يتساءل
ببراءة طفل ساذج : ً هل يعلم هذا المسئول أن ما رآه اليوم مجرد لوحة رسمتها أياد تتقن فن التلاعب ، ولكنه يتجاهل
الأمر ليرى انتصاره الخرافي في مدينة تشبه الأسطورة ... أم أن البرج العاجي الذي يسكنه يجعله يعتقد أن كل المدن
والقرى التي يعبرها لابد وأن تكون عاجية ... ؟

ولم ينس أن يدس في الجيوب الخفية للحقيبة أول انكسار لقلبه البكر ... التقاها خارج حدود خيبته ، فكانت فرحته
الأولى ، وأحس أنه ولد مع أول لقائه بها ... تعلم في مساحة قلبها كيف يحبو نحو الأمل ، وكيف يخطو خارج دائرة
الوحدة ... علمته الحروف الأولى للفرح ...كان يتهجاها في أول الأمر لكنه أتقنها فيما بعد ، فنطقت أسارير وجهه ،
وعبر جغرافية التيه ... لكنه فوجئ بها ذات مساء وهي تخبره أن زواجها من ابن عمها قريب ، فالعائلة ملت عجزه
المستمر في وضع إطار شرعي لعلاقتهما الطويلة ... فترنح ثم هوى ليعود قعيدا كما كان ... أخرس القلب ، مشلول
الدم ، غائب الملامح ...
إلى أن اقتحمت حياته... لم تكن حبه الأول ، لكنها كانت تلك الإشراقة التي مسحت طبقات الجليد التي تراكمت عند بوابة
قلبه ومنعت عنه الدفء زمنا طويلا ... استطاعت هي أن تهوي على كل هذا الصقيع الذي كان يزأر في جنبات قلبه.

قالت له وهو يتقدم لخطبتها :
 ولكننا لا نتشابه في أمور كثيرة ...
رد وهو يعانق هذه البراءة التي تشع من عينيها :
 الزوجان كما الصديقان ، لايتشابهان ولكنهما يلتقيان ...
ردت ببراءة فاضحة :
- لم أفهم ...
قال وكأنه يشرح لها نظرية في علم الإجتماع :
 عندما يتشابه شخص مع آخر لايكمله ، بل يعيده ... ينسخ صورته فيه ، لكن عندما يختلفان يلتقيان عند بوابة
التكامل ليرقع كل منهما ما تمزق من الآخر ويخيط لحظات السقوط فيه ...
لم تستوعب شرحه ، لكنها قبلته زوجا، احتوته بكل الأمومة التي تختزنها وهي طفلة تحضن دميتها وتلعب معها دور الأم
الحنون ...

وهاهو اليوم يجمع حطام ذكرياته في حقيبة كبيرة ، ويقرر أن يغادر جغرافية عينيها ويعبر حدود دفئها وهو يعترف
لها :
 خارطة عينيك ما عادت تتسع لأحلامي ، وفضاؤك المحدود يخنق تطلعاتي.

لم ترد عليه ... كانت تقف مستندة إلى حائط انكسارها المفاجئ ، وصورة حسرتها تنعكس على المرآة المقابلة لخيبتها ،
كانت تتفرج عليه وهو يحكم قفل الحقيبة الكبيرة ويحملها بعسر ... عندما كان يخطو نحو باب الغرفة المتهاوية اصطدم
بابتسامة ولده الذي يغرق في نوم هادئ ... ابتسامة حاصرته كحمم البركان أو صدمة الفيضان ، لكنه عبر عليها ولم
يلتفت خوفا من الضعف ورغبة في البحث عن ذاته الهاربة .
عندما وصل إلى المطار كان لابد للحقيبة الكبيرة أن تعرض على التفتيش وان تمر على السكانير ،لم ينزعج فهو
بعيد عن كل الممنوعات والمحرمات ... لكنه فوجئ بأعوان الجمارك وهم ينادونه إلى مكتب خاص ،و اصطدم بقرار لم
يخطر على باله :

 لك أن تختار بين السفر وهذه الحقيبة ... إما أن تعبر أنت وإما هي ، فالطائرة قد تهوي بكل هذا الثقل الموجود
فيها.

لم يفكر ... بل ترك طوابق ذكرياته تنهار في بهو المطار ليسافر شجرة عارية مبتورة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى