السبت ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

الراتب الأول

النقب!؟..

البادية!؟..

نعم إلى عاصمة النقب...

وإلى مدينة بئر السبع...

لقد سمعت عنها كثيرًا.. ما أروعها من لحظات!!.. سأسافر إلى حيث يعيش البدو.. وسأشاهد الخيمة.. والناقة.. والناي..

هذه خدمة عسكرية؟!

فليكن.. هذا ليس أسوأ ما في الوجود..

ولكن أنا لا أعرف أحدًا هناك.؟ وأين سأسكن؟

بإمكانك أن تتصل بأحد المدرّسين وتبيت عنده مدة قصيرة حتى ترتب أمورك.. هذا رأي مفتش المعارف..

عظيم هذا رأي صائبٌ..

حمل حقيبته وغادر قريته الوادعة الهادئة التي لازمها وعشرين سنةً. فرسم في ذهنه كل ذكرياته وذكرياتها.. ورسخت في دماغه صورتها وصور أهلها بعد أن تصارعوا مع الزمن فهزمهم واحدًا واحدًا. وصوَّر في خياله شوارعها، وبيوتها وأشجارها التي استأنس بها فآنسته.. وتذكر الفاجعة الكبرى التي أحلّت بها ففجعتها بتسعة وأربعين شهيدًا.. رصاصات الغدر أزهقت أرواحهم فطارت عاليةً في السماء تشكو الظلم إلى بارئها.. إنها المرة الأولى التي سيغادر فيها قريته "كفر-قاسم"، قرية التاريخ والوجود.. قرية الزيتون والفستق والبرتقال.. وهي المرة الأولى التي سينام فيها خارج بيته.. وهذه المرة الأولى التي سيفارق فيها أمه وأباه واخوته.. وأصدقاءه. غادر وهو يفضي إلى نفسه الخافقة فيقول:

 "الله يجزيك الخير يا أبي. . أصحابي استلموا وظائفهم منذ أسبوعين وعُيِّنوا في قراهم.. نعم في قراهم.. قرب بيوتهم.. أما أنا "الغلبان" فلا واسطة ولا يحزنون.. مش مهم.. الله يعوضنا عن كل شيء..

وتذكر قول والده وهو يسأله:

  "أتحب أن أُهان يا بنيَّ؟ هل يرضيك أن أطرق الأبواب المحرّمة؟؟ كرامتنا فوق كل شيء يا "راضي"...

انتقل "راضي" من مكان إلى مكان.. كان ينـزل من حافلةٍ ويركب أخرى.. يخرج من محطةٍ ثم ينزل في محطة ثانية. وهو يحس أن عيون هؤلاء الجنود - الذين يتكدّسون داخل الحافلات وهم يسافرون إلى قواعدهم العسكرية- تراقبه.. وكانوا جميعًا يتحادثون بالعبرية.. فالتزم الهدوء وامتنع عن القيام بحركات تثير الانتباه والشك، فاستحضرته الذكريات إلى حكاية والده أثناء عودته من عمله قبل بدء المجزرة بلحظات قليلة، ولما داس عتبة بيته خرجت أولى الرصاصات القاتلة. وانكب الناس يغلقون الأبواب وهم ينتظرون عودة أحبائهم من أعمالهم.. فمن عاد .. عاد. ومن حُصد، قُبر من غير جنازة.. قبرته أيادٍ غريبة.

ذكريات لم يستيقظ منها إلا بعد أن وصل إلى المدرسة.. هي ذات المدرسة التي حدثهم عنها معلم اللغة الإنجليزية في الصف السادس.. وتقع في ذات المكان الذي وصفه لهم.. على ربوة تملكها عشيرة تقيم في الجنوب الشرقي من بئر السبع. تدمدم عليها حرارة الشمس الساطعة فتقول لها:
 ابشري أيتها الأرض النائية، اغسلي وجهك بالماء الزلال..

وانهضي وهللي وحيّي "الظِّيف" الذي جاء ك من بعيد من أرض الحضر.. اقبلي هذا العنصر الجديد في حِماكِ، وتقبلي منه البذور التي سيغرسها في أرضك كي تنبت فتنمو وتثمر. وكلي من طيبات هذه الثمار...

كانت قوافل الحمير التي تثير النقع خلفها دون أن تأبه بهجير الصحراء، كأنها جيش زاحف أدرك الظفر جهاده، أو كأنها في حفلة سباق للحمير المنهكة من طول المسافة وصعوبة السباق، تنقل الطلاب إلى المدرسة وهي تنوء بهم وتنأى عن مضارب خيامهم- مندفعةً نحو المدرسة. وتأتي بهم من جميع بقاع الأرض اليابسة.. لم تكن الطريق بأفضل من طرق قريته. حالها كحال طريق البِرْكة، تنتشر فيها الحفر الصغيرة منها والكبيرة، وتحفها الحجارة والصخور من جانبيها، وتغمرها أنواع كثيرة من الحصى..

وثمة قطعان من الماشية المنتشرة على سفوح الروابي المزروعة بالحجارة الصماء – ترعاها فتيات قاربت أعمارهن من الخط الرابع عشر وهو خط الزواج في تلك البقاع. لمح واحدةً تجري وراء نعجةٍ لتردها إلى صفوف القطيع، تناولت حجرًا وضربتها به، ثم رجعت طائعةً مستسلمة. وشاهد ثانية يبدو أنها في سن "فاطمة" ابنة عمه، تجلس على حجرٍ كبيرٍ وتمسك في يدها عصًا، تراقب أغنامها واضعةً يدها الثانية على خدها كأنها تفكر في الحال التي آلت بها إلى هنا.

دُقَّ الجرس – وكان جرسًا يدويًا وقد ذكّره ببائع الكاز المرحوم "عبد المعطي" حين سرق ابن عمه الجرس وأخذ يطوف به الأحياء فتسارع النساء بالخروج تطلب كازًا، فلما لم تجد إلا "فراسًا" كانت "تَكْشُبُهُ" بأسوأ ألفاظ الشتائم وأصعب أنواع الدعوات- واصطف جيش الطلاب في طوابيرهم وشرع أحد المعلمين يغترف من قاموس النظام المدرسي حبن ساد الصمت وخيم جوٌّ من المهابة- وصبُّ لهم من وجباته الصباحية الساخنة .. وصاح بأعلى صوته آمرًا كأنه قائد فرقة عسكرية:

  انتظم!.. أسبلْ!.. استرح!.. استعد!..

تحدث المدير مع "راضي" وأوصاه أن يُعَلِّم طلاب الصف الرابع والخامس والسادس، اللغة الإنجليزية ويُدربهم على نطقها بصورة صحيحة وكتابتها من غير أخطاء إملائية، وأن لا ينسى قبل كل شيء أن يغرس في نفوسهم بذور الشموخ والقيم.. وباشر المعلم عمله..

كان الراتب متواضعًا.. ولا بد أن يكون الراتب الأول في حياة الشاب كالثمرة الأولى الناضجة يقطفها الفلاح بعد أن يعتني بها مدة طويلة.. فتخطف بصره فيظل يتصورها ويحلم بها شاعرًا أن عمله لم يذهب هباءً منثورا.. جميل أن يحصل الإنسان على مال.. ولكن الحصول على الراتب الأول هو أجمل وأبهج ما في الوجود.. ست مائة شيكل!! نعم ست مائة شيكل سوف يضعها في يد والده الذي عمل وكدَّ وتعب ليرى ابنه مشاركًا في إعالة الأسرة.. ولطالما تمنى أن تأتي هذه اللحظة ليساعد والده في حمل الأعباء الثقيلة، والذي أنفق عليه الكثير، فأحسَّ أنه آن الأوان لردّ الجميل.. سوف يحتفل بها ويدعو اخوته جميعهم للمشاركة في هذا الاحتفال. سوف تملأ رائحة الشواء جو الحارة.

وكان المعلمون "الشباب" يخرجون في ساعات العصر إلى المتَنَزّه القريب لقتل الوقت أولا، ثم لممارسة اللعبة التي أحبوها مع بعض الشباب من اليهود الذين قدموا إلى بئر السبع من روسيا ومن جورجيا وحطوا عصا ترحالهم فيها.. لعبة كرة القدم.. ولم تكن ثمة لعبة أحب إلى نفسه من تلك اللعبة التي تجعله يتراكض معهم وراء كرة مطاطية متدافعين ليركلوها بأقدامهم.. حقًا مسلّية..

سمعة الحي الذي كان يسكنه راضي لم تأت من فراغ.. الفقر.. السرقات.. المخدرات.. الزنا.. كلها جعلت أسعار الشقق في الحي الواقع شمال المدينة والذي يطلق عليه اسم "الحي الرابع"، رخيصة.. ولأن العائلات الشريفة عزفت عن السكن فيه انخفض الأجر الشهري أيضًا، فتدفقت فيه جموع الطلبة والمعلمين العرب الوافدين من الشمال. بنات الحي التي لا تقارن إلا بالزهور وتنكشف منهن أصول نهودهن، سقطت بين يدي الرذيلة.. نساءه اللائي يعرضن نصف أردافهن يترددن على حاويات القمامة كل صباح وكل مساء فينبشنها مائة مرة للبحث عن بقايا طعام أو فتات خبز وقعت بين فكي الجوع.. شبابه المدخنون الذين يجلسون كل مساء على حواف الطرق ولا يهنأون إلا بزجاجات خمر، عزفوا عن العمل وامتهنوا حرفة النشل، والتسول والاحتيال.. فالمال مال الله.. أيعقل أن يكون هذا.. في عصر مثل هذا.. وفي بلدٍ كهذا..

كان راضي يرغب في أن يشدَّ عزمه ويتجرأ ويطلب من والده أن يخطب له "لبنى" ابنة خاله.. لبنى ذات العينين العسليتين والوجه العاجي والأنف الرقيق والخدود الناعمة.. كثيرًا ما تمنى أن تكون من نصيبه.. يحتضنها ويبصم بشفتيه قبلة رقراقة لا يظمأ بعدها أبدًا.. إنها أجمل ما في الكون من العذارى.. إنها أجمل ممن تغنى بهن الشعراء.. أيعقل أن تكون هند وعبلة وليلى أجمل منها!! وكثيرًا ما دعا الله في سره أن لا تضيع منه.. أجل.. سيفعل ذلك.. وهل في هذا عيب!!.. سيطلب منه ذلك ولكن ليس قبل أن يسلمه الراتب الأول.. نعم، لقد أخذ يشعر بوجوده منذ اليوم الأول الذي وطئت فيه أرض النقب..

ذات ليلة خميسٍ غادر الشباب شقتهم، واتجهوا إلى قرية تل السبع. حملوا معهم هديةً ثمينةً اشتروها من المجمع التجاري الكبير الذي بني حديثًا بجانب محطة الحافلات المركزية. وكان الأستاذ "سلامة" قد أعدّ لهؤلاء "الفلاحين" طعامًا دسمًا جعل شهية الصبية تنفتح ونفوسهم تتمنى لو أن الطعام يقدم إليهم كي يلتهموه في دقيقتين.. لأن الزيارة لم تكن مجرد زيارة.. وهي ليست زيارة صدفة.. هي زيارة تهنئة بالمولود الجديد "أحمد".. وهي المرة الأولى التي يزور المعلمون فيها بيته. إذن ينبغي أن يبيض وجهه أمام "الفلاحين"، ولذلك دعا أقرباءه لاستقبالهم في "الشِّقِّ" ومشاركتهم في تناول العشاء. كان من عادة البدو أن يتناولوا الطعام بأصابعهم.. لم يكن يدرك أن هؤلاء "الفلاحين" لا يتناولونه إلا بواسطة آلات معدنية.. فطلبوا الملاعق فلُبي الطلب وأحضرت لهم في الحال.

لم تدم الزيارة إلا ثلاث ساعات فقط.. إذ شعر الشباب أنهم وقعوا في ضيقٍ وحرج شديدين، لأنهم لم يكونوا على دراية بطباع البدو وعاداتهم.. ومعرفتهم بها هي معرفة سطحية.. فما أن استأذن "علي" باسمهم بالانصراف، حتى شعر الجميع بالفرج والارتياح..

لم تكن شقتهم حين غادروها مضاءةً!! وزمان التبذير ولّى منذ مدّة. والمعلمون في غربتهم الأولى يحسبون لكل قرش ألف حساب. لأنهم بحاجة له ليخفف عنهم من عبء أجرة السكن وضريبة البلدية عدا عن فاتورة الكهرباء والتلفون والغاز.. ولكن النور المنبعث من نوافذها المفتوحة يدل على أن هناك من دخلها في غيابهم!! من يكون هذا؟ صاحب البيت؟؟ لا لا.. لأن "السكاكر" قد غُيّرت منذ اليوم الأول.. ولا يمكن أن يدخل البيت من غير إذن منا. هل اقتحمته الشرطة لأننا عرب؟ وهذا أيضًا لا يعقل، لأننا نسير على الصراط المستقيم. والجيران يعرفون أننا معلمون. لا يضايقوننا ولا نضايقهم. إذن من يكون يا تُرى؟ ما أن فُتح الباب حتى بدت الشقة كأنها أشبه بساحة حرب انتهت فيها المعركة وانسحبت منها الجيوش منذ هنيهة. الخزانة أُفرغت من كل شيء، الملابس تناثرت في جميع الاتجاهات والكتب تكدست في زاوية الصالون، والأواني بُعثرت على مصطبة المطبخ. واختفت الأجهزة الكهربائية الصغيرة عن الوجود. وتذكر راضي راتبه الأول فأسرع إلى حقيبته فوجدها قد تحولت إلى أشلاء. تحسسوا المكان فوجدوا نافذة المطبخ قد كُسرت وعليها بقع من دم اللصوص. ثم أُستدعيت الشرطة.. ولكن لا يزال التحقيق جاريًا حتى الآن.. نعم إلى الآن.. ولا يزال الشباب في انتظار الجواب. وكان هذا الحادث قد مرّ عليه عشرون خريفًا. لم يتذكره راضي إلا بعد زيارته الأخيرة لبئر السبع..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى