الأربعاء ١٠ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

مدرسة بابا طاهر

مدرسة بابا طاهر (1)

في هذا العام الدراسي كنت عازما أن لا أدرّس أكثر من 20 ساعة في الأسبوع، وهي الساعات التي أحصل على راتبي إزاءها.

ووضعت برنامجا للقراءة والكتابة وللأسرة ...

ثم رأيت أبا وسام وهو مدير مدرسة في المتوسطة الأولى، فأخبرني وقد مر من العام الدراسي ما يقارب الشهر، أن طلاب أربعة من صفوفه بقوا بلا مدرس رياضيات.
وبين الإحساس بالمسؤولية، والصداقة، وإضافة الإيراد الشهري إزاء الساعات الإضافية، وجدتني في مدرسة أبي وسام أطالع الجدول الدراسي.

وبعد دقائق كنت بين الطلاب في الصف السابع.

كنت قد درّست في المتوسطة الأولى قبل أكثر من عشرين عاما، لكن هؤلاء الطلاب يبدون أصغر من أولئك، هكذا بدا لي!

تقع المدرسة والتي تسمى (بابا طاهر) في الطويجات، أحد أحياء المحمرة.

والطويجات حي لا تحتاج أن ينقل لك أحدهم عن حرمانه وفقر ساكنيه، يكفيك أن تدخل الحي فيظهر أمامك الفقر والحرمان جليا.

وجدت الطلاب يتكلمون فيما بينهم باللغة العربية، ولا يعرفون من الفارسية إلا لماما.
وخذ مثلا:

1- آقا ميرم آب ميخورم يكم دیگه ميام؟!*
2- اين سؤال را يك بار بيشتر توضيح كنيد!
3- هر روز بايد غايب داريم!

................

*: هذه جمل فارسية هزيلة جدا، حيث تُضحك من يسمعها!

مدرسة بابا طاهر (2)

عندما دخلت الصف السابع وبدأت الدرس، بدأوا يكتبون؛ فتمشيت بين المقاعد أنظر إليهم؛ إلى ملابسهم، أشعارهم، أظافيرهم...

وجدت البعض منهم لم يقلم أظفاره، فاشتريت مقصا ووضعته في حقيبة دوامي، وبدأت أنظر إلى أظافيرهم قبل البدء بالدرس، فإن وجدت من كانت أظفاره طويلة، ناولته المقص وطلبت منه ليقلمها في سلة المهملات...وبالطبع دون أية إهانة، أو إساءة، أو نظرة ازدراء.
ومن الطبيعي أن تجد في كل صف طالبا مشاكسا يختلق الأعذار ليحتفظ بظفر خنصره!
ولا أعرف الغاية من إعفاء الخنصر من التقليم حتى عند بعض الرجال بعدُ!

يقال إن العازفين يستخدمون ظفر الخنصر للعزف على آلات الموسيقى؛ ولكن أين هؤلاء المساكين من الاشتراك في صفوف الموسيقى والعزف على آلاتها، والفقر بائن على سيمائهم؟!

وهناك طلاب يحلقون رؤوسهم حسب الموضة التي روجها لاعبو الكرة وبعض المطربين والفنانين، ولا أستطيع أنا ولا الأكبر مني من المثقفين أن ننافسهم في التأثير على الطلاب والشباب.

وبينما كان الطلاب يكتبون الدرس من السبورة البيضاء، قام أحدهم شاكيا:

آقا اين رو پدرم فحش ميده، گفتم براش فحش نده؛ منو گرصه كرد!

فكيف يفقه هذا الطالب (ومثله الكثير) دروس التأريخ والجغرافيا والعلوم ... وكلها تُدرس باللغة الفارسية؟!

فطريقة رطانة طلابي، وإنشاء الطالب الذي انتشر قبل فترة في مجموعات التواصل والذي قال فيه (مادرم سر قبله را برداشت ديدم برنج بك بك ميكند ومن فوح را دوست دارم)، قد يثيران السخرية والضحك، لكنهما في الحقيقة يستحقان الشفقة ... والبحث عن طريق حل.

مدرسة بابا طاهر (3)

أخرج من البيت عند السابعة والنصف صباحا من حي بستان، وأصل إلى المدرسة والتي تقع على بعد أقل من مئة متر من مخفر الشرطة عند الثامنة إلا ربعا.

اليوم وجدت الزملاء يتكلمون حول طالب اسمه رعد، يقولون أن لا جدوى من حضور هذا الطالب وهو لا يمتلك أية موهبة للتعلم!

لكنه اليوم وعندما طلب منه زميله: اعطني باكونه!

رد عليه موجها: ألم يقل الأستاذ إنها محاية؟!

ليس هذا فحسب، بل أصبح رعد في حصتي مصححا لغويا للطلاب. وكنت قد نبهتهم أن لا يخلطوا في كلامهم من كل لغة مفردة.

فالطالب رعد والذي لا تفارق وجهه البسمة لحظة، ذو موهبة في اللغة العربية.

ولكن لا شك أن لدى هذا الطالب مشاكل شخصية أو عائلية على الجهات المختصة أن تعالجها، خاصة وإن أخاه الأكبر قد انتحر قبل شهر بسبب البطالة والإدمان، وربما هناك أسباب أخرى لم يخبرنا بها رعد.

أما ضياء والذي يجلس جنب رعد، يكاد أن لا يعرف من اللغة الفارسية جملة واحدة.
فإن بلّغهم المساعد عن أمر، طلب ضياء من جاره رعد أن يترجم له ما قيل؛ فيلتفت رعد إليه ويقول:

تسألني وكأنني أعجمي!

فيضطر ضياء أن يلجأ إلى زميله عبدالكريم والذي يجلس أمامه.

ذات مرة دخل المساعد فأخبرهم:

هر كس ميخواهد به استخر برود، با خود حوله بياورد.

رفع أحدهم يده يسأل: آقا حوله چیه؟! ... ولك أن تتصور مدى ضرورة التدريس بلغة الأم.

مدرسة بابا طاهر (4)

يجلس ميلاد على المقعد الأخير، وكثيرا ما أراه نائما.

أسأله عن سبب إرهاقه، يبتسم ويطرق!

ثم وبعد التحري والمتابعة، عرفت أن ميلادا ذا الثانية عشرة من العمر يعول عائلته!
عائلة تتشكل من أب يبلغ من العمر 35 سنة مُبتلى بالديسك، وأم تصغره بسنتين، وأخت في الخامس الابتدائي وأخ رضيع.

يتغدى ميلاد عند رجوعه من المدرسة ثم يقصد محطة الوقود يمسح زجاج السیارات، وقد يتصدق عليه بعض السواق بنقود قليلة.

يقول ميلاد: يعز عليّ أن أرى عوز أمي وشقيقتي، أو تضور أخي.

ثم يرفع رأسه فيقول: أحصل على أكثر من مئة ألف في اليوم! (أقل من دولارين)؛ فأعطيها لأمي لتدبر الأمور!

ثم يطرق ثانية ويهمس شاکیا: بعضهم يمسك حتى عن إعطائي خمسة آلاف.

سألته: وماذا تفعلون بالمبلغ الذي قننته حكومة نجاد؟

قال وهو يشير بيده إلى الخلف: (الیارانه) تذهب لتسديد قرض الثلاجة.
سألته: وهل لديكم بيت؟

قال وهو يخفض صوته: نسكن في مخزن الخردة، نحرسه ليلا وتُحسب حراستنا بدل دفع الإيجار.

بعدها عرفت أن أكثر من طالب من طلاب الطويجات يقفون عند إشارات المرور يمسحون زجاج السيارات كما يفعل ميلاد.

ما يذوّب قلبك ألما هو أن هذه الحالات المؤلمة توجد في الأهواز، الأهواز أم النفط والغاز والثروات.

مدرسة بابا طاهر (5)

عباس السيدي، يبلغ من العمر 12 عاما، لدى عباس أربع أخوات أصغر منه سنا؛ إحداهن مريضة تحملها أمها إلى الدكتور بين الآونة والأخرى، وعندها يبقى عباس يرعى أخواته الثلاث، ولهذا يغيب عن المدرسة مرة أو مرتين في الأسبوع.

يحفظ عباس العشرات من الأهازيج والأبوذيات الشعبية، ويلقيها لي بحماس، لكنه لا يحفظ بيتا واحدا من الشعر الفارسي، علما بأن حفظ الأشعار الفارسية هي من واجباتهم المدرسية. والجدير بالذكر أن عباسا يحب الرياضيات ويستوعبه جيدا.

علي دريس، في الصف السابع أيضا وزميل لعباس، لكنه أكبر منه جثة، يذهب علي مرة في الأسبوع إلى الأهواز يشتري زهورا فيبيعها في عبادان.

يقول ببساطته: أشتري 150زهرة ب750 ألف ريال، ثم أذهب عصرا إلى شارع الأميري أعرض الزهور في أنواعها الجميلة وبأسعار مختلفة للزبائن، زهرة مريم بأربعين ألفا، الروز بثلاثين ألفا، النرجس بعشرة آلاف، الزنبق بثلاثين ألفا؛ وأرجع بعد منتصف الليل.

أما عقيل الموسوي، ظننته مدللا ومتكبرا، إن رأى سلوكا غير لائق من زملائه في الصف، يفر يده مبتسما؛ ثم يخاطبهم ناصحا:

قليلا من الثقل.

ذات يوم وجد المساعد عنده سكينا حُك على شفرتها اسمه!
وأبى أن يسلمها إلى المساعد أو المدير! يقول إنها ذكرى من والده المرحوم.
أمره المدير أن يحضر ولي أمره؛ حضرت والدته، فأخبروها إن ابنها يحمل معه سكينا.

قالت بهدوء: وما الضير؟!

ثم تابعت: عندما كنا في القرية كان أبوه يعلمه الرماية بالمسدس والبندقية؛ ليس هذا فحسب بل كان يدرب بناته -وكنّ ما زلن في الابتدائية- على الرماية أيضا.
لكل طالب من طلابي في الصف السابع حكاية، حكايات قد تختلف قليلا، لكنها تضاهي بعضها البعض، وتلتقي عند البراءة والفقر والحرمان.

مدرسة بابا طاهر (6)

باقر، هكذا يناديه الزملاء؛ أما الطلاب فينادونه بلقبه حته؛ وأنا بكنيته (أبو وسام).
باقر حته، هو مدير المدرسة، صديق مع المدرسين شفيق على الطلاب، يعاملهم بجد ورفق، والطلاب يحترمونه ويذعنون له.

يعجبني في هذا الرجل التزامه وإخلاصه وتواضعه ...

فإذا ما سُرق باب، أو سلك كهربائي، وقد تحدث هذه السرقات في المناطق التي تكثر فيها البطالة، سعى لحل المشكلة حتى لو تطلب الأمر أن يحضر يوم الجمعة.
وإن حصل عطل في الكهرباء، أحضر أدواته وصلحه بيده.

وفي غياب توفير الصيانة والترميم من جانب وزارة التعليم والتربية، جلب الدعم من الخيرين فصبغ جدران الصفوف وزين أرضها بفسيفساء ملونة.

اليوم حكى لي عن خواطره قليلا فقال:

كنا نسكن في قرية من قرى الخلفية اسمها (السفحة)، وفي موسم محرم كان يأتي إلى قريتنا (ملا) من الفلاحية اسمه سيد خضير، يذكّر الناس بحادثة كربلاء ويخطب فيهم، والمسافة بين الفلاحية والخلفية طويلة لا يستطيع الملا أن يطويها على حمار أو بغل فيرجع كل يوم إلى بيته؛ ولهذا كان يمكث العشرة كلها في بيتنا أو في بيت عمي صالح، أبي جليل.
وكان الناس يجتمعون من القرى المجاورة كـ (خر فريح، وچم الحيادر، وبيت كويش) ليستمعوا إلى مواعظ السيد.

ولم تكن المجالس آنذاك تقام إلا في محرم، وعشرة أيام لا أكثر. وفي نهاية العشرة يجمع أهالي القرى أجرة السيد حنطة وشعيرا.

وكان سيد خضير من أولئك الذين يعيرون للثقافة العربية اهتماما.

ولهذا فقد تأثر أبي من وصايا هذا الرجل وأصبح يهتم باللغة العربية وبالعلم، فكان كلما رزقه الله طفلا، شاور السيد ليختار له اسما؛ عبدالرحمن، فيصل، مصطفى، توفيق، هذه نماذج من أسماء إخوتي.

خاطبته ممازحا: تهتمون بالأسماء العربية واسم مدرستك بابا طاهر!

ضحك فتابع حديثه: ليس هذا فحسب، بل واهتم بدراستنا أيضا؛ عندما أتممت الابتدائية في القرية، أرسلني أبي إلى المدينة واشترى لي بيتا لأكمل دراستي. وبفضل أبي وتأثير الملا دخل أخوتي الجامعات وحصلوا على شهادات عليا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى