السبت ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

مجزرة في القرية

لو قدرت دموعي التي ذرفتها حين شاهدتهن يمزقن ثيابهن ويعفرن التراب على رؤوسهن، لفاقت حجم ما في البحر والمحيطات من مياه.. لم تكن الدنيا لتشارك النسوة وتذرف دموعها إلا في تلك الليلة التي أجهزوا فيها على الشهداء..

كان الجميع في البيت ينتظرون عودة أخي "خالد"، من عمله على أحرّ من الجمر.. وتطبيق نظام منع التجول قد بدأ بعد أن دقت الساعة الخامسة مساء يوم الاثنين الأخير من أكتوبر.. وكم كان الذعر بشعاً عندما دبّ في قلوب أهل القرية لحظة نادى المنادي مبشراً بالوعد المشؤوم.. الحاضر يبلغ الغائب.. على الجميع أن يهتموا بإبلاغ أبنائهم وأقاربهم الغائبين بالعودة فورًا إلى بيوتهم.. لديكم مهلة مدتها ساعتين من الآن..

ألا ليت ذلك اليوم لم يحضر.. وليت النهار لم يطلع.. وليت المرّ لم يخلق.. وليت الألم صار ترابًا.. أيعقل أن يعتصر القوم الآمنين ردحًا من الزمن؟؟

لقد اتفق الفزع والجري والصراخ على غزونا في عقر دارنا.. ولم أر إنساناً وقلقاً في مثل والدي في ذلك الحين.. قلقه الغريب مزعجٌ جدًا.. وقلقه لم يخلق من فراغ .. لقد أحسّ أن كارثةً ما ستحلّ في ذلك المساء بقريتنا فتصيبنا جميعاً.
خمس دقائق بعد الخامسة.. ثمة إطلاق نار سمع من الجهة الشمالية.. من منطقة المسجد وسط القرية.. التي هجرناها بعد أن حلّ موسم قطف الزيتون.. غمغم أبي في صوت متقطع وقد ترقرقت عيناه بالدموع:

 الله يستر!!يا ناس كل العالم في بيوتها، و"خالد" لم يعد بعد... ترى لماذا تأخر؟

وكانت الأبواب المصنوعة من ألواح خشبية ثقيلة قد أُوصدت جيدًا ثم أُسندت بقطع من جذوع الزيتون الكبيرة آملين أن لا يتمكن الجنود من اقتحامها.. وكلما انطلقت رصاصة أسرعنا لنلتصق بالأسوار الحجرية العالية التي تحيط بحوشنا والمحملة بحزم من الحطب الذي جمعناه من كرومنا المقطوفة حديثًا.. وظل صوت أزيز الرصاص يرتفع شيئًا فشيئًا.. عندها أدركنا أن حارتنا قد امتلأت بالجنود المدججين بالأسلحة.. والفزع الغاشم أخذ مأخذه من هؤلاء الأطفال الذين حين نظرت إليهم وجدتهم يصرخون ويرجفون. وانشغلت النساء في التخفيف من وطأة روعهم وحاولت إسكاتهم حتى لا يُلفت انتباههم إلينا. لم يجرؤ أحد منا على الخروج إلى الشارع، ولا النظر إلى الخارج من على الدرجات التي تؤدي إلى سطح المنزل بل ولا حتى النظر من بين شقوق ألواح الباب الخشبي..

أي صراخ هذا الذي سمعناه ينبعث من وسط الحارة حين خمد صوت الأطفال وتكوروا في زاوية من زوايا البيت مع أمي.. صراخ غير اعتيادي مبهم.. في باديء الأمر ظننته عواء كلب.. ولكن سرعان ما أدركت أنه صراخ صبي متواصل لا ينقطع.. وكيف يمكن لأحد أن يبقى في مكانه مختبئاً إذا سمع مثل هذا الصراخ.. هرولنا نستطلع الخبر من شقوق الباب.. إذ كان هذا " يوسف الأخرس" ابن الحاج "سليم".... هذا يعني أنه لم يسمع النداء.. ولا يدري ما يدور حوله.. نعم هو عينه، صبي في العاشرة من عمره.. رفع يديه إلى أعلى مستسلمًا وصرخ بأعلى موجة في صوته طالبًا من ذلك الجندي الذي جلس على ركبته اليمنى وقد صوب سلاحه نحوه أن يعفو عنه ويتركه في صممه وخرسه.. ولا زلت أذكر تلك الحالة التي اندفع فيها الأخرس المرتعد الباكي، بعد أن أُطلق سراحه، نحو بيت عبد الله المجاور وأخذ يطرق بابه بعنف وعزم وإرادةِ من لا يريد أن يموت.. ثم فُتِحَ الباب واختفى الأخرس عن الأنظار.إذا كانت هذه حال الأخرس فكيف تكون حال أخي "خالد" إذا وجدوه في الشارع راجعًا من عمله وهو لا يدري بما نحن فيه؟.. مسكين "خالد".. لا يدري ماذا ينتظره.. ثم بكت أمي وبكت أخواتي.. وبكى أبي .. فعلا بكى أبي . إنها المرة الأولى التي أرى فيها أبي يبكي..

خيّم الليل على البلدة.. ليل ليس كمثله ليل. فيه من الوحشة بكل أصنافها. وفيه من القهر بكل معانيه.. وفيه من الظلام الذي جاءنا بأول الغيث لهذا العام.. ثم تأكدنا ممن وصل بيته من الجيران في غفلة المجندين أن القتل قد زرع في شوارع القرية.. أُنتُزعتْ أرواح الكثير من البشر.. وحُصد من جاء متأخرًا إلى بيته.. وتربَّع العويل على البيوت جميعها، ولم تنم الدنيا في تلك الليلة..وغرد البوم..ورقص الغراب طربًا في حفلة الموت تلك..

لم تهدأ العاصفة إلا في الصباح.. وإطلاق الرصاص لم ينقطع إلا مع انبثاق أشعة الشمس.. وبكاء النسوة والعذارى ما زال مستمرًا حتى الآن .. ولعل مناداة الناس على بعضهم من وراء الجدران ينم على حرصهم لمتابعة التقاط الأحداث عبر الأثير مباشرة من فوق الجدران أولا بأول.. فمن أين تأتي الأخبار؟؟ فلا خبر يذاع عبر أجهزة المذياع القليلة التي كانت في حوزتهم في ذلك اليوم إلا أخبار التعبئة والحرب.. ولا سمع أحدهم رنين هاتف في حياة القرية.. ولم يحن بعد موعد خلق التلفاز ..

ومع تلكؤ النهار وانبعاث رائحة الأرض المبتلة بالأمطار الأولى.. وصل جارنا صالح إلى بيته خلسةً يحمل في جعبته البشرى.. لكنه لم يستطع أن يتحدث.. لقد عقد لسانه.. ووجهه الشاحب يوحي أن الأمر جد وخطير.. وعيناه المنهكتان تدلان على أن المصاب جلل.. وثيابه الملطخة بالدماء تدل على أن الشلال كان غزيرًا..
 مالك يا صالح انطق يا رجل!!
 ابتعدوا عني.. دعوني في حالي...
 ولكن أخبرنا ماذا جرى؟

لم يتمالك الرجل نفسه واندفع يبكي مثلما يبكي الأطفال ويقول كلامًا متقطعًا:

 قنوات... من الدم... تسيل في الشوارع. قضوا على أهل البلد... لقد رأيت ابنتي "مريم" بين الجثث.. لقد مزق الرصاص جسدها وغرقت في دمائها.. احتضنتها إلى صدري وقبلتها....

اكفهر وجه أمي البشوش وانكسر قلب أبي الحديدي..واهتزت مشاعري الصامتة واضطربت أحاسيس الفلاحين البسطاء.. وطفحت نفوسهم بمشاعر الحزن والأسى..ثم تلاشت المفاهيم وتهيأ كل بيت لقبول الواقع المرير بعد أن أمتزج لون الشمس بلون الزمان حتى بدا قرصها رماديًا لا يُطاق..

لم يكن حصارنا ليدوم إلى الأبد..إذ قبل أن يفك القيد اقتيد أبي وغيره لتشخيص الأموات.. وأُطبق على تسعة وأربعين شخصًا.. كلهم شهداء.. نعم شهداء.. ولكن لم يكن "خالد" بين هؤلاء الشهداء.. لقد أصبح في عداد المفقودين.. واختفى أثره عن الدنيا.. غم على غم حطم النفوس وأحرق الأخضر واليابس.. ونواح نساء القرية الجالسات في وسط الحارة ملأ الفضاء.. وعويل الفتيات يبعث في النفوس حرقة شديدة..كان منظرهن مؤثرًا.. لو قدرت دموعي التي ذرفتها حين شاهدتهن يمزقن ثيابهن ويعفرن التراب على رؤوسهن، لفاقت حجم ما في البحر والمحيطات من مياه.. لم تكن الدنيا لتشارك النسوة وتذرف دموعها إلا في تلك الليلة التي أجهزوا فيها على الشهداء.. لقد سبقت الجميع في البكاء.. ابكي يا عين! ابكي!! وخرج الرجال مكسوفي الوجوه ينظرون بعيون غاضبة إلى عنان السماء وهم يتضورون لعل الشكوى تصل إلى رب السماء..آهٍ عليك يا أيتها الدنيا الفانية... آهٍ... آهْ... لقد بلغتْ القلوب الحناجر..إلى من تكلينا.. إلى قريب يتجهمنا.. أم إلى سفاح تملك أمرنا.. لقد كانوا بين ظهرانينا قبل ثلاثة أيام.. وها هم اليوم بين ثنايا التراب.. لقد تفتقت القيم.. وتهرأت النفوس.. ونفد البحر..

وعاد "خالد".. لكنه في حالةٍ يرثى لها.. عاد "مضبوعًا" شارد الذهن، يتمايل كالثمل ولا يقوى على النطق والحركة.. إذ سمع يوم الواقعة أثناء عودته من عمله أصوات الرصاص فلجأ إلى الكروم القريبة.. أربعة أيام بلياليهن قضاها مختبئًا في بئر الخروب كأنه ضبٌّ مذعور.. كان يخرج في الليل ليأكل من أوراق الشجر.. وينام في جحره طوال النهار.. واندفعت إليه أمي تحتضنه وتقبله مغمغمةً وهي ذارفةً دموعها بغزارة: لقد مات خالك يا "خالد".. ومات عمك وابن عمك.

(كفر قاسم)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى