الاثنين ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم عبد الله المتقي

«ليلة رأس ميدوزا» للتونسية نجيبة الهمامي

"ليلة رأس ميدوزا"، باقة نصوص قصصية للتونسية نجيبة الهمامي، صدرت عن دار سؤال للنشر ببيروت 2014 في حلة قشيبة ومغرية بالقراءة.هي فاتحتها وباكورتها القصصية، وهذا لا يعني أن نجيبة أصابتها حمى القصة القصيرة حديثا وقريبا، بل من سنوات وزمن ولى، بيد أنها من طينة اللواتي يكتبن على مهل، لأن"الكتابة صلاة"يقول"كافكا، لدى وجب أن لا نستعجل الخطو والنشر، و"ربما تخشى البوح، ولكنها لم تمنع نفسها من كتابة نصوص أدبية قصيرة، راوحت فيها بين الوضوح والغموض دون أن تسمي جنس ما تكتب"2

تشتمل مجموعة"ليلة رأس ميدوزا"على قصص متفاوتة الطول والحجم، تساوقا مع مناخ وطقوس كتابتها وصباغتها، بيد أن ما يوحد بينها في عقد قصصي واحد، هو الغوص عميقا في أعماق المجتمع وأعماق النفوس، بحثا عن ليلة أو ليالي قصصية من الحكي من تحت الجسر وفوقه.

والمجموعة إذن ليالي من الحكي الطافح بقصص واقعية وسحرية تحاكي الوقت المقيت، تكشف عن سوأته، تكاشفه وتسخر منه بشكل لاذع ولاسع وبجرأة نادرة، وحتى لو تطلب منها ذلك قطع رأس قصتها المشاكسة وإعادة تشكيلها وخلقها كما تشاء نجيبة الهمامي.
ترى ماذا يكشف لنا هذا المنجز القصصي لنجيبة الهمامي، وما فحوى بوحه ومكاشفاته؟
تتصيدنا هذه الأوراق القصصية للدخول بموضوعات قصصية متنوعة ومؤتلفة، ومن ثم إلى عوالم ومناخات من الهموم، لها علاقة بالمشهد النفسي والاجتماعي والسياسي الجارح والذي كان من إفرازاته مجموعة من الاختلالات والأعطاب في صلتها بالأنا والآخر، وفي علاقتها بالمحيط من حولها من جهة ثانية.

نقرأ في قصة"أنف الجبهة":"أسعد يا ولدي هو الذي مات.. لقد وجدته نزيهة أختي يتدلى كخروف مذبوح من حبل معلق في سيخ الحديد المثبت في عرصة درج السطح

الخلفي"ص15، ونقرأ في نفس القصة:"مادمتم تعرفون عنه كل شيء فأخبرونا لماذا رجع على تلك الحالة من الاضطراب والانطواء، ماذا فعلتم به حيث أرسلتموه؟"ص16

ونقرأ أيضا:"رد أحد الأعوان: اسمعوا جميعا، نحن مقدرون لهذا الظرف، لكن ليس معنى هذا أن نسمح بأي تطاول واستهانة، يجب أن تعرفوا مع من تتكلمون"ص17

هذه الشواهد النصية تتسلل إليها إشارات رمادية قديمة، ملتبسة وغامضة، وكافكاوية كانت تأخذ بمخانق الناس في العهد القديم، والذي عاشته القاصة بمسامها وجوارحها صامتة ساكنة.

هكذا تستدعي القصة وبحبكة قصصية متلاحمة ومتجددة وبلغة راقية، تلك الموضوعات التاريخية والواقعية والجياشة وتضعنا من جديد في قلب أسئلتها القديمة – الجديدة.
في قصة"في البلاد السعيدة"، شخصيتان رئيسيتان، هما سعيدة وآمال، و ترصد القاصة من خلالها ظاهرة العطالة التي يعاني منها خريجو الجامعات، بطالة مقنعة أجبرت بعض الماركات البشرية على تبضيع الجسد، ف"سعيدة"تقدم ملفّا لوزارة الدّاخليّة التونسيّة من أجل أن يتمّ انتدابها مومسا، متحدّية بذلك كل الخطوط الحمراء:"اليوم أتلقى الرد على الملف الذي أرسلته بالبريد كما يقتضي الأمر، لا بد لهم من مهلة للاستعلام والتثبت، نعم.. لديهم حق...بالمسألة حساسة"ص41
لنقرأ هذا المقطع أيضا:"

إن مجالات التخصص تتقاطع يا رفيقتي
نظرت إليها سعيدة مسائلة:
كيف؟
فأجابت الرفيقة بكل ثقة:

لأنها تدار بقضيب سريع الانتصاب، سريه الارتخاء، قضيب لا يصمد في طريق الخلق"ص45
هذا الشاهد النصي، يحيل إلى شيء ملموس ومحسوس، إنه أسلوب المقايضة ونعني به البيروقراطية الانتهازية والوقحة، والعهارة الإدارية التي ترصده القاصة بحصافة وأسى، ولسنا نلوم ونعتب"سعيدة"التي انقلبت إلى ضدها لأن القهر والعطالة تجاوزت حدودها وبلغت الأوج، نقرأ في قفلة القصة:"ها إني في طريق الشوك الذي رسمتموه لي.. ألا ترون الدماء على الإسفلت؟ تثبتوا حتى تقتفوا أثرها إلى الهضبة ومنها إلى أعماق المدينة الرطبة"ص51
ولنقترب الآن من قصة"ليلة رأس ميدوزا"، عين المجموعة وبؤبؤها، حيث تخترق القاصة عن وعي وعن سبق إصرار وترصد، تابو الغرف السرية بشكل جريء وفاضح، حيث سادية ميدوزا ملتذة وفخورة بتحويل قضيب سي عبدالله إلى حجر قبل أن ينال منها وطره"دفع الباب ودخل جريا فوجد سي عبدالله ملقى على أرضية الصالون ويبكي وهو عار تماما ممسكا بين يديه قضيبه المتحجر وكأنه قد من رخام ويصرخ مقهورا:"ميدوزاااا.. اسمها ميدوزاااا.. إنها ميدوزاااااااا"ص 64

لا جدال في أن هذا المشهد الفاضح وبهذه الجرأة السردية والسادية التي ينوس بها هذا الشاهد النصي ليس سوى صورة لمجتمع ما بعد الثورة،مجتمع تناسلت فيه الفوضى المنظمة،واختلطت فيه الأوراق، ولن ينجم عن هذا سوى المزيد من العصابات الجنسية والسياسية والاقتصادية والثقافية حتى.

وفي قصة"تمرد الأصابع"، تطارد الساردة فعل الكتابة وحالة معاناتها ليكون سرد قصة داخل قصة"يصعب علي مسك القلم، أصبح ثقيلا علي، أن أمسك القلم وأكتب أي شيء، أمر أفكر فيه كثيرا، ولا أنجزه"ص69

ولا تخفى في هذا النص القصصي قدرة القاصة نجيبة الهمامي على رصد وتتبع عناد وتمرد أصابع اليد في علاقتها بفعل الكتابة:

"– أصابعي... يا أصابعي...
"تشيح عني"
يا أصابع يدي اليمنى... اسمعي. ألست صاحبتك؟ ألست مالكتك؟ ألست آمرتك ناهيتك؟؟؟"ص70

هنا نشم قصدية الكتابة التخيلية التي تتناول بوعي ذاتي حصيف أدوات الكتابة لتكشف عن خدع النص الداخلية عبر حكي يتحدث عن الهموم السردية داخل فضاء السرد.

وعليه تظهر الميتاقصة في إعادة النظر في عناد واحتجاج أصابع الساردة – الكاتبة، إنها تسائل نفسها وتتفحص قصتها حين تعيد تركيبها. متسلحة بالطبع بأسرار الكتابة وخفاياها وتقنياتها دقائقها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى