الاثنين ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩

صحراء الحاضر

محمد محضار

جالسا في باحة المقهى، ساهما أفكر في أشياء حدثت ذات زمن، أحفر بهدوء في تعاريج الذاكرة، لاأعير اهتماما لما يجري ويدور حولي ،الذاكرة تشدني،تدفع بي إلى مدارات تقود إلى زمن عميق، وأماكن كانت تضج بالحب والحياة، أرشف فنجان قهوتي، أمارس حقي في العيش خارج نطاق المألوف والروتيني الحامل للسعات الملل.

فجأة أقوم من مكاني، أنطلق مهرولا، أجد نفسي في طريق طويل محفوف بأشجار الصنوبر، تحت رذاذ المطر أسير دون معرفة مسبقة بوجهتي، أُحِسُّني غريبا، لكنني حقيقيّ، المسار والوجهة لا يهمان، مادمتُ راضيا، وراغبا في الخروج من زيف الأشياء، التي تحاصرني.

الطريق طويل، ومتعرج،وأنا أسير، إحساسي يتحكم في خريطة طريقي، ومشاعري ترسم لخطوي المسار، عقلي يسألني:"إلى أين أنت ذاهب أيها الغريب؟» لا يسعفني الجواب، فأنا فاقد القدرةَ على فهم ما يقع، الماضي يُناديني، يقتلعني من صحراء الحاضر اللئيم، وينفخ الروح في شخصيات ووجوه طواها النسيان.

"أيها الغريب، لا أحد يهتم لأمرك أو يحس بعمق مأساتك، وجوه الحاضر تصنع لحظة ألمك وتدفع بك إلى زنزانة الضياع"

أرفع رأسي إلى السماء،الظلام بدأ ينشر قلاعه،لكن القمر يطل بدرا، مضيئا الطريق، عقلي يستسلم لإحساسي، فأعبر بوابة الذاكرة، يحتضنني الحي الوديع، والشارع الحالم، يضمني الزقاق الأليف وبيتنا العامر، تقبل أمي بابتسامتها الحانية، ويطل أبي بوجهه المشرق،تَبتسم لي الحياة ويَصنع أحبة الأمس بارقة الفرح، أندفع إلى أحضانهم، أشارك في مهرجان الشوق ،تقول أمي:"مائدة الأكل تَنتظركم أَحِبّتي سنأكل اليوم طجينا بلحم الضأن والقوق والجُلُبَّان ، طَبَخْته على نار هادئة".

تحت شجرة المشمش الضخمة التي تتوسط باحة بيتنا ، نتحلق حول المائدة، يُسمّي والدي الله. نردد بعده جميعا بصوت واحد: "باسم الله" ثم نبدأ في الأكل ،تهتف أصغر أخواتي :"تسلمُ يداك ياأمي ،أكْلُك دائما لا مثيل له "

تقول أمي وهي تحدق بي:"كل يا حبيبي ،كُل فأنا اعرف أنها أكلتك المفضلة".

اكتفي بتحريك رأسي،فقد كنت أعلم أن التعبير دائما يخونني في حضرتها، ودموعي تسبق كلامي.

«أه أمي، لَيْلِي صار بلا قمر،وزمني أصبح ممنوعا من الصرف، أيامي غدت بلا طعم، وحياتي فقدت النكهة والمعنى"

ننتهي من الأكل، تأتي أختي بالطَّست ،نغسل أيدينا،ثم تقبل أمي حاملة كؤوس القهوة المنسّمة بالقَرفة، تُوزعها علينا،

أرتشف قهوتي مستلذّا، أغمض عينيَّ منتشيا، أحسّنِي سعيدا،

تداعب وجهي فجأة نسمة هواء عابرة فأفتح عيني، كنت أمسك كأس القهوة، وأنا جالس بمكاني بباحة المقهى.

محمد محضار

مشاركة منتدى

  • نص سردي يتميز بقوة الدلالة وسعة المعنى.حضور وازن للذات الساردة التي تقودنا في رحلة استرجاع للماضي. باستعمال تقنية الفلاش باك .حيث نلاحظ أن القصة تبدأ بكأس قهوة على طاولة في المقهى وتنتهي بنفس الكأس .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى