الخميس ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
قراءة نقدية للمجموعة القصصية
بقلم الهادي عرجون

«الساعة الخيرة» لسفيان رجب

ما قبل القول: يقول برنارد شو:"الدنيا إحدى نكات الله"(1).

أرهقني الروائي و الشاعر سفيان رجب بـ"الساعة الأخيرة"كما أرهقني قرده الليبرالي منذ مدة حد الجنون... جنون الاستمتاع و اللذة عند قراءة نصوص تدخل إليك وعليك من كل الأبواب دون استئذان... لا يمكن المرور على كتاباته الشعرية أو النثرية دون أن يلمس كل المناطق المرئية وغير المرئية فينا لكنه في الآن نفسه يعبر عن حالة جسدية و نفسية تجعلك في دوامة و صراع نفسي ينتابك حتى أنك لا تعرف هل أنت القارئ أم البطل...، لذلك يمكن اعتباره من الكتاب الشموليين لما في إنتاجه الأدبي من التنوع بحيث اشتملت كتاباته على كتابة الرواية و القصة القصيرة و الشعر و المقالات المتنوعة في النقد.

و في كل الحالات و مهما كانت نوعية الأدب تأسرك نصوصه، ليستعذبها قلبك و يستسيغها عقلك لتنزلق داخل نفق فلسفي عميق، و كتابة تجريبية تأخذ من الماضي و بساطة الواقع لبنات لبناء نصوص راقية على مستوى الشكل، كما على مستوى المضمون الذي يعكس الواقع المرير للمجتمع التونسي.

"الساعة الخيرة"الصادرة عن دار ميِارة للنشر و التوزيع سنة 2018 ، مجموعة قصصية في 120 صفحة ضمت بين جوانحها 14 أقصوصة حملت إحداها عنوان المجموعة، يطرح سفيان رجب في هذه المجموعة جملة من الآراء و المواقف الساخرة من الحياة و المجتمع حيث اختار سفيان رجب أن تدور أحداث مجمل القصص في مدينة النفيضة ، مدينة الراوي التي يعيش فيها، و لا غرابة في ذلك فسفيان رجب ينطلق من الواقع نحو الخيال و يعود إليه محملا بأكياس من الأحداث و الحكايا يسافر بنا عبر الزمن و يرحل بشخصياته من الحاضر إلى الماضي و من الماضي إلى الحاضر ليصف لنا بصورة ساخرة واقع معيشي مرهق و شخصيات خذلتها الحياة فاحتمت بالموت.

تظهر من الوهلة الأولى أن أقاصيص سفيان رجب جلها نقد ساخر إن لم نقل كلها من الواقع المرير، و هذا ما جعلني أستحضر مقولة لرابلييه الذي يقول:"إن الفكاهة و السخرية هما وحدهما السبيل إلى نجاة العالم و تخليصه من شوائبه"(2). خاصة لما تميز أسلوبه بالنقد اللاذع و الجرأة في إلقاء الضوء على الكثير من سلبيات الواقع السياسي و الاجتماعي في زمن الثورة و ما بعدها"و هكذا ستظل تلك المرأة تتسكع طيلة ثلاثة آلاف سنة بين أحلام ثلاثة رجال نائمين في الكهف"( ص10) و هذا المشهد لا أر له جسدا إلا أنا تونس تتخبط بين الرئاسات الثلاث، ليكون اختياره لهذا الأسلوب وسيلة للتحرر من الظروف القاهرة والتحرر أيضا من القهر والألم، و أسلوب لدفع الأذى و تفريغ الطاقة الانفعالية بنقد ساخر تجاه الواقع و شخصياته التي تتحرك في فلك الراوي"و ما كادت تدخل المدينة حتى كانت مجرد هيكل عظمي عالق بين لحاهم"(ص11)، و من خلال هذا القول نستنتج أن معظم الأدباء يعتمدون على هذا الأسلوب للتعبير عما يختلج في صدورهم بكل حرية و فطنة وذكاء و يرمي من ذلك نقد الواقع ومعالجته.

و قد عبر عباس محمود العقاد عن هذا الأسلوب بقوله"يمكن أن تكون نابعة من حساسية الناقد نفسه على أنه ذو عين بصيرة نفاذة يحس نقائص المجتمع، فيتناول قضاياه بروح مرحة هذا بالاعتماد على أساليب السخرية المختلفة، قاصدا من وراء ذلك الإصلاح في قالب الإضحاك، كما قد تكون وسيلة منه (الناقد) للعلاج و التنفيس عما يشعر به"(3).

و هذا ما جعل الراوي هنا يقع في التصوير المبالغ فيه و هو ما ندعوه بالكاريكاتوري و هو ما تمارسه الصحف عادة.و استعمال السخرية عن طريق التورية أو السخرية التراجيدية وهي:"العبقرية التي تجعل شخصا من الأشخاص يستعمل ألفاظ تعني شيئا ما بالنسبة إليه وشيئا آخر بالنسبة للنظارة العارفين بالحقيقة"(4).

هكذا يمكن أن يلهمنا الكاتب سفيان رجب حين يصارع ذاته، فهو في صراع مستمر ما بين ذاته المنفصلة عن الواقع و ذاته المتصلة بالواقع"الكوميديا الرخيصة تدمر العالم الآن"(ص18).

فالجريمة الكوميدية كما صورها، جريمة في ظاهرها إضحاك و في باطنها مغص ذهني يعاني منه المثقف عموما و الراوي بشكل خاص"هو كان يحدثني عن فوائد الضحك، و أنا كنت أحدثه عن حروب الإنسان القادمة، التي سيستعمل فيها الضحك بدل الرصاص (ص17).

و لكن سفيان رجبمع هذا يعتمد على التلاعب اللفظي الذي يتم باختياره للفكرة و إخراجها عن معناها الأصلي بالإضافة إليها أو تبديل الكلمات المكونة لها( بغاء≠ ببغاء، مجيد القرن ≠ وحيد القرن، الذكرى≠ ذكري ). و كذلك عديد الأسماء التي تحيل على التهكم و السخرية مثال ( صحيفة"الثقة العمياء"- الصحفي الشاب"محمود المجتهد"...)

كما يعتمد أساليب و وسائل متعددة تتداخل فيما بينها بحيث لا يمكن إحصاؤها لأنها تخضع دائما للابتكار خاصة إذا كان خيال الراوي في الحقيقة خيال مرن يطوعه كيفما شاء."تذكرت حكاية انتحاري، فضحكت، و تسليت قليلا بتذكرها، ثم رفعت شهرزاد و تأملت خطوط كفها..."(ص 30 و 31).

و هذا الأسلوب في الكتابة ذكرني بما قرأته سابقا في المجموعة القصصية"ظل ثقيل مختارات من القصة الغرائبية المكتوبة بالإسبانية"(4).التي استطاع كاتبها أن ينقل مخيلة القارئ إلى العالم الذي تدور حوله أحداث هذه القصص و جعلهم ينغمسون فيها و يتعايشون مع أحداثها، و هذا ما لمسته في ( نساج القصص -النوم بين شهرزاد و شهريار- الكلب الإيطالي- الببغاء - الساعة الأخيرة - حصان الزعيم -الكوكسينال...)

فهو تارة يحدثنا عن تمثال للعلامة عبد الرحمن بن خلدون مؤسس علم الاجتماع والمقام على أهم شارع في تونس وهو شارع الحبيب بورقيبة بقلب العاصمة التونسية ما هو إلا تمثال مزور. و ان الوجه الذي يوجد في التمثال ما هو إلا وجه النحات زبير التركي وليس وجه العلامة ابن خلدون"لم يلحق بنا الأجداد إلى عصورنا المغبرة، و إنما نحن الذين عدنا إلى عصورهم الغابرة"(ص59).

فالراوي هنا لم يعتمد على السخرية و النقد السطحيين التي يدركها القارئ العادي دون أدنى مجهود، بل اعتمد على السخرية العميقة التي تحتاج إلى الفطنة و إعمال الفكر"قال: رغم أنك ضايقته في جلسته، إلا أنه سامحك، و هو من تدخل شخصيا لإخلاء سبيلك...قلت له: هل تقصد ابن خلدون"(ص60)،و هذا الأسلوب هو نفس الأسلوب الذي اعتمده صموايلبتلر الذي قال عنه النقاد:"ولذلك لم يظفر بإعجاب عامة القراء و لم يعجب به إلا الخاصة المثقفة"(5).

فهو كما ذكر في إحدى حواراته"أشتغل كثيرًا على الفكرة وطريقة هندستها. وبالتالي، فإنّ اللغة في قصيدتي هي حمّالة أفكار، وقد تتفاعل مع الفكرة لتولِّد ما يفاجئني. وفي بدايات نصوصنا، نكون نحن من نملك اللغة. ولكن حين نتوغّل فيها أكثر، تصير هي من تتملّكنا. ولذلك، نحاول دائمًا أن نستعيد سيطرتنا عليها في نهايات النصوص. وعلى هذا المنوال يتواصل صراعنا القاسي مع اللغة داخل النص".(6)

و هذا ينطبق على نص"الكوكسينال"حيث تحولت تلك السيارة القديمة إلى رمز و هذه الصورة توحي بأن هذه السيارة ما هي إلا الثورة التي ركبها كل من هب و دب و صار مناصرا لها و حاميا لها و هو في الآن نفسه يتمعش منها و في النهاية تتضح أنها مجرد كذبة صدقها الجميع، فالثورة لم تحقق شيء سوى الخراب"تستطيع القول أنها مجرد خردة حاول صاحبها تنظيفها ووضع لمسات من الطلاء الأحمر عليها، و رسم عليها دائرة بيضاء فيها نجمة و هلال، لكن اللافت فيها هو رقم لوحتها المنجمية 2011 تونس14"(ص89).

وهي تلك الخدعة الكبيرة التي نتقاسمها ويتقاسمها جميع أفراد الشعب رغبة في تحقيق أهداف الثورة"نحن لم نسرق أحدا، فقط لحرصنا على الوطن ومكتسبات الثورة اشترينا الكوكسينال من صاحبها، قاطعين الطريق أمام السماسرة من الخارج والداخل والذين أرادوا امتلاكها. (ص92). ليعري واقع المجتمع التونسي و قضاياه السياسية و الاجتماعية.

وبذلك استطاع أن ينقل مخيلة القارئ إلى العالم الذي تدور حوله أحداث هذه القصص وجعلهم ينغمسون فيها ويتعايشون مع أحداثها. مما جعل نصه يضوع بسيميائية انفعالية مكثفة زادت في توهج النص. كما يظهر ذلك فينص (حصان الزعيم) حيث تم تعويض ساق الحصان المفقودة بالإسمنت الأسود وهي في الأصل من مادة النحاس في التمثال، ولكن الراوي اختار عضوا آخر غير الساق للإشارة إلى شيء في نفس سفيان الذي يعبر عن الواقع بصورة مختلفة ورؤية أخرى غير التي يراها الإنسان العادي.

حيث يبين لنا قصة من الواقع قصة الصياد شمس الدين مرزوق الذي كان هدفه الوحيد"أن يكرم هذه الجثث ولا يتركها تتعفن"، وأن يمنح المهاجرين ما فشلوا في الحصول عليه وهم أحياء"الاعتراف بقيمتهم كبشر".

وخلاصة كل ذلك فإن الألم هو أصل ومنبع السخرية عند معظم الكتاب الذين عبروا عن الفوضى الاجتماعية والسياسية السائدةفي مجتمعهم.

فالكتابة القصصية و الروائية لسفيان رجب كالطعام الذي لم نتعود عليه و لكنه في النهاية نستسيغه و نستزيد منه رغبة في معرفة نوعية البهارات اللغوية التي صنع منها هذه النكهة الرائعة، فهو يرينا طريقة من الطرق المختلفة لرؤية الواقع عن طريق الخيال و الافتراض و التنبؤ.

و ما يجب الغوص فيه لندرك كنه كتاباته، هو محاولة حقيقية لتحليل جوانب عالم سفيان رجب الحياتي و الإبداعي و فهمه، لفض أختام و علامات الاستفهام حول كتاباته التي أرى لها بداية أما النهاية فأمرها متعلق بمزيد من الجهد و البحث من قبل القارئ في معرفة ما يرمي إليه، فهو في كتاباته يوغل في الحديث عن عالم الشهوة الملون بالغموض، مدافعا عن كينونة الجزء بالكل و كينونة الكل بالجزء بشكل كاريكاتوري مربك لينير الطريق أمامنا و نحن نتصفح نصوصه.

عباس محمود العقاد: مطالعات في الكتب و الحياة، نقلا عن السخرية في الأدب العربي، ص:17.

أحمد عطية: سيكولوجية الضحك، دار الحياة الكتب العربية، ط1، القاهرة،1947، ص84.
صموئيل بتلر : Samuel Butler و. 1835 – 1902 م)[2] هو كاتب، ورسام، وروائي، وفلاح من المملكة المتحدة، نيوزيلندا . ولد في نوتنجهامشير.

كتاب ظل ثقيل (مختارات من القصة الغرائبية المكتوبة بالإسبانية) تأليف: سيرجو غوت فيل هارتمان و ترجمة آسية السخيري، دار طوى للنشر و التوزيع.

حاوره الكاتب و القاص السوريمصطفى ديب على موقع ultrasawt ايلترا صوت المنشور بتاريخ 28 أوت 2018.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى