الخميس ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم الحسان عشاق

مسيلمة الكذاب

بلحيته الكثة المخضبة بشعيرات بيضاء، وقامته القصيرة التي لا تتعدى المتر بقليل، جلس على الكرسي، مزهوا كديك رومي وسط خم للدجاج، اختفى تماما، وضع النظارة الطبية ورزمة المفاتيح جانبا، أشعل سيجارة شقراء، دخن بشره، من خلال سحابة الدخان، حول عينيه الضيقة، مبلحقا في الوجوه، مركزا نظراته،لا أحد يعرف ان كان يشيعه أم يشيع الذي بجواره.

كان الغلام الطائش الذي لا يفارقه كالظل، يقدم تقريرا مفصلا عن الذي دار بالمدينة، والذي سيدور، عن الذي فعله فلان وما قاله، وعن الذي يفكر فيه، يتحرك كالأبله في ليلة الزفاف، كالذبابة التي جذبتها القاذورات البشرية، يتدخل في كل كبيرة وصغيرة،يتمسح به كالقط الجائع، يهمس في أذنيه، يعترض، ينهي، يأمر،الجميع يمقتونه،يكرهونه إلى حد الجنون، يتمنون ان يردع، يوبخ، لا أحد يعرف كنه التساهل الذي يبديه تجاهه مسيلمة الكذاب،ما سر العلاقة الحميمية التي تربط بين اثنين تجمعهما تناقضات صارخة، فكريا وثقافيا وسياسيا وعمريا،علاقة ليست بالبريئة طبعا، تتعدى مريدا وشيخه.

بمؤخرته البارزة المكتنزة، والوجه الأمرد الداعر،البطن المنتفخة، يبدو كالأنثى التي خدعها خليلها، بدر في أحشائها سر الحياة، تركها تذرف دمعا، تندب حضها العاثر. في السابق كان الغلام هادئا، صموتا، يأخذ مكانه بين الحضور، يبحلق في الرسومات والإعلانات المحنطة على الحائط، يفك رموزها في بلادة، امتهن التملق مند البداية، لعق الأحذية النتنة، قبل الأيادي، وتعلم فن الانحناء، استوى في غفلة الى مرشد، يفهم في كل الأمور، يوزع صكوك الغفران، لمن يريد وقت يريد، يقدم الولاء مغلفا بالأكاذيب.غريب أمر بعض القادة يتمسكون بالسفلة والقوادين ويحاربون النخبة المثقفة التي تنتج الأفكار وتساهم في بناء مجتمع حداثي، قاعدته المساواة والعدالة الاجتماعية، لماذا يقربون المعتوهين والشواذ جنسيا ومعطوبي الضمير والجواسيس، أهي طريقة لاخفاء عجز ما أم نتيجة لقصور في التفكير أم وسيلة لاستفزاز النخبة التي تشكل تهديدا حقيقيا على الكراسي...؟.

بالأمس نثر كلاما يشرح القلوب، وزع الابتسامات كما توزع الصدقات في الأعياد الدينية، التف حوله الصالح والطالح، المنبوذون والمشردون، الشحاذون واللصوص، الخونة ونفايات تنظيمات البطنة والدخان المر، المغضوب عليهم والآبقين، ذابت الكلمات البراقة في نعوش الفقراء، حلموا دوما بلحن سيأتي، ينزلق من بين الأساطير والكتب المقدسة، امتلأت الصدور بالآمال العريضة وراحت في سكرة لذيذة، فجروه لحنا في الشوارع، وانساب بين الأصابع، فبشرى بهذا القادم، وبشرى للقطيع الذي ينتظر ان يعجن الرمل ويقدمه أرغفة، لافرق بين لغة الماضي والحاضر، بين من أتى من الغيب، ومن تضرب جذوره في أعماق الأرض، وتفيض بحبها، وطننا مسرح للتجارب الفاشلة، الذين يتحكمون في مصائر البلاد يقررون نيابة عن الشعب، والشعوب التي تعيش على الوهم شعوب لا تستحق أكاليل الحرية، فالحرية لا تعطى وانما تأخذ بالقوة، ومن يظن أن شخصا ما قادر على تخليصه من قسوة الحياة، شخص أبله مسكور، أن الخديعة التي تلبس ثوب المسوح، اشد مضاضة على المغفل من الحقيقة المرة التي يكتشفها بعد فوات الأوان، الثعبان لدغ مغفلين من نفس الجحر، ومازال يفتح فمه ليلدغ مغفلين آخرين. دودة الملل تقضم المخيلات الحالمة،الغشاوة تنجلي عن الرؤوس البريئة، العبارات المنمقة لا تملأ البطون الجائعة والجيوب الفارغة، لا تمسح الدمعة عن المآقي،لاتحل المشاكل التي يغوص فيها المواطن حتى قدميه، لا تكسر القيود التي تلتف حول الأرجل الدامية، تناسلت الأسئلة، كثرت التعاليق المضمخة بالسخرية المرة.
انه لايهتم إطلاقا بمشاكل المدينة...

وهل صدقتم الأكاذيب التي وزعها بالأطنان....؟

لقد بلع لسانه بالمرة

لأنه يمثل دور السياسي المرن، ويأمل ان ينعم عليه أوليائه بحقيبة
وزارية في التعديل الحكومي.

أكان فعلا من الرعيل الذي وقف في وجه العاصفة، مدافعا عن قضايا المواطنين البسطاء والمسحوقين سنوات الحديد والنار الذي لعلع في الهواء، مزق جثثا وشرد عائلات، احرق الأخضر واليابس، وألقى بالعديد من الرؤوس الملتهبة بحب الوطن في غياهب السجون، أم أن الأمر مجرد أكذوبة نسجت في أروقة الحزب/ القزم الذي تمخض عنه الجبل، ألم يكن الأمر مجرد مزحة نسجت في دهاليز المكاتب السرية ومطابخ صانعي الخرائط السياسية في البلد......؟

لاجديد تحت شمس المدينة التي علاها الصدأ، نزفت دمائها المتقيحة على مكاتب ذبقة، وشاشات التلفزة، وصفحات الجرائد، ألقت الأيام حولها حزنا نابتا في كل بيت، في كل وردة برعمت عند الفجر، الأحياء تغرق في القمامة، الجوع يعوي في الجلود المثخنة بالأوبئة، الكساد يزحف مختالا، الموت البطيء يسكن الأشجار، الطيور صامت الشدو، الشوارع مسارح للجريمة، الدعارة جرثومة تجدب الزهرات التي تكور الزمن على صدورهن بالأمس، الشرف الرفيع يمرغ في الأوحال، الآتي أمر، وما على المواطن المتيم بحب الوطن، انتظار المعجزة أو القيامة،فالبرك التي يعيش فيها التماسيح لا مكان للأسماك الصغيرة فيها.

وجوه معروكة بالفقر، تزفهم الصباحات من حجر النوم الى الكابة، نساء متشحات بالسواد، أرامل تقشرت وجوههن، يمسحن الدمع في أكفان بالية، تقفز من قسماتهن ظلالا من الحزن، شاخ وفرخ آهات تقطر بؤسا، يأكلن الخبز بألف جرح، شبان لفظتهم الجامعات كالنفايات المنزلية، يحملون رؤوسهم ويحتضنون الريح، أطفال في عمر الزهور، البسمة الموءودة تحتضر على سحناتهم المكدودة، تنتحر في سجن الجسد، حشد من الحالمين ينشرون جثثتهم على الكراسي المهترئة، طعم الأمل الهارب معلق على الشفاه مالحا، ينتظرون نبي الوطنية، ليأتي بالمعجزات، يفك أسرار الغيب، يبعد النحس الذي بقر البطون مند المهد، الإعياء والإجهاد يلبس الجماجم، يحرقون أسنانهم ووقتهم، كأنهم يساقون إلى المقصلة، وجوه متسائلة تتيه بداخلها الأسئلة المطلسمة، بعض الشيوخ راحوا في سبات عميق، تنتشلهم الكحات المتقطعة، يحضنون رزما من الأوراق المهلهلة، شكايات عمرت طويلا في أدمغتهم، جزء من تاريخ مصلوب بين حبات السبحة وبراريد الشاي المنعنع، طلبات ركيكة يعوي بين سطورها الاستجداء، تشم منها رائحة الذل والمسكنة، الكل ينتظر نوبته، الأعين الحالمة مشدودة الى غرفة الاستقبال الكئيبة،تبدو كساحة حرب،غرفة للعمليات المستعصية، كراسي كسيحة، أوراق منثورة، جرائد مصفرة الجوانب، ملقية بدون عناية، رائحة الحموضة والنتانة تكبس على الفضاء، افتح يا سمسم، وافرش الأرض الجدباء ذهبا وياقوتا، ليرحل البؤس من ملصقات الجدران، تتعالى الضحكات المتشنجة، تشرأب الرؤوس، تركض التأوهات، افتح يا سمسم، فالحياة طلاسم، اجعل التراب تبرا، والخبز المغموس بالذل كعكة لعيد جديد، والسوط الذي ألهب الظهور خيطا من نور، التجهم يسافر من السحنات الى السحنات، الانتظار ضريبة الحياة، شيء مقرف أن تعلق مدينة آمالها على شخص توسمت فيه خيرا، وتكتشف بعد مرور الزمن أنها ضحية خدعة كبيرة، وان الجواد الذي راهنت عليه ليقطع بها المسافات الضائعة، لتلتحق بالركب ما هو إلا بغل هرم، ولاعجب فالخديعة أصبحت لغة العصر ولعنة تلاحق السذج والأبرياء.
جلس الشاب أمام مسيلمة الكذاب مهزوما، في عينيه بقايا دموع، يحمل ملفا يعتقل بداخله أوراقا، يعرضها كما يعرض المتسول عاهته على المارة، يفرك يديه باستمرار، يجف الحلق الناشف، تحركت تفاحة آدم، تلعثم، ارتجف، نسي أسباب الحضور،كأنه أمام آكلة اللحوم البشرية، كان الأمرد المستكرش يحدجه بحقد ارعن، يحصي الحركات والسكنات، يود لو انهال عليه ضربا مبرحا حتى يشفي غليله، تماسك الشاب، استجمع قواه، راح يسرد في تمتمة واضحة حاجته، أذنا مسيلمة تلتقط الكلمات بصعوبة، يخربش في ورقة وضعها أمامه، يحرك رأسه بإيقاع رتيب، اعتقد الشاب لحظة ان كنز سليمان انفتح، تخيل الأبواب الموصدة تتكسر أقفالها، سافرت المخيلة إلى عوالم فيروزية، رأى نفسه جالسا على كرسي وثير خلف مكتب لم ير مثله إلا في الأحلام، هاهي السكرتيرة الخاصة تدلف من الباب، تعلق ابتسامة تقطع الأنفاس، متأبطة كومة من الملفات، دمية من العاج، وردة برية لم تمسسها يد، عطرها الأخاذ يغرق الحجرة، طقطقات الكعب العالي، تدغدغ الأحاسيس النائمة بين الضلوع، حلق في الهواء عاليا، امتلأ الصدر بالنسمات النقية، لثم قوس قزح، استفاق على صوت الأمرد الداعر يامره بالانصراف لطمته رائحة الحموضة، لعنه في الخيال، تمنى أن يقبض على العنق الغليظ حتى يزهق روحه، اللعين شوش على سفره الجميل في أنفاق الخيال الواسعة، حتى الخيال في هذا الوطن أصبحت له نواطير خاصة تشوش عليه.

الهدوء يلف المكان، دخل بعض الشيخ يجرون ورائهم ضجة صاخبة، التوت الأعناق،هياكل مقمطة في جلابيب صوفية مرقعة الأيادي غزاها الوشم، خرائط لكواكب مجهولة، اخترقتهم العيون، تهللت بعض الأسارير، انحلت أختام العبوس، وذاب التوتر المغلف بالأسئلة المتكلسة التي تنزلق في المخيلات كالشلالات الهادرة، ذوبان متقطع، كالنسمة العابرة في يوم قائظ،تقدمت كاعب في غنج ودلال، تتأبط حقيبة الكتف في حجم ورقة التوت،لاكتها الأعين، لعقت جدعها شبه العاري في اشتهاء، تنورتها السوداء لاتغطي إلا جزء من فخدها، حاولت أن تستقيم في جلستها بان المثلث الأسود حيث مستودع الأسرار، اندلق الصدر النافر، احمرت وجنتاها،خجلت لخجلها،تجحظ عينا الغلام الأمرد، يمرر لسانه كالكلب الجائع على شفتيه، يعضهما عضا، يقبلها بعنف في الهواء، يضمها، يعريها بوقاحة، آه كم يشتهيها، ليس له وانما لسيده، أشعل مسيلمة سيجارة شقراء، أطلق العنان لضحكة خبيثة، انتفض الأمرد الداعر من فوق الكرسي، ترك الاثنين وجها لوجه، أكانت الضحكة الخبيثة إشارة من مسيلمة ليختلي بالكاعب، كيف فهم الغلام الإشارة بتلك السرعة، ألا يكون مر من نفس الموقف ومساهما فيه....؟كل شيء ممكن، ليس هناك منزه عن الخطيئة،كبار البلد يشجعون على الخطيئة، من منكم بلا خطيئة فليرميهم بحجر، طال الانتظار الأجرب، تحول الكلام إلى همس متقطع، يكسره بين الفينة والفينة رنين الهاتف، الرؤوس تشرئب، مسيلمة الكذاب يقهقه، قهقهات تشبه فرملة سيارة مهترئة،من حق الساسة ان ينعموا بالحياة، أليسوا بشرا، لكن ليس من حقهم النهش في أجساد من ائتمنوهم على أسرارهم.

صدق الناس انه مخرجهم من الفقر والمرارة التي أذاقوها لهم »الساسة « الذين طارحتهم المدينة الفراش، نهلوا من حوضها، اشبعوا غرائزهم، باعوها، وباعوا نسائها وأطفالها في سوق النخاسة، في البدء تواعدوا فوق شرايين الدروب، كانوا يحلمون بتحقيق أحلامهم المجهضة من أعوام، مسيلمة رجل كلمة، الكلمة الحرة التي قادته الى المنافي والأحكام الغيابية، سياسي من هذه الطينة لايمكن ان يخدع الأبرياء، انه تنهدة الجياع والأيتام، شمعة في ليلة ظلماء، ريح عاتية ستجتث البؤس من جذوره.

انه مراوغ كبير واكبر كذاب عرفته المدينة.

وهل هناك سياسي في وطننا لا يرواغ ولا يكذب...؟

كلهم سواسية،الفرق ان هناك من يشتري ويبيع لتفادي المحاسبة، فذلك كان صريحا، وهناك من يستميل المواطنين بالوعود فذلك اخطر من الذي باع واشترى،يستوجب المحاسبة.

أتمنى ان تستفيق هذه المدينة من غفوتها.

لن تستفيق مادام أبنائها الحقيقيون ينهشون في لحم بعضهم،يتفرجون،ينظرون في المقاهي،تاركين الأبواب مشرعة للغرباء يعيثون فيها فسادا،يهربون خيراتها الى مدن أخري.

إنها مشكله حقيقية.

هالة الضوء انطفأت، انزلقت الغشاوة التي عصبت الأبصار، تجلط الحلم،تحول الى كوابيس رهيبة تلاحق المريدين والتابعين، فتر الحماس، تسرب اليأس إلى الرؤوس المدجنة التي كانت تنتظر ان يفتح مسيلمة كنز سليمان لتغرف منه، لم يعد يجدي الكلام، الصورة تهلهلت، مسيلمة الكذاب جره السيل من عل، أسقطه من عيون الناس، لم يعد يجدي النفاق، خلقوا أعداء، نافقوا، داهنوا، تيار الحقيقة قوي يجرف بقوة،خلية الدبابير تتفتت، تلدغ بعضها، تذوب في الساحة، اللعبة كبيرة ومعقدة، انهارت جميع النظريات، ارتطمت بالواقع المر، تهشمت، انغرزت في الوجوه، كومة وعود البارحة، تفسخت، تحللت في الجماجم المتورمة، تمخض عنها تهكم لاذع،لا الخطب الرنانة المقدودة من العبارات المعلوفة نفعت، ولا النقاشات البيزنطية، سقط القناع، انكشطت المساحيق، ما أقبحها من سقطة للذين باعوا القضية بابخس الأثمان في السوق السوداء، دم الشهداء الذي سفك بالأمس لم يجف بعد، العيون تفيض بالغضب، تنتظر الفرصة لينفجر الغضب، مسيلمة الكذاب المتاصبي خذل الجميع، لم يحرك ولا ملفا واحدا، لا تنمية ولا هم يحزنون، لا جامعة ولا حرب قامت على الفساد، المداوم فر من مكتب الاستقبال، الجوع سلخ جلده، مسيلمة خذله،اهتمامه انصب على مطالب العائلة التي لا تنتهي، كأنها التي حجزت له تذكرة العبور الى » قبة الأنس والنوم «.

إذا تقدم مرة أخرى للانتخابات فانه سيرجم بالحجر أو.....

ان الناس ينسون بسهولة فالأطماع تحركهم.

ان النسيان لا يعني التفريط في الحق، والطمع قد يتحول الى عنف.

كيف....!؟

تصور معي شخصا استميل بالطمع،واكتشف انه انخدع،سيحاول رد
الصاع صاعين بأي الطرق وهنا لاتهمه العواقب.

لقد ارتكب خطئا فادحا لعدم ارتباطه بالجماهير.

لأنه سياسي فاشل وخسارته ستكون كارثية.

تحرك المريدون القلائل، يتزعمهم الأمرد الداعر، اندسوا بين الناس، يدونون الأخبار، التعليقات الهجينة التي نسجت عن مسيلمة الكذاب وغرامياته،كان الناس يواجهونهم بأقذع الكلام، الحقيقة سيف ذو حدين، هيئة الدبابير في طريقها نحو الاندثار والانقراض، غدا ستنعق البوم في أرجائها، وتعشش فيها العناكب والخفافيش، وستصلى عليه صلاة الجنازة، سلوكات مسيلمة الطائشة أتت على الأخضر واليابس، تحول من رمز الى الضحوكة، من سره زمن بالت عليه أزمان،.عقد اجتماع سري الثاني بعد المائة من نوعه، لابد من وسيلة للخروج من الورطة، فكروا في توزيع وجبات الإفطار في شهر رمضان، تنظيم دوري لكرة القدم في الأحياء مع توزيع بعض الهدايا الرمزية، اعذار أبناء الفقراء...، اعتدل مسيلمة في جلسته، أرسل كحات متتالية، خيم صمت رهيب لاتسمع سوى زفرات متقطعة وخشخشة الأوراق.

 لماذا لا ننظم مهرجانا خطابيا،ويلقى فيه بالمناسبة بيان سياسي....؟

انه الرأي السديد...!
لااعتراض ولا استهجان، القول ما قالت حدام، من طبيعة الشعوب المتخلفة ان لا تبدي رأيها في المشاكل التي تعترضها، تختزل نفسها في شخص، انه القديس في وعيها القادر على الإتيان بالمعجزات، وإيجاد الحلول لأي معضلة، كان الأرض لم تنجب سواه، كان الأدمغة الأخرى محشوة بالبقول أو فارغة، تنفسوا الصعداء، علت التصفيقات، انشرحت الأسارير، بدأت الترتيبات،الامتحان عسير، إما السمو أو الانزلاق الى الحضيض، وزعت الدعوات، علقت الإعلانات في المقاهي والمساجد، في المدارس والحانات، طرقت أبواب، قبلت جباه وأياد، استعطفت وجوه، الهزيمة تلوح في الأفق، الطريق مفروشة بالأشواك، المصير معلق بالمهرجان، نجاح العرس يتطلب مزيدا من التمشيط، مزيدا من التعبئة، كان الأمرد الداعر الآمر الناهي، يهدد ويتوعد، لا مجال للتكاسل أو التواكل، أقنان في ضيعة خاصة.

اصطفوا أمام القاعة، العيون مشدودة إلى الطرقات، معلقة على عقارب الساعة، دقاتها ترجف الأفئدة، ترعد الفرائص، الشك بدأ يتسرب الى الجماجم المدجنة، تقدم رجلان في العقد السابع تقريا، استفسرا عن اقرب مركز للشرطة، دلهم أحد الواقفين بامتعاض، عقارب الساعة تزحف نحو الثالثة بعد الزوال، خارت القوى، تجمد الدم في العروق، عقارب الساعة تجر ورائها أذيال الهزيمة، كان مسيلمة الكذاب في تلك الأثناء يحتسي فنجان قهوة سوداء، الأخبار التي تصله ليست بالسارة، الإحباط يزحف على خرائط الوجه المقنعة، في مأزق لا يحسد عليه،فكر في المستقبل السياسي،اصبح في كف عفريت، من يزرع الريح يحصد العاصفة، انزلقت الحكمة إلى الرأس، ألهبت دواخله، لكن ماذا تنفع الحكم إذا لم نأخذ منها العبرة والدرس، سحب سيجارة أشعلها في عصبية، سحب منها نفسا عميقا، أغمض عينيه، نفت الدخان من منخريه مثل ثنين صغير.

القاعة شبه فارغة، أطفال صغار يتصايحون، يتنادون بالصفير، بعض المومسات يبحلقن في الوجوه، يبحثن عن صيد ثمين، حشاشون انزووا في ركن وراحوا يمررون لفافات الحشيش واقداح الراح، يضحكون بتهور، عيونهم موزعة بين الأجساد الأنثوية و المنصة التي زينت بمزهرية حوت ورودا ذابلة، أعلام وشعارات تتخللها كتابات مرتجلة، على جنبات المنصة ينتصب مكبران للصوت. دخل مسيلمة، انعكس الضوء على الوجه، خفف الخطو حتى تتآلف العينان النافرتين مع الظلمة التي تغشى المكان، يمسك حقيبة بنية يارجحها ذات اليمين والشمال، يتوسط مجموعة من المريدين، يهتفون بحياته، لا أحد يهتم بما يفعلون، بحت الحناجر، احمرت الأيادي بالتصفيق الأرعن، مسح مسيلمة القاعة بعينيه النافرة، عض على شفتيه،بالأمس كانت القاعة تغص بالمواطنين من كل الأعمار، طار التخدير الذي لزم الناس، فكيف السبيل إلى استرداد بريق الأمس القريب، هيهات أن نستحم من النهر مرتين، بلع ريقه، انزلق فوق الكرسي، انزلقت الكآبة إلى قلبه، اعتلى الأمرد الداعر المنصة بعد اخد ورد مع أحد أقرباء مسيلمة الكذاب،تبودلت الاتهامات، جحظت العيون، وانقبضت الأسارير، تدخل مسيلمة وضع حدا للمشكلة التي بدأت تكبر، افرش الأمرد أمام عينيه الضيقة التي تشبه عيني مريض بالمغص ورقة، سهر الليل بطوله ينمقها، يختار العبارات الرنانة التي تدغدغ الأحاسيس، ولم يفته أن يستعين ببعض الكتب التي استعارها، راح يتهجاها بصوت خشن، اخترقت الجو قهقهة بغيضة، انتشرت معها عدوى الضحك كانشار النار في الهشيم، ساد الصمت لدقائق معدودة، اعتقد الأمرد الداعر ان المسالة لم تكن مقصودة، عاود القراءة بصوت مرتبك، قطرات العرق تكلل الجبين الواسع، انطلق صوت مدو أشبه بصفير باخرة تهم بالتوقف على رصيف ميناء، ضحك هستيري يسري داخل القاعة، أراد أن يتابع، انهالت عليه الكلمات النابية من كل جهة، احمرت الخدود المفلطحة التي تندلق عند كل حركة، لأول مرة تحمر خدود الأمرد خجلا، نزل مسرعا يجر أذيال الخيبة، حاول مسيلمة تلطيف الجو، نثر بعض المستملحات على الحضور، أختام العبوس مستعصية على الحل، مفاتيحها صدئت مند زمان، يجيء الصوت الفاتر مثقلا باللامعنى، مخدوشا، عاريا، تتساقط الحروف من سلة القلب باهتة.

أيها الحضور الكريم أبناء المدينة الأوفياء.و......

قبل أن يكمل الجملة التي حاول تنميقها، هتف الحضور القليل بصوت مدو يشبه الرعد:» مسيلمة يا حقير عاقت بك الجماهير« استمر التصفيق والهتاف في انسجام مدروس أشبه بفرقة موسيقية، انتفض شيخ من وسط القاعة، لوح بيديه الموشومة عاليا كالغريق وسط الأمواج العاتية، خيم صمت جنائزي، الأعين مشدودة إلى الشيخ الهرم، انطلقت الكلمات الجارحة تمطرق الأدمغة، كالرشاش الناري:» فليسقط الكلام العابر، ولتسقط خطب المنابر، ولتسقط سياسة التدجين، ولتسقط الوعود الكاذبة...... «هيج الكلام الحضور، ازداد الهتاف والتصفيق والصفير حدة، تجمد مسيلمة الكذاب في مكانه، الذهول لجم اللسان والعقل، بأي أسلوب سيكلم هذه الشرذمة من المخربين والمندسين الذين حركتهم جهات مناوئة، عندما يفشل السياسي في تحقيق مآربه، فانه لا يعترف بالفشل، انه يبحث دائما عن كبش فداء، حتى يحمله مسؤولية فشله، امسك الميكرفون، نقره بإصبعه نقرات خفيفة، حاول المريدون تهدئة الوضع، توسلوا قبلوا الرؤوس والأكتاف، بصق الأمرد الداعر على شاب سخر منه، انتفض من مكانه وعالجه بضربة قوية على الوجه، تقدم ثلاثة آخرون، حاصروا الأمرد، تلاحقت الضربات والصفعات، الركلات تأتيه من كل جانب، تعالت الصيحات والزغاريد، الغضب شحذ الحناجر التي صامت الشراسة، الزمن اليباب زلزل الصبر، اسقط الأيقونة التي علقت على الصدور، لا وقت لتأجيل الألم، يجب أن تموت الأكذوبة، لينبلج الصبح بالجديد، طارت الكراسي في الهواء، الركلات والصفعات تتوالى، تلقى الشيخ ضربة بحبة طماطم متعفنة على الصدر، طار الرشاش، تعفرت اللحية، علت الضحكات، ازداد الرجم اكثر شراسة، تناثرت أعقاب السجائر، سقطت المزهرية، داست الأقدام الورود الذابلة، مزقت اللافتات، ارتطمت الزجاجات الفارغة بالحائط،تناثرت الشظايا، تدافعت الأجساد نحو الباب في جنون، تخبط خبط عشواء، خبطة الذبيحة، تحولت القاعة إلى حلبة للمصارعة، وقفت السيارة الموشومة، أفرغت من جوفها كائنات هلامية، تفرقت الجموع الهائجة، تكلمت العصا في الأجساد، تقدما شرطيان، سحبا مسيلمة الكذاب من تحت المنصبة حيث اختبأ، يرتعد في ذعر شديد، منفوش الشعر، البذلة السوداء رقطها عصير الطماطم، ربطة العنق تتدلى كلسان كلب مسعور، مطأطأ الرأس يتوسط الشرطيان، عندما صعد الى السيارة الموشومة، شنفت مسامعه العبارات النابية من كل جهة، انقلب السحر على الساحر، انقلبت الفرحة إلى ترحة، بعض الناس ينسون، لكن هناك من يحرس وردة النسيان، فالرجل قد من جوع الكادحين رغيفا.

على بعد عدة اشهر من هذا الحادث اخفق مسيلمة الكذاب في الحفاظ على الدائرة البرلمانية، وبعدها مباشرة مني بهزيمة نكراء بمدينة شاطئية في الانتخابات الجماعية، انه الإفلاس السياسي مع مرتبة الشرف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى