الأربعاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٣

مغامرة وراثية

بقلم : صلاح معاطي ـ مصر

لا يوجد مستحيل .. كل شيء يمكن حدوثه داخل المعمل ، لو توفرت له الظروف .. والظروف اليوم مواتية تماما .. تركت زوجتي البيت إثر مشاجرة حامية انتهت بأني صفعتها على وجهها ..

  يا مياس .. أنت الذي صفعتها ؟ .. أم هي التي صفعتك على وجهك بعد أن شنفت أذنيك من الشتائم والسباب ما لذ وطاب ..
كان المتحدث " ميكي " فأر التجارب الماكر الذي يرقد أمامي داخل قفصه ، وهو ينظر لي بخبث وعلى شفتيه ابتسامة سخرية ـــ أو هكذا يخيل إلي ـــ فكثيرا ما أنظر إليه وأشعر أنه يحدثني ، بل إنني أستوحي من عينيه الخبيثتين اللتين تنظران في كل اتجاه تجاربي وأفكاري .. وبحكم وجوده في البيت معنا شاهد "ميكي" وسمع جميع مشاجراتنا حتى اعتادها كما اعتدناها ...

  أنت المخطئ يا سيدي .. فبعد كل مشاجرة تذهب إليها خاضعا متذللا طالبا الصفح والسماح ، مع أني أشهد ويشهد معي أجدادي من الفئران الذين سبقوني إلى هذا البيت الكئيب أن الحق كل الحق معك ..

  لو كنت مكاني يا ميكي لفعلت أكثر من هذا .. فأنت لا تعرف نقطة ضعف الرجل .. فالرجل نقطة ضعفه في ...
قاطعني في انفعال :

  أتظن أن ليس لنا نقطة ضعف مثلكم .. لكن الفأر منا عنده كرامة من فولاذ لا يمكن أن تفتر أو تلين .. آه لو كنت إنسانا ..
  المسألة ليست مسألة كرامة يا ميكي .. كل ما في الأمر أني أحاول أن أرخي الحبل مرة من جانبي حتى تسير المركب بسلام ..
  الواقع أنك الذي ترخي الحبل في كل مرة ، وفي النهاية تركت الحبل على الغارب لزوجتك تفعل به ما تشاء .. وما أدراك أين تكون هي الآن بعد أن تركت البيت .. أتصدق حقا أنها ذهبت إلى بيت أمها ..

  اخرس .. زوجتي أشرف زوجة في الوجود ..
ضحك حتى استلقى على ظهره ثم قال :

  يالك من مغفل .. مسكين .. كل رجل منكم يقول عن زوجته أنها أشرف النساء .. حتى يكاد عالمكم يخلو من الخيانة ..
بدأ الفأر يلعب في عبي :

  أتظن ذلك يا ميكي .. أتعتقد حقا أن تكون ...
  لا يوجد مستحيل .. كل شيء يمكن حدوثه لو توفرت له الظروف .. أليست هذه كلماتك
  نعم يا ميكي .. ولكن هذا في المعمل ..
هز رأسه الصغير في تؤدة ونظر إلى أعلى وهو يقول بلهجة تمثيلية :

  ما الدنيا إلا معمل كبير .. آه لو كنت إنسانا ..
" آه لو كنت إنسانا " .. قالها الفأر الخبيث مرة أخرى ، وتردد صداها في أعماقي .. ولم لا ؟ .. كثيرون جربوا قبلي ودمجوا خلايا حيوانية بأخرى من فصائل مختلفة .. والإنسان في حقيقة الأمر ما هو إلا حيوان ناطق .. هكذا قالوا قديما .. فلماذا لا أجرب أنا.. عدها تجربة أو مغامرة من قبيل التسلية أو لقتل الوقت أو لتنفيس الغضب والثورة التي بداخلي ، أفضل من أن تأكلني الحسرة أو يقتلني القلق الذي زرعه بداخلي هذا الفأر الشقي .. وأدركت أن صاحب النعجة " دوللي " قد تشاجر ليلتها مع زوجته مشاجرة حامية أصبح بعدها من أشهر علماء القرن العشرين ..

لم تمض دقائق قليلة حتى كان كل شيء معدا .. المعمل الخاص بي بكل أجهزته وأدواته .. جهاز الفصل الخلوي الذي يستطيع انتزاع أي خلية تريدها من أي كائن كان .. جهاز دمج الخلايا الذي يعتبر طفرة علمية في عمليات الدمج الخلوي فيمكنه دمج أي خليتين مع توفير الظروف المناسبة لانقسامهما بعد ذلك من حرارة وضغط وتهوية .. أخذت خلية بشرية من خلاياي .. دمجتها بأخرى فأرية منزوعة النواة من خلايا الفأر " ميكي " .. وضعتهما في جهاز الدمج الخلوي .. وكان علي أن أنتظر حتى تبدأ الخلية الجديدة في العمل

ولكن أين لي بالصبر ؟ .. فيبدو أن استنساخ كائن جديد أيسر بكثير من استنساخ الصبر.. أخذت أعد من واحد إلى مائة ، كما نصحني الفأر ميكي ذات مرة لكي أحتفظ بكرامتي أطول فترة ممكنة .. قبل أن أصل إلى العشرة كنت في طريقي إلى منزل حماتي ومعي هدية قيمة ، مرددا في ذاكرتي عهد الصلح الذي سأقطعه على نفسي عندما أدخل من الباب ..

في المساء عدت إلى البيت وخلفي زوجتي .. ما أن فتحت الباب حتى شعرت أن الفأر اللعين ينظر لي في تهكم وهو يضرب خديه ويقول :

  يا خيبتك .. يا خيبتك ..
عندما قمت من النوم .. لم أصدق عيني وهما ترمقان الخلية الجديدة من خلال عدسة المجهر ، واكتشفت أنها بدأت في العمل ودخلت في طور الانقسام .. كبرت اللعبة في عيني .. شعرت بالشوق لرؤية ابني الفأراوي الجديد .. ترى كيف سيخرج ؟ ماذا سيكون شكله ؟ .. سيأخذ ممن أكثر ؟ مني أم من ميكي ؟
مرت أيام أخر وأخذت أتتبع تكون الجنين الجديد بقلب متلهف ، وكان علي أن أنقله إلى حاضنة ليقضي بداخلها فترة النمو .. لم أجد حاضنة أفضل من زوجتي العاقر ، بعد أن أدخلت في رأسها أني وجدت لها علاجا مضمونا للعقم ، بعد إجراء عملية بسيطة ستكون بعدها قادرة على الإنجاب .. كادت زوجتي تطير من السعادة بعد أن رأت الأمل بدأ يراودها من جديد ، وسلمتني نفسها تماما ، وسرعان ما كان ابني الفأراوي داخل أحشاء زوجتي الفقرية .. وأخذت أعد الأيام المتبقية حتى يخرج المخلوق الجديد إلى الوجود ، وكتمت أمره عن الجميع حتى عن زوجتي التي تحمله بداخلها ، وتبدلت حالتها تماما .. مشاجراتها المتكررة لي تتلاشى ، عصبيتها الفجة معي تخفت .. راحت تحلم معي بابننا القادم الذي بدأ يتحرك في أحشائها ، وكلما أحست بحركة صاحت في سعادة :

  تابعي .. الولد يرفس بقوة .. يبدو أنه سيخرج طفلا شقيا ..
قلت في سري :
  تقصدين فأرا شقيا ..
راحت تبتسم في شوق وهي تقول :
  كأنني أراه أمام عيني .. شعر أصفر ناعم وعينان زرقاوان ..
رحت أكمل بصوت مرتفع دون أن أدري :
  وأذنان كبيرتان وفم مسحوب إلى الأمام وذيل رفيع ..
صرخت في انزعاج :

  تابعي .. ماذا تقول ؟

انتبهت .. فرحت أقول بسرعة :

  أقصد .. كيف سيخرج ابننا بشعر أصفر وعينين زرقاوين وليس في العائلة أحد بهذه الأوصاف ..
ذات يوم .. بينما كنت جالسا مع زوجتي أمام جهاز التليفزيون ، قطعت المحطة برامجها العادية فجأة لتذيع نبأ غريبا جعل الدماء تصعد إلى رأسي دفعة واحدة ، وشعرت أنه سيغمى علي ..
  نتيجة لعبث العلماء ببرامج الهندسة الوراثية ظهر جنس ثالث من الإنسان الفأر وهو نتيجة دمج خلية لإنسان بخلية من فأر .. مما يشير إلى قرب فناء البشرية ..
ارتعدت فرائسي .. إذن هناك من سبقني إلى تحضير الرجل الفأر ، وليس بعيدا أن يظهر قريبا الرجل القط والرجل الأرنب والرجل الحمار ... الخ .. فالإنسان ليس بحاجة إلى دمج خلية حيوانية بخلاياه ليكتسب بعض الصفات الحيوانية .. فما أكثر الحيوانات بيننا بني البشر

وانتبهت فجأة على إعلان تليفزيوني :

  تعلن شركة Human Animals عن إنتاج الرجل الثور بالمواصفات التالية: طاقة هائلة في العمل - لا يعرف الراحة أو الكلل - يستطيع بمفرده أن يدير ساقية - عليه قوة تهد جبال ..
وسرحت .. فبعد أسابيع سيخرج ابني الفأر إلى الوجود ، ليضاف إلى المسوخ البشرية التي صنعتها الأيدي الآثمة في لحظات غضب أو تسلية أو مغامرة .. وتغلب الإنسان الذي بداخلي على العالم الذي أكونه ، ووجدت نفسي أندفع نحو زوجتي وأصيح في هياج :
  هذا الجنين يجب أن يخرج فورا ..

نظرت لي في دهشة وصاحت :

  تابعي .. هل جننت ؟ .. ما هذا الهراء الذي تقوله ؟
  اسمعيني جيدا .. هذا الطفل لو خرج إلى الوجود سيكون مسخا مشوها ..
  وما أدراك ؟

  لقد وضعت داخلك هجينا بين الإنسان والفأر …
صرخت في انفعال :

  أنت فعلت هذا ؟ مجرم . حقير .. سوف أجعلك تتحمل تبعة جريمتك ..
وانفجرت في بكاء هستيري بينما رحت أهون عليها :
  نعم .. أنا مجرم وحقير وأستحق أشد العقاب ، ولكن أولا دعينا نتخلص من هذا العمل الآثم بسرعة قبل أن يخرج إلى الوجود ويصبح لنا ابن فأرا ..
لدهشتي وجدتها تمسح دموعها وتقول :
  ولكنه ابننا على أية حال .. تربى في أحشائي وارتوى بدمائي ..
  ولكنه فأر ..

  دعه يخرج إلى الوجود وليحدث له بعد ذلك ما يحدث .. المهم أن يكتمل فهذا الطفل الفأر سيمحو من أذهان الناس أني عاقر ..
مسكتها من كتفيها ورحت أهزها بقوة :
  تريدين أن تحتفظي داخلك بابن مشوه .. مسخ .. من أجل ألا يقول الناس عليك عاقرا ؟

  كل هذا لا يعنيني ..
لم أدر بيدي وقدمي وهي تنهال عليها بقوة وعنف في محاولة لإجهاضها ، ولم أبال بصرخاتها ولا بالدماء التي بدأت تنزف منها .. وتركتها جثة هامدة .

خرجت من البيت في إعياء .. مشيت وحيدا في الطريق يحتويني الظلام .. لا أفكر في شيء محدد .. أخرجت علبة سجائري .. أشعلت واحدة .. سحبت نفسا عميقا ثم زفرت سحابة من الدخان تبددت في الفراغ المظلم الذي يحيط بي من كل جانب .. انتبهت على يد توضع على كتفي وصوت أجش يصيح بجانب أذني:
  تسمح تولع لي ..

مددت إليه يدي بالسيجارة دون أن أنظر إليه .. عندما التفت وجدت أمامي رجلا يحمل وجها ضخما .. ملامح وحشية صارمة .. لبدة على رأسه .. عينان قويتان تنظران شذرا وهما تنفثان شررا كأنهما متقدتان .. يصدر زئيرا مخيفا .. ألقيت علبة سجائري والولاعة وأطلقت ساقي للريح ، بينما كانت ضحكات هستيرية تنطلق خلفي ..

بقلم : صلاح معاطي ـ مصر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى