السبت ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

أطفال الإشارة الضوئية

الطريق التي اعتدت أن أسلكها في سفري من قريتي إلى "الناصرة"، هي أقصر الطرق. ولا تستنـزف من وقتي إلا ساعةً واحدةً وقد تزيد قليلا.. ومع ذلك فإن أنتَ سلكتَ هذه الطريق لا بد لك من المرور من وادي عارة ومشاهدة بعض القرى العربية المحاذية للخط الأخضر.. ولا بد لك أيضًا من التوقف أمام إشارات المرور الضوئية المنتصبة في المفترقات وهي ترقبُ السيارات والمسافرين في غُدُّوِهم ورواحهم.. ثم لا بد أن ترصدَ عيناك أطفالا صغارًا لم يتجاوز بعضهم الثامنة بأسمالهم البالية ووجوههم الكالحة ونفوسهم البريئة يستحمون تحت شلال أشعة الشمس المحرقة يخترقون طوابير السيارات في جرأة وهم يطلبون العون والمساعدةً.

فإن أعطيتَهم دعوا الله لك بالفلاح وجبر الخاطر وشكروك ببسمة تنم عن رضاهم بالواقع وقبولهم بالقدر الذي أهملهم ووهب جل اهتمامه لغيرهم من أبناء يعقوب وإسحاق.. وإن نهرتَهم تركوكَ ومضوا إلى غيركَ في همة ونشاط علّهم يحصلون على شيءٍ قد يعود عليهم نفعه... أطفالٌ قستْ عليهم الدنيا فأتعستهم وأجبرتهم على التسول فانصاعوا لها حتى لا يهزمهم الجوع فيرحلوا عنها..

وفي ذات صباح قبل أن أخرج إلى الناصرة برفقةِ صديقي "نايف"، عقدتُ العزم على أن أقدِّم شيئًا لمن أصادفه في طريقي من أولئك الأطفال.. وحال وصولي إلى مفترق "كفر قرع" جلتُ ببصري في ذاك المكان فشاهدتُ طفلين، أحدهما انزوى يستظل بجذع الإشارة ممسكًا بيده اليمنى قنينة ويجرع الماء من فوهتها.. والآخر يقضم قطعة من الحلوى يبدو أن أحدهم قد تصدق بها عليه. لكنْ لم تتح لنا الإشارة الخضراء المجال للتوقف، فأُجْبِرْنا على متابعة سيرنا باتجاه "أم الفحم".

وحين توقفنا أمام الإشارة التي لاحَ لنا ضوؤها الأحمر من بعيد، تقدم مني أطفال ناولتهم من النقود مقدار ما يكفي كل منهم لشراء وجبة واحدة أو وجبتين.. وقفتْ خلفهم طفلة مترهّلة الثياب.. تلبسُ حذاءين متفتقين يبدو أنهما قد تجاوز استعمالهما ستين سنةً، تظهر من جوانبهما أطراف أصابعها.. ودون أن تنبس بكلمة، أرسلتْ إليَّ نظراتٍ حزينةً خجولةً تبعث في النفس روح الحسرة وتحفرُ في القلب أخاديد الشفقة.. وتمتمتْ بكلماتٍ يبدو أنها حفظتْها من غيرها عن ظهرِ قلبٍ، فيها من الأدعية والثناء على جبر الخواطر.. وحفظ الأهل والأقارب.. فتذكرت ابنتي التي حين تركتها رأيتها تحتضن دميتها ثم تلثمها في خدها فتضعها في سريرها..

 ما اسمك يا صغيرتي؟

وبصوت شاحب ينم عن حيائها أجابت:

 منال...

 تفضلي يا منال...

ثم تناولتْ مني يدُها الصغيرةُ ورقةً نقديةً، وغرفتْ لي من أدعيتها بعد أن ارتسمت البسمة على ثغرها الصغير الداكن.. وكادت تطير من شدة فرحها على مكسبها الكبير وحظها الوافر..

تنبه "نايف" من غفلته وهدر قائلا بصوت غليظٍ وطبعٍ جاف:

 قبح الله أولئك الآباء.. يتلذذون في الفراش حين يزرعون في أرحام أمهاتهم بذورًا بشريةً لا يعرفون عواقبها..ثم تنبتُ أطفالا أشقياء كهؤلاء يداسون كالصراصير تحت وطأة الحياة كي يكافحوا من أجل لقمة العيش.. ولا يتعلمون في المدارس، ثم لا يشمون من رياحين الطفولة.. لقد حُرموا من كل شيء..

 في اعتقادي يا "نايف" أنهم قدموا من منطقة "جنين " ومخيمها..كان الله في عونهم.. تشردوا من قراهم ومدنهم عام ثمانية وأربعين.. وها هم الآن يتسولون مثل أبناء الغجر.. أتدري يا "نايف"! لو تصدَّق أثرياء العرب بقرش واحد في الشهر لما وجدت فقيرًا في هذه الأمة.. أين أموال الزكاة؟ أين البترول؟ أين المساعدات الخارجية؟ بالطبع تجف في طريقها الصحراوية...
لم يطل بنا الأمر في الناصرة.. ثم قفلنا راجعين نتأفف من قيظ تموز وبُعدِ المكان وضيق الوقت. ولعل الفاجعة الكبرى التي حدثتْ كانت تحلّقُ في سماء المنطقة وتنتظرنا بازدراء.. وكانت تنتظر عقارب الساعة لتشير إلى الثانية ظهرًا فأمهلتِ الطفلة إلى حينِ وصولنا كي توقعها قريبًا منا.. أو لعلها كانت تنتظرني، أنا ذاتي، حتى تباغتني بصدمة قد تترك في نفسي أثرًا لا ينجلي لو صُبَّتْ عليه مياه بحيرة طبريا.. ألأنّي شديد التأثر وجياش المشاعر وبكّاءٌ في المواقف؟؟ ربما..

سمعتهم ذات مرةٍ يقولون: حين يموت طفلٌ، تعبِس الدنيا حزنًا، وتعتصر السماء ألمًا، ويبكي القدر ندمًا، وتسقط الحروف من الكتب غضبًا..

لم لا تهتز الأرض حين تسمع أنين "منال" وهي ملقاة على الرصيف تصارع القدر على ثوانٍ بقيت لها في حياتها.. لقد أرادت أن تعبر الشارع لتلحق بابن عمها لكن القدر كان أسرع منها فتلقف روحها التي فاضت بعد أن صدمتها سيارة جاءت مسرعة.. احتشد أبناء الإشارة يستطلعون الخبر مقطبين وجوههم في وجوم.. واندفع بعض المسافرين ممن تركوا مركباتهم في عفوية لعلهم يمدّون لها يد العون والانتشال..

 هل تعرفونها يا أولاد؟

وقالوا وهم يشيرون إلى الطفل الواقف على يساري:

نعم هي ابنة عمه..

وأردف آخر بصوت كئيب:

 مات أبوها قبل خمس سنين واعتُقل أخوها منذ ثلاث سنوات.. وجاءت لتترزّق معنا منذ أسبوع فقط..

ولما رُفعت الجثة وانكفأ القوم وعادت سيارة الإسعاف تصفّر من جديد، هتف "نايف" بامتعاضٍ ونبرات تنذر عن انزعاج عميق:

تبًّا لك يا دنيا.. أي رزقٍ هذا الذي يعيش منه هؤلاء الأطفال؟ آهٍ عليك أيتها الإنسانية.. أين أنتِ أيتها الحرية؟؟ آهٍ على من مات وترك الدنيا للبائسين والضعفاء والكادحين..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى