الأربعاء ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم بشير خلف

مجتمعٌ مدني هشٌّ .. غيرُ مُؤثّرٍ !!

إن مفهوم المجتمع المدني ، رغم ما بات يحوزُه من رواجٍ في الخطاب الفكري ، والسياسي العربي الإسلامي ، لا يزال لم يتّضح بعد بالصورة الواضحة الدلالة حتى لدى النّخب ، وحتى من الكثير ممّن يشرفون عليه ؛ فالبعض يحدده بالمنظمات ، والمؤسسات ، والهيئات التي تُقام على أساس طوْعي بين أفراد المواطنين خارج أطُر الدولة ، والعائلة ، وعلاقات القرابة والعشيرة التي لا تزال مُؤثّرة اجتماعيا وروحيا في أكثر من مكان بالعالم العربي الإسلامي ؛ وهناك من يصرّ على وضْع التشكيلات القرابية ، والمحلية التقليدية عموما ضِمْن منظمات المجتمع المدني ، لأنها توفّر بعض أشكال الحماية للفرد تحت مظلّتها ، ويستثني هذا البعضُ الأحزابَ السياسية من تشكيل المجتمع المدني لافتراضٍ أنها تسعى للوصول إلى السلطة ، في حين يُصرّ البعض الآخر على ثِـقل دورها في المجتمع المدني ، كوْنها لا تسعى إلى استلام السلطة فقط ، بل لأنها تطرح برامج اجتماعية ، واقتصادية ، وتعليمية ، وغيرها . كذلك لا يزال الجدلُ قائما حول ما إذا كانت التشكيلات القائمة على أساس الانتماء الروحي ، أو الطائفي ، أو الإثني تشكّل جزءا من المجتمع المدني لأنها في أحيان كثيرة تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلّعات فئات واسعة من المجتمع ، وتضغط على مراكز القرار لتلبية العديد من المطالب الصحية ، والاجتماعية والتعليمية ، والثقافية ؛ في حين يرفض البعض عضويتها في المجتمع المدني ، بحُكْم القيود التي تضعها في شروط الانتماء إليها ، واقترابها في هذا المجال من المنظمات الإرثية ، ولكوْنها بهذه الشروط تتناقض مع مبدإ المواطنة الذي لا يقوم على شروط الدين ، أو الجنس ، أو العرق ، أو الانتماء الجهوي، أوالإثني .(1)

ويواجه التعريفُ الذي يركّز فقط على الجانب الاختياري الطوْعي في العضوية نفسَ الإشكالية ؛ فمنظمات المجتمع المدني تتباين كثيرا من حيث درجة انفتاح عضويتها ، فبعضها كالنوادي الخاصة يشترط رسوم اشتراك ، واهتمامات محدّدة ، وبعضها كمؤسسات البحث والجامعات ، والمعاهد يشترط مؤهّلات أكاديمية ، وعلمية ، وتخصّصية معيّنة ، وتفرّغ للعمل المدفوع الأجر ، كما تضع النقابات المهنية شروطا للعضوية ، وتحصرها في مجموعات ، وفئات مهنية ، وتشترط الأحزاب عادة الموافقة على برنامج الحزب ، ونظامه الداخلي ..هناك أيضا رابطات وجمعيات ثقافية وفكرية، ومؤسسات روحية تعمل وفق رؤية محصورة ، وهناك الجمعيات الخيرية والإغاثية التي تعتمد على العمل التطوّعي وبدون مقابلٍ كالهلال الأحمر مثلا .

ما سبق يقودنا إلى أن التعاطيَ مع المجتمع المدني وكأنه جسمٌ قائمٌ بذاته ، أو هو نسيجٌ مترابطٌ ..هو استنتاجٌ خاطئٌ .السؤال الجدير بالطرح ..ما العمل ؟
هل المجتمع المدني بمفهومه الحديث والمعاصر وبتغلغله في نسيج المجتمع بنسب تتحرك صعودا وهبوطا حتمية تاريخية فرضت نفسها ولا بدّ من التعامل معها بمعرفة وحكمة ، وواقعية ، والاستفادة من ثمارها كما هو الحال عند منْ سبقونا ؟ أم هي بدعة دخيلة تسرّبت إلينا ممّن يناوئوننا وجودا وكينونة في هذه المعمورة ؟ أم الرأي الحصيف هو تدعيم البُنى التقليدية في شكلها الأهلي والطائفي ، والعشائري كما كان الحال في العصور السابقة ، وكما لا تزال هذه البُنى متواجدة ومؤثرة في العديد من مناطق العالم العربي الإسلامي ؟

المجتمع المدني الحديث رهين الوعْي

إن المجتمع المدني في شكله الحالي وفي سياقه المعاصر ونوعية الأدوار التي يؤديها ، وهو تلك الشبكة الواسعة من الهيئات والمنظمات التي طوّرتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ( ترفد عمل الدولة ، ولا تتعارض معها ) ، وإذا شبّهنا الدولة بالعمود الفقري ، فالمجتمع المدني هو تلك الخلايا التي تتكوّن منها الأعضاء ، والتي ليس للجسم الاجتماعي حياةٌ من دونها ، فليس هناك أيّ شكل من العداء بينهما ، ولا اختلافٌ في طبيعة الوظائف كما سبق وأن أكّدنا ، وإنْ كان هناك اختلافٌ في أداء الأدوار ..هذا المجتمع أصبح ضرورة ملحّة .

إن التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ، ومتكاملة الوظائف معها ، ومشارِكة في تحقيق الكثير من المهام التي تخلّت عنها هذه الأخيرة ؛ ثم إن هذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة ، والانتقال نحْو مجتمع ديمقراطي يحكم نفسه بنفسه ، ويتحمّل هو ذاته مسؤولية إدارة العديد من شؤونه المختلفة .

إن المجتمع المدني في الدول الغربية احتلّ مكانة رائدة وتجاوز غائياته البسيطة ، فالأمر تجاوز ذلك وجعل من المنظمات غير الحكومية : المحلّية والدولية ، من خلال الوضعية القانونية التي كرّستها لهذه المنظمات الأممُ المتحدةُ ، والدورُ النشيطُ الذي أصبحت تُوليه لها لحلّ العديد من المشكلات ، والتحديات الاجتماعية ، والاقتصادية ، والثقافية ؛ حتى ساد الاعتقادُ اليوم أن هذه المنظمات هي الملجأُ الوحيد في تنفيذ المشاريع الإنسانية الخيرية وغير الخيرية في مواجهة عجْز الدولة ، وشلل أجهزتها بسبب سيطرة البيروقراطية عليها .(2)

ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد النامية والفقيرة ، فالحديث لا يزال بعيدا عن المجتمع المدني الواعي ، الفاعل ، الديناميكي ، والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي بقناعة أو نُضْج الدولة ، ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الأنجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي ، ولا عن نُضْج المجتمع ، وتوسّع دائرة العمل ، والمبادرة والتنظيم عند أفراده ، ونشوء جمعيات ، ومؤسسات أهلية قادرة على التدخّل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية للمواطنين في حينها .

مجتمعٌ مدني هشٌّ يعارض الدولة
ويطلب منها المساعدة !!

إن الكثير من جمعيات المجتمع المدني في هذه البلدان هدفُـها الاستفادة من المساعدات التي تقدمها الدولة ، أو تستهدف من وراء نشاطاتها الشكلية غطاء للوصول إلى السلطة المحلية ، أو الانضواء تحت مظلة الأحزاب الكبيرة مجنِّدة نفسها لها في حملات وعمليات الانتخابات للاستفادة ولو بجزء من الكعكة الجديدة ؛ وهذا يجرّنا لاحقا إلى قوْل كلمة حقٍّ فيما يُسمّى عندنا بـ (الحركة الجمعوية ) .

إن أكبر خطر يعيق المجتمع المدني في أداء وظائفه ، أو يجعل وجوده باهتا وغير مُؤثّر ، هو إمّا غياب المؤسسات التمثيلية فيه ، أو إفراغها من محتواها ، والزيغ بها عن أهدافها ، وحشْرها ضِمْن القنوات الدعائية للأنظمة ، أو للأحزاب الكبيرة في صراعها للوصول إلى السلطة . إن ضعْـفَ المجتمع المدني لا يعني حقيقة أن الدولة قوية ، فالدولة التي لا تستند إلى مجتمع مدني قويٍّ تفتقر إلى القاعدة المؤسسية ، وإلى المشروعية الشعبية ، ممّا يجعلها تهتـزّ في الأزمات ولا يقف بجانبها المواطنون أفرادا وجماعات .
استقلالية المجتمع المدني؟ !!

ما سبق ذكره يجرّنا إلى السؤال التالي : هل يمكن استقلالية المجتمع المدني في البلدان النامية بما فيها بلادنا عن الدولة وعن الأحزاب ، وعن الشركات ، ورجال النفوذ والمال ؟ هل بإمكانه وجود موارد للتمويل وتأدية وظائفه دون طلب مساعدة من هذه الهيئة أو تلك ؟ من التجربة والمعايشة لنا في ذلك ، أن هذه الاستقلالية حاليا منعدمةٌ ، ولا نخال أنها ستنتفي قريبا ..لأن مكوّنات المجتمع المدني في الجزائر على سبيل المثال لا ترى في تكوين منظمة ، أو جمعية ، أورابطة ، أو .. أو الانضمام إلى هذه أو تلك إلاّ أنها فرصةٌ سانحة لن تتكرّر لنيْل مأرب مادي ، أو سياسي ، أو جاهٍ ؛ ...إلاّ النادر جدّا .

ولعلّ ابرز ما يميز منظمات المجتمع المدني عن الدولة ، والمؤسسات الاقتصادية وأصحابها يكمن في طبيعة العلاقة التي تقيمها مع جمهورها ، وهي علاقة تفترض امتلاك هذه المنظمات ليس مجرّد درجة عالية من الاستقلالية في إدارة شؤونها ، وفي صياغة خططها ونشاطاتها ، وطريقة تحرّكها ؛ وهذا مرتبطٌ بقدرة مسيّريها على التواصل ، والنشاط العملي في إطار مهامها التي وجدت من أجلها أصلا ، وليس في المناسبات فحسب كتابعة ومجنّدة لهيئات أخرى ، وكذلك القدرة على التجدّد في الفكر ، والتوعية ، وتطعيم صفوفها بعناصر ذات كفاءة وخبرة ومصداقية ، وبالقدرة على تلبية حاجات وتطلعات اجتماعية أساسية للمواطنين ، وبقدرتها أيضا على دعمهم في مطالبهم ، وحاجاتهم اليومية تُجاه الهيئات الرسمية ، وبقدرتها على تمثيل مصالحهم ورفع مطالبهم باسمها .

إن محرّك عمَل وأهداف منظمات المجتمع المدني ليس الربح أو البزنسة ، بل هو محرّك يتحدّد وِفْـق تنوع هذه المنظمات : عمل الخير ، النهي عن المنكر ، الإغاثة ، التأهيل ، تدعيم التربية والتكوين ، التثقيف والتنوير ، محو الأمية ، الرعاية بالطفولة ، الرعاية بالمسنّين ، التضامن الاجتماعي ، رعاية البيئة ، رعاية اليتامى والأرامل ، مساعدة أصحاب الأمراض المزمنة ، الدفاع عن المستهلك ، العناية بالمدينة ، بالحي ..وغيرها من الدفاع وصيانة حقوق الأعضاء : كُتّاب ، محامون ، موثقون ، قضاة ، مهندسون ، أطبّاء ، صيادلة ، حرفيون ، تُجّار ... أي أن مجالات المجتمع المدني هي تلك المجالات التي لا تخضع لإدارة وتوجيه مؤسسات الدولة وتنظيمها ، وتعتمد إدارات مستقلة يخضع دورها وأشخاصها ، وبرامجها لموافقة وتوجّهات الأعضاء والجمهور المعني بنشاطاتها .

لتـذكير القارئ الكريم يتوجّب علينا أن نـشير إلى أن هـناك عدة ( لقاءات ، ندوات ، ...) وطنية تُعــقد من حين إلى آخر ببلادنا تتعلق بدور ( الحركة الجمعوية ) ومنها لقاء وطني بعنوان ( دوْرُ الحركة الجمعوية في التنمية الاجتماعية يومي 25 و26 ديسمبر 2002 بنادي الصنوبر تحت رعاية السيد وزير التشغيل والتضامن الوطني . من المواضيع التي طُرحت في هذا اللقاء : دور الحركة الجمعوية في الحفاظ على الفكر المدني ، وفي التربية على المُواطنة ، تنظيم العمل الإنساني والتضامني للحركة الجمعوية ، النصوص القانونية والتنظيمية الخاصة بالحركة الجمعوية ، المُواطنة والديمقراطية ، ترقية ثقافة الشراكة ، ترقية ثقافة الشراكة الدولية ، الفلاحة والتنمية الريفية والحركة الجمعوية ، دور الحركة الجمعوية في حالة الكوارث الطبيعية ، التضامن الوطني ، الحركة الجمعوية والنشاط الإنساني ، التربية الاجتماعية ، المُواطنة والديمقراطية والتربية الاجتماعية
إنها مواضيع جدّ هامة وذات فضاءات خيرية ، وإنسانية ، وتنموية ، وتكوينية ، إلاّ أن تطبيقها عمليّا يكون محدودا كوْن الحركة الجمعوية وبمثل هذا الاحتضان من وزارة التشغيل ، ورعاية السيد الوزير تبقى مقيّدة الحركة وطوْع الأمر الفوقي ، وحركتها مرهونةٌ بالدعم المادي المقدم لها ؛ وهذا ما يتنافى ومفهوم المجتمع المدني الحديث في استقلاليته عن الدولة من حيث التأسيس ، وانتقاء المجال ، واتخاذ القرار ، والبحث عن موارد التمويل والتي غالبا ما تكون ذاتيا متأتية من مشاريع ، أو من هباتِ جمعيات أخرى ، أو أشخاص لا يبغون من وراء عطائهم جزاء ولا شكورا ، كما هو حال المساعدات التي تُقدم للجمعيات الخيرية ، ومنظمات الهلال الأحمر ، والصليب الأحمر .

المجتمع المدني يتكامل ، ولا يتعارض مع الدولة
وهناك من يدقّق في تقسيمها أكثر حتى تتضح أدوارُها ، ولا تتداخل
مع غيرها كما يذهب إلى ذلك الأستاذ ـ علي الدميني ـ في مقال له بعنوان : دورُ المجتمع المدني في الحدّ من ظاهرة العنف والإرهاب، وينقسم نشاط جمعيات المجتمع المدني إلى قسمين رئيسيين :

القسم الأول : منظمات خاصة مهنية ونقابية وتضمُ أصحاب المهنة الواحدة، كالقضاة، والمعلمين، والمعلمات، والأكاديميين، والطلاب،والعمال،والمزارعين ، والتجار، والأطباء ، والمهندسين، وسائقي السيارات ، وأصحاب الحرف والهوايات ،والإبداعات المختلفة وسواهم، ويتركز عملُ هذه المنظمات على:

1- تطوير المهنة.

2-المحافظة على شرف المهنة ومحاسبة منتهكي أعرافها وتقاليدها ونظمها الداخلية.

3-الدفاع عن مصالح المنتمين إليها .

4-المساهمة بالرأي في قضايا الشأن العام .

القسم الثاني : منظمات عامة في مجالات الصالح العام الاجتماعي والسياسي، ويشمل الوجه الأول منها جمعيات الاحتساب ، وحقوق الإنسان ،التي تتكون من المختصين القادرين على إرشاد الناس في أمور دينهم ودنياهم ، والحفاظ على الأخلاق والآداب العامة ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، ومراقبة تطبيق قيم الحرية المسئولة والعدالة ، والمساواة ، و الدفاع عن حقوق الإنسان .

أما الوجه الآخر من المنظمات العاملة في سبيل المصلحة العامة ، فيشتمل على منظمات وجمعيات سياسية تهتمّ بتعزيز عملِ آليات المجتمع المدني ، والتعبير عن الشأن العام ، وتعزيز الحريات العامة والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار ، وإقرار مبدإ التعددية ، وحقوق الإنسان والسعي لتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية ، وكشْف التجاوزات التي تطال حقوق المواطنين أو المال العام ، و تُـسمّى الجمعيات السياسية.

ويمكن تحديد فعاليات عمل المجتمع المدني فيما يلي :

1- الحد من احتكار الدولة للسلطة ، والقرار وقوة القمع ، وقيامها بممارسة دور الحياد النزيه إزاء مختلف القوى الاجتماعية .

2- ترسيخ القناعات والممارسات بأهمية احترام الاختلاف ، وإقرار مبدإ التعددية ،و تيسير إمكانية اندماج الأفراد المنحدرين من مناطق وشرائح مختلفة في إنجاز أعمال ومشاريع مشتركة والقضاء على ترسّـبات التفرقة المناطقية ، والطائفية ، والفئوية.

3- توسيع قاعدة المهتمين بالمصلحة العامة ، و ذلك ما سوف يعمل على تصليب الجبهة الداخلية ، والانتماء الوطني،و القضاء على مشاعر اللامبالاة ، أو اليأس ، وعدم الجدوى، وفتْـح المجال للتعبير عن حرية الرأي ، والمساهمة في صناعة القرارات المصيرية للوطن و للمواطنين.

4- امتصاص حالات الغضب والاحتقان الاجتماعي والسياسي ، وفتْـح الباب للتنفيس عنها سلمياً بالتعبير عن الرأي العلني، وتعميق مفاهيم العمل المؤسسي، و تأكيد مقدرة المجتمع على التنظيم الذاتي والعمل الجماعي، والقدرة على اتخاذ المبادرات ، وتدعيم النهج السلمي في الحوار بين الأطراف المختلفة، والعمل على تقليص تأثير النزعة الفردية والتسلطية في اتخاذ القرار.

5- حماية مصالح الأفراد والجماعات وكافة المنتمين للمهن والتخصصات المختلفة الذين ينتمون لهذه الجمعيات، والدفاع عن حقوقهم إزاء الأجهزة الحكومية والأهلية التي تهدد تلك المصالح.

6- تلبية الاحتياجات المتعددة والمختلفة لكل أفراد المجتمع من خلال انخراطهم في النشاطات النقابية التي تعبر عن تخصصاتهم وميولهم وتطلعاتهم ، وفتْح الباب أمام كل مكونات المجتمع بدون تمييز للانخراط في العمل المؤسساتي ، وذلك ما سوف يحدُّ من احتكار أيِّ تيارٍ أو فكرٍ للعمل الثقافي ، والاجتماعي والسياسي في الوطن.

7- وبالنسبة للأجيال الشابة ، فإن جمعيات المجتمع المدني سوف تعمل على استيعاب طاقاتهم، وتوفير أسباب الأمان الاجتماعي والثقافي والنفسي لهم، وتلبية احتياجهم لتحقيق الذات ، وتوفير البيئات العملية الكفيلة بتعميق روح العمل الجماعي والمؤسسي المنظم في نفوسهم. وتيسير اندماج الأفراد المنحدرين من مناطق وشرائح مختلفة في انجاز أعمال ومشاريع مشتركة والقضاء على ترسبات التفرقة المناطقية والفئوية.

8- تطوير المهارات القيادية، وتأهيل الكوادر ، وتعزيز القبول برأي الأغلبية واختيار الأفراد الأكثر كفاءة لقيادة أعمال جمعياتهم ،وتعزيز آليات المراقبة والمحاسبة والمساءلة، والتعود على العملية الانتخابية، وتطبيق مبادئ تكافؤ الفرص وتداول السلطة .

9- تحقيق بعض المكتسبات المادية كالرعاية الصحية، أو التمتع بالبرامج الترفيهية ، والثقافية التي تقدمها الجمعيات ، أو بالإعانة المادية للمحتاجين.
10- ولسوف تُـثْمرُ جهودُ هذه الجمعيات بآرائها وأنشطتها في حلّ الكثير من الأزمات والمشكلات الاجتماعية، وتعمل على تعزيز حرية الرأي وترسيخ ثقافة التسامح، وحقوق الإنسان .(3)

إن المجتمع المدني بهذه الصورة كي يؤدي دوره المستقل عليه أن يجد منابع للتمويل لا ترد من السلطة ، ولا من المؤسسات العامة والخاصة ، ولا من الأفراد ( عكس ما هو معمول به عندنا ) فالاستقلالية في القرار ، وفي التمويل تترك منظمات المجتمع المدني تتحرك بقوة وبحرية لأداء وظائفها ..ولكن كيف السبيل إلى ذلك ؟
قد يرى البعض أن ذلك يتحقق في إطار الدعم المقدم من البنوك في شكل قروض مصغرة لإنشاء مشاريع منتجة ومربحة ، بدورها في حالة نجاحها تخلق الثروة وتُوسّع من مجال الجمعية أو المنظمة ..مشاريع ذات طابع فلاحي ، أو صناعي ، أو تجاري ، أو إعلامي ، أو ثقافي ...هذه الصيغة التي أصبحت مطبقة في أكثر من بلدٍ ، وتعمل منظمات دولية كالأمم المتحدة ، والبنك الدولي على الترويج لها في بلدان العالم الثالث عن طريق الإعلام وبواسطة تنظيم دورات تدريبية لأعضاء المنظمات في هذه البلدان في كيفية خلْق مؤسسات منتجة ؛( وقد استفادت الجزائر من عدة دورات في هذا المجال منها واحدة عُقِدت بمدينة الوادي سنة 2003 ) ، وزيادة تعاونه مع منظمات المجتمع المدني التي من مهامها أيضا المساعدة على تمكين الفقراء من تجاوز محنهم ، والتأثير في القرارات التي تؤثر على حياتهم . وأصبحت منظمات المجتمع المدني شريكا بارزا في عملية المساعدة الإنمائية على مستوى العالم ، وأوضحت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ، أنه قد تمّ تقديم مساهمات تُقدّر بمبلغ يتراوح بين 6 ـ 7 بلايين دولار سنويا عن طريق منظمات المجتمع المدني من مواردها الخاصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي ، في شكل إعانات لإنشاء مؤسسات اقتصادية ، واجتماعية منتجة استفادت منها منظمات المجتمع المدني ، في العديد من بلدان العالم النامي ، لكن بعض البلدان تُشكّك في مصداقية هذه الإعانات ، ونية المؤسسات الدولية المانحة ، بل ترفض أيّ نوْعٍ من الدعم الخارجي لمؤسسات المجتمع المدني بما في ذلك الأحزاب ، وبلادنا واحدةٌ منها .
ينطلق البنك الدولي من قناعة خاصة بأن الشراكة القائمة بين المجتمع المدني ، والحكومة ، والقطاع الخاص ، قد أصبحت أكثر الطرق فعالية في تحقيق النموّ الاقتصادي ، والتنمية الاجتماعية القابلة للاستمرار ، وتشمل هذه الفوائد ما يلي :

  أخْذ القرارات الصادرة عن المجتمع المدني بعين الاعتبار ، فعن طريقها يمكن وضْع مطالب الفقراء والمهمّشين موضع اعتبار ، عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالبرامج السياسية والتنموية .
  تعزيز الإجماع العام والدعم المحلّي في عمليات الإصلاح ، ومنظمات المجتمع المدني ستساهم في تعزيز هذا الدعم لتدعيم المبادرات الوطنية في عمليات التنمية ومساعدة الفقراء .
  إيجاد وتكوين أفكار وحلول جديدة للأفراد والجماعات ، والعمل على زيادة المشاركة المحلية .
  تقديم الخبرة المهنية ، وزيادة القدرة على تقديم الخدمات ، خاصة في حالة عدم قدرة القطاع العام على تقديم الخدمات العامة .

في العقد الماضي ارتفعت نسبة مشاركة منظمات المجتمع الدولي في المشروعات التي يقوم البنك الدولي بتمويلها من نسبة 21 % في عام 1990 إلى 72 % عام 2004 .ويتعاون البنك الدولي مع المئات من منظمات المجتمع المدني حاليا في جميع أنحاء العالم ، ويقوم بتمويل الجهود الساعية إلى تخفيض أعداد الفقراء عن طريق توظيف خدمات المساعدة الفنية ، والتدريب ، والاشتراك مع هذه المنظمات في الإدارة المشتركة للبرامج . وحرص البنك الدولي على زيادة التمويل الذي يقدمه إلى منظمات المجتمع المدني بمعدل ثابتٍ من خلال العديد من آليات التمويل الذي يتمّ في الغالب بالتعاون مع جهات تقديم المساعدات الدولية في دعْم البرامج مثل المبادرات البيئية ، والاعتمادات الصغيرة للمشاريع ، وجهود الإعْمار ( بعْد الصراعات بالطبع ) ، والحصول على تكنولوجيا المعلومات ، مشاريع صوْن الغابات ، ومكافحة الفيروس المسبّب لمرض نقص المناعة ، وتخفيض أعداد الفقراء في المناطق الريفية (4)

التمويل الذاتي قوّة المجتمع المدني، واستقلاليته

إن المجتمع المدني عندنا غائبٌ أو مُغيّب عن هذه الحركية لمفهوم المجتمع المدني ذي الفاعلية ؛ فما هو واقعي ومألوف عندنا بمجرّد حصول المنظمة ، أو الجمعية على اعتمادها من وزارة الداخلية إنْ كانت وطنية ، ومن الولاية إنْ كانت محلية تتقدّم بطلب الدعم المالي إلى الهيئات الرسمية ، هذه الهيئات التي تشترط برنامج عملٍ سنوي للجمعية قابلٌ للتطبيق ..إن الكثير من الجمعيات التي تتلقى الدعم غالبا لا تقدم أي نشاط ، حيث يُصرف مبلغُ الإعانة في أغراض أخرى كصرْفه في رحلات سياحية ترفيهية للأعضاء المنضوين ، أو قضاء عُطل بجانب البحر صيفا تحت عنوان : التبادل الثقافي ..أو تجهيز مقرّ الجمعية بأجهزة وآلات حديثة ليُتبين فيما بعد أنها نُقلت إلى أماكن أخرى غير معروفة ، وهذا في أحسن الحالات لأن تلكم المساعدات قد لا يُرى لها أثرٌ إلاّ على الأوراق وهذا ما حدا بوزارة الداخلية في هذه السنة 2005 أن تفتح تحقيقات معمّقة حول حقيقة دوْر هذه الجمعيات التي يقترب عددها من 83000 جمعية تشكل ما يُطلق عليه بالحركة الجمعوية ؛ وإن المتتبع لنشاطاتها وطنيا ومحلّيا سيلْمسُ تأكيدا أن أربعة أو خمسة من المئة تتواجد عمليا ولها وهجُـها وبريقها على غرار الأحزاب .. والغريب في أمْر هذه الجمعيات وَهَمُـهَا أنها تؤدي أدوارا مهمة في المجتمع عجزت عنها الدولة ، BBBB وبالتالي فهي تناوئها عن عجزها ذاك ، وهذه مُلْزمة بتدعيمها ماديا وماليا .

إن ضُعف ثقافة القانون على مستوى التعامل مع الحقوق والواجبات أدّى بأعضاء ومتعاوني الجمعيات المدنية إلى اعتبار المساعدات المنصوص عليها قانونا شكلاً من أشكال المنح والهبات ، ممّا أدّى إلى إقامة علاقات مبنية على الولاء والتبعية للإدارة أكثر منها للقانون، أو إلى نوْع من الذلّ والمسْكنة ، والتسوّل المُهين أمام أصحاب النفوذ والمال في القطاع الخاص، منْ يُطلقُ عليهم ـ المدعّمون ـ
هل لدينا فعلا مجتمعٌ مدني بالمفهوم الحديث ؟
انطلاقا مما سبق ، هل يوجد في الجزائر فعلا مجتمع مدني بالمفهوم المعاصر ؟ وإن كان موجودا ما ثقله في المعادلات السياسية والاجتماعية ؟ ما المعايير التي تُديره ؟ ما مدى إيمان أعضائه بالقيم التي تُسيّر افتراضا منظمات المجتمع المدني كالانضمام الاختياري والتطوع ، وحرية الرأي وتقبّل الاختلاف في ذلك ، والتسامح ، والتداول في الإدارة والتسيير ، والقناعة بأن الانضمام إلى هيئات المجتمع المدني هو ضرورة بشرية :

(( إن مؤسسات المجتمع المدني ضرورة بشرية لا غِنًى عنها ، وبدونها قد يكون الناس مجرّد جمهور لا تأثير له ، وأن ارتباطات الفرد بمختلف هذه الجمعيات هي التي تُضْفي عليه أهمية كبرى ، ودورا يُذْكرُ .)) (5)

من المُتفق عليه أن قوة المجتمع المدني مرتبطٌ بالتطور العام للمجتمع ، وبالأرث الثقافي والاجتماعي ، لما يُتيحه ذلك من وعْـي بكينونة الإنسان ، ووعيه لذاته ولغيره ، وتقدير رسالته في الكون وفي المجتمع الوطني ، والإنساني ممّا ييسّر فيما بعد من هيكلة الأفراد داخل تنظيمات مختلفة ..فالمجتمع الذي ترتفع الجهالة والأمية لدى حوالي ربْع سكانه ، وتسود فيه نسبة البطالة العالية ، وتتقلّص فيه يوميا روحُ الانتماء ، وتخفتُ القيم التي تحكم نسيجه يتعذّر على الكثير من أفراده الشعور بالواجبات قبل الحقوق، وهي التي تدخل ضمن اهتمامات المجتمع المدني .
كما أن بقاء الارتباطات التقليدية ( التي وإنْ كانت لا تزال لها تأثيراتها الإيجابية ) في المجتمع الجزائري أمرٌ حال وصعّب من أن تؤدي مؤسسات المجتمع المدني دورها القائم على مبدإ المواطنة ؛ فالجهوية ، والقبلية ، والعروشية ، وانتشار ظاهرة العُصب لا تزال متغلغلة في مجتمعنا (22)، وتمثّل أحد الأنماط الرئيسة للارتباط الاجتماعي للأفراد فيما بينهم ..وحتى منظمات المجتمع المدني في هيكلتها وتنظيمها وتسييرها لا تعدو أن تكون صورة مصغّرة للأحزاب التي لم تختلف في تسييرها وقيادتها عن الحزب الواحد ، وبالتالي فإن حرية التعبير وتقبل الاختلاف والمشاركة في القرار ، والتداول على القيادة وهي من أبجديات المجتمع المدني أمرٌ غير موجود ، ولا أخاله سيوجد مستقبلا..

مجتمع مدني يفتقد سمات التسيير الحضارية

آفتنا الكبرى روحُ التسلط ، وتهميش الآخر ، والحطّ من منزلته ، وإذْلاله وتهميشه ..ونتيجة لذلك في كل آنٍ نسمع عن هذا الحزب أو ذاك ، أنْ برزت من بين أعضائه حركةٌ تصحيحية ، أو عن هذه المنظمة أو تلك وقد انشطرت إلى منظمتين أو أكثر ..ونحن في غِنًى عن ذكْر الأسماء ، والمتتبع لمسيرتنا ستبرز له بسهولة.
إن أهم مؤسسات المجتمع المدني في الجزائر اليوم والتي كانت سابقا تمثل امتدادا لسلطة الدولة ، و كانت تحت مظلة الحزب الواحد الذي كان بدوره هو السلطة ، لم تستطع اليوم بالرغم من استقلاليتها أن تنفطم عن موالاتها السابقة ، وما تأسس في إطار التعددية من مؤسسات ومنظمات تفتقد إلى مفهوم المجتمع المدني المعاصر الذي وظيفته التكامل مع وظيفة الدولة ، ومساعدتها في القيام بما تخلّت عنه من وظائفها السابقة تُجاه المجتمع (6)، وليس كما هو مفهومٌ عندنا اليوم بأن المجتمع المدني إمّا هو نِدٌّ للسلطة حتى وإنْ كانت في بعض المواقف في الاتجاه الصحيح ، وإمّا هي مؤسسات مجتمعية في الظاهر مستقلّة عن السلطة ، ولكن في حقيقتها مؤسسات ترضع من حليبها ، وما هي بقادرة أن تنفطم ، وهي رهينة الحاجة تنتظر المهماز كي تطفو في المناسبات في حملات التعبئة والمساندة لهذه الجهة أو تلك .

ولا ننكر أن هناك مؤسسات نشطة وأثبتت وجودها عن جدارة ولم تنتكس ، وما حادت عن أهدافها الأولى ، وبقيت وفية لمناصريها ، وللمجتمع ..منها ما يدافع عن حقوق الإنسان ، ومنها ما يعمل في إطار التكافل الاجتماعي والمجال الخيري ، ومنها ما ينشط في المجال العلمي ، والثقافي ، والتاريخي ، والصحّي ، وكذلك الصحافة المستقلة وتتصدّرها جريدة ( الخبر ) التي في اعتقادي ولا تزال على غرار غيرها من بعض الصحف المستقلة ، وإنْ كانت هذه الصحيفة وإصداراتها الأخرى ،هي أكثر تأثيرا ومصداقية وانتشارا في الداخل والخارج ..تُعتبر مؤسسة كبيرة من مؤسسات المجتمع المدني في الجزائر ، ولا تدخل البتّة تحت ما يُطلق عليه بالحركة الجمعوية ..هل يمكن مقابل ذلك أن تُولد مؤسسات فاعلة على غرار جمعية العلماء الجزائريين( الأولى ) في هذه الديار ؟ تلكم الجمعية الرائدة التي قارعت الاستدمار الفرنسي وهو في أوْج قوته وهنجعيته ، وعملت ليس في الحفاظ على هوية الأمة وثوابتها على ما هي عليه فحسب ، بل على تنقيتها ممّا شابها ، وإعادتها إلى أصلها النقي .. ، تعاطت ومن مركز قوّة يومها مع قضايا الأمة العربية الإسلامية ، ومع كلّ القضايا العادلة في العالم ...جمعية العلماء غابت اليوم كهيكل إداري ، وما غابت روحا يحرّك هذه الأمة ..كانت بحقّ دولة داخل دولة .

إن محدودية الوظائف في النظام الديمقراطي المُسْندة للدولة ، أمرٌ يستدعي تجنّدَ المجتمع لتولّي ذلك من خلال منظمات ، ومؤسسات ذات فعالية ؛ فالمنظمات المدنية من هذا القبيل أكثرُ ما تكون انتشارا وقوة ، وذات تأثير ومصداقية في البلدان التي يقلّ فيها تدخّل الدولة في الحياة العامة . إن فعالية مؤسسات المجتمع المدني وقوة تواجدها المُؤثر هو مظهرٌ من مظاهر تسيير المجتمع لنفسه .
حركةٌ جمعوية .. وليست مؤسسات للمجتمع المدني !!

ويبدو لي ومن المعايشة اليومية لمؤسسات المجتمع المدني وواقع وجودها ، وتحرّكها عندنا إنْ وطنيا ، وإنْ محلّيا لا تزال هشّة وعودها لم يقو بعد ، وبالتالي غير قادرة على التأثير في الأحداث الوطنية إنْ سلبا ، وإنْ إيجابا ..فما بالك بإسماع صوتها خارجيا للتنديد بالظلم الذي تمارسه القوى العظمى في شتّى المجالات ..ويصدق عليها مصطلح ( الحركة الجمعوية ) بدلا من مصطلح المجتمع المدني الذي في رأيي الشخصي أبلغ ، وأشمل من حيث أداء الوظائف ، ولعب الأدوار ، وإلاّ ما معنى لمجتمع مدني أو حركة جمعوية تعجز عن التحرّك ، أو حتى بالتنديد الشفوي أو الكتابي في مجتمعٍ تتعرض خصوصياته الثقافية ، ومكونات هويته للتفتيت والتهميش ، والذوبان كنكبة اللغة العربية في هذه الديار ، وانتشار التمسيح في بعض مناطق الوطن ، أو تغضّ الطرْفَ عن المشاركة في الدفاع عن القضايا العادلة في العالم ؛ قد يقول قائل : لا غرابة في ذلك فالجزائريون صُدموا بالواقع وفقدوا ثقتهم في النُّخب وفي التنظيمات المدنية والتشكيلات السياسية ، وعزفوا عن الانضمام لها أو السير وراءها .. لأن النزعة الفردية والبزنسة ، والقبلية ولو المقنّعة ، والطائفية المعشّشة في الظاهر والباطن ، لا تتعايش مع مفهوم المجتمع المدني السليم القادر على التأثير والإقناع والتنشيط ثم التعبئة ، الذي يستند إلى المعرفة الواسعة ، والحرص على إشاعة الأفكار والمواقف الفاضلة لدى الأفراد المنضوين أوّلا ، والمجتمع ثانيا .

حقّا من الصعب أن ينشأ المجتمع المدني ، ويقوى عُوده لدى مجتمع يعاني الكثيرُ من أفراده من الأمية ، والبطالة والحرمان ، والتهميش ..وبالتالي من الفقر الذي تتولّد عنه الحاجة ، والجوع ، والمرض ، والآفات الاجتماعية كردّ فعْل لذلك ؛ إذْ يصعب احتواء الأفراد في هذه الحالة لهيكلتهم ، وإقناعهم بالمشاركة في الحياة السياسية ، وحركية مؤسسات المجتمع المدني .

إن المجتمع المدني السليم مْنْ توفّرت في أصحابه صفاتٌ كمعرفة التاريخ الوطني والعالمي ، ومتابعة الأحداث العالمية بوعْي وإدراك ، ومعرفة طبيعة العلاقات الاجتماعية ، وتوفّر الصفات الأخلاقية مثل التضحية والنزاهة ، والغيرة على الوطن ومصالحه ، ومكاسبه ، والحسّ بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية ، والعدالة ، والأمانة ، والتسامح ممّا يتطابق مع الآية القرآنية الكريمة في سورة :( النساء :58 ) (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً .))
إن أغلب المنظمات الشبابية المنضوية تحت مظلة المجتمع المدني تقصر نشاطها المحدود جدّا على البرامج الترفيهية ، أو الرحلات صيفا إلى الشواطئ ، متناسية رسالتها الأساسية في تكوين أجيال من المواطنين الصالحين ، القادرين على العمل من أجل الارتفاع بمستواهم الشخصي ، ومستوى الوطن ثقافيا ، واجتماعيا ، وأخلاقيا .وكثير من مؤسسات الإعلام المرئي والمكتوب أصبحت أكثر ميْلا إلى تقديم البرامج ، والمعلومات السطحية الهزيلة التي تداعب المشاعر ، والعواطف ، والغرائز ( سوق المجلاّت الأسبوعية عندنا نموذجا ..ومجلات الخليج أيضا نموذجا فضلا عن العشرات من القنوات الفضائية الشبيهة لسوق المجلات عندنا ) ، بدلا من تقديم برامج جادّة عميقة تثير الفكر ، وتعرض بالتحليل المشكلات الحياتية الكبرى ، وتساعد على معرفة ما يدور في العالم من فكر متقدم ..بل إن المؤسسات العلمية والأكاديمية والجامعية كثيرا ما تنحرف عن المُثُل العلمية ، والثقافية العليا التي أُنشئت من أجلها ، وتفضّل على ذلك الاكتفاء بإعْداد الطّلاّب ، والخريجين للحياة المهنية ، وتغفل وظيفتها الأساسية في تكوين الإنسان المثقف ، المفكر الواعي لشؤون الحياة ، والقادر على الإسهام بفكره وعلمه فيما يعود على المجتمع بالخير ، ويدفعه للنموّ والتقدّم .

جامعاتنا تتعدّد فيها المنظّمات الطلابية ، وتتنوّع انتماءاتها ، ولكن بدلا من أن تتوجه إلى الطالب بالتكوين ، والرفع من مستواه المعرفي العام في إطار تخصصه ، وفي إطار الارتفاع به إلى آفاق الثقافة الإنسانية ، ومساعدته على أن يكون الطالب الحريص على تحصيل المعرفة ، وعلى تحضير نفسه لمستقبل يكون فيه مواطنا ذا فعالية في المساهمة في بناء وطنه ؛ فإن هذه المنظمات نجحت وتنجح فقط في المطالبة بما هو مادي ، وإنْ لم يتحقّق لها ذلك دفعت بالطلاب إلى التهديم والتحطيم للبُنى القائمة ..

والشيء نفسه يقال عن الأحزاب السياسية ،(7) بل وعن التنظيمات الدينية التي قد تدعو إلى التعصّب ، وكراهية العقائد الأخرى ، ومحاربة اللغة الأم في بلادها بدعوى أنها متخلّفة ولا تساير عصْر العولمة ، بدلا من أن تحمل هذه الأحزاب رسالة التسامح ، والسلام .. هيّ عيّنات نكتفي بها من المجتمع المدني عندنا !!

ويبدو لي في نهاية هذا الحديث أن المجتمع المدني المفترض وجوده عندنا ما عمل حقّـا وصدقا على ترسيخ مفهومي المواطن ، والمواطنة حيث لا يمكن لأيّ مجتمع أن يحقّق المواطنة التي هي المشاركة بوعْي في الشؤون العامة ، بدون مواطن يشعر بعمق بحقوقه وواجباته في الفضاء الاجتماعي ، والثقافي ، والسياسي ، ولا يبخل بأداء واجباته تُجاه وطنه ، وتُجاه مجتمعه .

هوامش :

(1) ـ أ . جميل هلال . حوْل إشكالية مفهوم المجتمع المدني . دراسة .ص : 03 .

(2) ـ د . برهان غليون . نشأة المجتمع المدني وتطوّره من المفهوم المجرّد إلى المنظومة الاجتماعية والدولة .

(3) ـ أ . علي الدميني . المجتمع المدني ودوْرُه في الحدّ من ظاهرة العنف والإرهاب . مجلّة الحوار المتمدّن .العدد 981 .

(4) ـ موقع منظمة الأمم المتّحدة . المجتمع المدني ( نشْرةٌ خــاصّةٌ) .

(5) ـ الفيلسوف الألماني هيغل . أصول فلسفة القانون . من مقال للأستاذ إبراهيم سعدي بعنوان :( بحْثا عن المجتمع المدني الجزائري ) . الشروق اليومي : الأحد 09 مارس 2003 .

(6) ـ أ . إبراهيم سعدي . مرجع سابق ..جريدة الشروق .

(7) ـ المرجع السابق .

(8) ـ د .أحمد أبو زيد .المجتمع المدني : القوّة العالمية الثالثة ص56.كتاب العربي 61 جويلية 2005 .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى