الجمعة ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

حالات من وحي الانتفاضة 2

لماذا .. يا نحنُ؟

تقرر السفر إلى عمان لكي تشارك في مؤتمر ستعقده الجامعة الأردنية في 16/7/2001. وتتساءل: متى أسافر؟ لقد حجز المشرفون على المؤتمر غرفاً للقادمين ابتداءً من 15/7. ولا تغفل عينيك عما يجري هنا في الأرض المحتلة. ماذا لو أغلق الجسر في قادم الأيام. ماذا لو حدث انفجار ما؟ وتبكر السفر خمسة أيام لتنفق أكثرها، هناك، ضجراً، لأن كيانك كله، حين تسافر وتقيم في غير منزلك، يهتز. أنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأنك ستجد نفسك أمام عالم آخر يجبرك على ممارسة طقوس أخرى. وحين تسافر مبكراً تضع يدك على قلبك. تصحو مبكراً، تصغي إلى نشرة الأخبار ليعلن المذيع أن معابر قطاع غزة قد أغلقت في وجه المسافرين وذلك بسبب انفجار سبب الهلاك للمقدم عليه في عملية انتحارية.

ولم يغلقوا معابر الضفة. في الطريق تصغي إلى السائق يقارن بين اليوم والأمس، يقول: لقد سهلها الله اليوم. أمس سرنا في طرق التفافية. اليوم سنصل إلى أريحا في العاشرة، أمس وصلنا إليها في الثانية ظهراً.

وتبدأ في استراحة أريحا المشكلة. ثمة شرطة فلسطينيون يبدون وكأنهم يحافظون على النظام. تجلس، مثل بقية المواطنين، على المقاعد المخصصة للمغادرين. تنتظر أن يأتي دورك، ولكنك تبصر شرطياً يصيح على مواطن كان قام من مقعده ليجلس امرأة، هكذا روى، ولكن الشرطي يطلب منه أن يعود إلى الصفوف الخلفية. هذا يعني أن عليه أن يتأخر ساعتين على أقل تقدير. تراقب ما يجري. تلوم الشاب لأنه فعل خيراً وتهمس: على المرء، في مثل هذه الظروف، ألا يفعل خيراً. عليه أن يكون قانونياً. وتسبح بحمد الشرطي لأنه حافظ على النظام.

ولكنك تفاجأ حين ينادي هذا الشرطي على عشرة مواطنين طالباً منهم أن يذهبوا إلى الباص الجديد. وتسأل هل يسافر الباص بعشرة ركاب فقط؟ وتنظر حولك لترى أربعين مواطناً يقومون بالسير على طرق التفافية غض الشرطة الفلسطينية النظر عنها، ولا تحمد الذكاء الفلسطيني هذه المرة، فالتحايل لا يكون، هنا، على الاحتلال. هنا يلتف من لهم واسطة، وما أكثرهم! ويتركون من لا واسطة له ينتظر وينتظر.

ولا تحتمل تلك التصرفات التي يقوم بها المواطنون ويغض النظر عنها من يشعرون بأنهم يطبقون النظام. وتسأل نفسك: هل ثمة فرق بين سلوك الشرطي الفلسطيني هنا وسلوك جنود الاحتلال الذين كانوا يسهلون أمر السائقين المتعاونين معهم؟ وتعود بذاكرتك إلى أيام الاحتلال الأولى، إلى بداية السبعينيات. كان للسائقين المتعاونين ميزة أثروا من ورائها.

وتدفعك حميتك، وربما ثقافتك، إلى ألا تكون حماراً. تذهب إلى الشرطي وتخاطبه بأدب جم: يا أخي عليك أن تراعي أننا بشر، وعليك أن تحول دون تسرب هؤلاء. يعدك الشرطي أنه سينتبه إلى هؤلاء الخارجين عن النظام، ولكنه لا يفعل، ولا يختلف الوضع كثيراً، بل إن الشرطة يساعدون بعض المواطنين على التسرب، لأنهم – أي الشرطة – ما زالوا يؤمنون بجماعتي وجماعتي وقريتي ومعارفي. وتعود إلى الشرطي من جديد: يا أخي هذا لا يجوز، نحن أيضاً بشر. يطلب الشرطي منك أن تعود إلى مقعدك، فهو، كما قال، يعرف واجبه. تذهب إلى المسؤول عن الشرطي، فلا تختلف إجابته: إجلس مكانك. وتنسحب بهدوء، لأنك لا تريد أن تعود إلى الضفة، ويكون سبب عودتك الشرطة الفلسطينية لا سلطات الاحتلال.

تصغي إلى أحاديث النّاس يمايزون ويقارنون، ويصبح الاحتلال لمن ليس لديهم واسطة، يصبح، في تلك اللحظة، مثالاً وماضياً يترحم البسطاء على أيامه. ويحزنك هذا، فالاحتلال ما زال يمارس فظائعه، ولا تنسى كلام السائق عن الطرق الالتفافية. يحزنك أن الذي دفع بعض المواطنين لقول هذا هم بعض الشرطة الفلسطينية. وتسأل نفسك" هل أكتب هذا؟

في فندق ( الميرلاند ) في عمان تجلس على كرسيك وراء طاولتك وتكتب وتدفعك قصة " عزيز نيسين " الكاتب التركي، قصته " آه منا نحن الحمير " إلى الكتابة. كان للحمير لغة مثل لغة البشر، وانقرضت هذه لأن حماراً رأى ذئباً يقترب منه، وبدلاً من أن يصرخ ويهرب أخذ يقنع نفسه بأن ما يراه ليس ذئباً حتّى اقترب هذا منه وأمسك برقبته وكان كلام الحمار الأخير النهيق آ آ آ آ، ومن يومها ما عادت الحمير تتكلم.

وأنت الآن تكتب هذا، وتخاطب الشرطي والمسؤول عنه: لماذا ... يا نحن؟ لماذا دفعنا بعض المواطنين إلى الترحم على أيام الاحتلال الذي ما زال يقتلنا؟!!
25/8/2001

كوشان بيت جدي

تدخل إلى البقالة لتشتري الخبز. تلقي التحية على صاحبها الذي كنت علمته في المدرسة قبل خمس وعشين سنة، فيرد عليك ويتابع مع زبائن آخرين كانوا موجودين في البقالة قبل أن تدلف إليها، وفجأة يسألك:

 قل لي يا أستاذ، كيف يمكن أن أخرج شهادة ميلاد لجدي الذي ولد في ترشيحة؟

وتسأله عن السبب، بعد أن تخبره أنك لا تعرف، فيقول: إنهم سيدفعون للاجئين تعويضات، والتعويضات مغرية وسوف تصل إلى خمسين ألف دولار.

وتتذكر سؤال والدك لك قبل شهرين أو ثلاثة عن بطاقة المؤن الخاصة بك. تسأله عن السبب يقول لك: إنهم يدفعون مائة وخمسين شيقلاً لكل لاجئ بسبب الأوضاع السائدة. تعطيه البطاقة عله يحصل على مائة وخمسين شيكلاً وشوال طحين، ثم يخبرك أنهم لم يعطوه إياها لأنك لم تسجل اسمك من قبل، أو لأنك أستاذ جامعي يحصل على راتب جيد.

وتنظر، وأنت تصغي في بيتك في أوراق ملاحظاتك. ثمة ورقة صغيرة كتبت عليها ملاحظة لتكون محور قصة قصيرة. " بيتنا في يافا وكوشان جدي: ولا تكتب القصة على الرغم من مرور عام أو عامين على الملاحظة.

ودائماً تعود بك الذاكرة إلى أيام الشباب والطفولة.

تتذكر بيوت المخيم. تتذكر جدك وجدتك اللذان أقاما في غرفة منفصلة عن غرفة أبيك وعمك الأكبر، وأقام بالقرب منهما – أي من جدك وجدتك – عمك الصغير. ولا تعرف، الآن، السبب الذي جعلاهما يعطيانه كوشان بيتهما في يافا ليحتفظ به. ألأنه كان يقيم بينهما ومعهما قبل أن يتزوج وتصبح له عائلة. ألأنه أوصل لهما الكهرباء من بيته؟ الأنه في لحظة صفاء استطاع الحصول عليه، أم أنه أخذه خلسة واحتفظ به. وتتذكر أن والدك وعمك الأكبر كانا يطلبان من الكوشان صورة ليحتفظا بها. وكان عمك يرفض ذلك لأنه يريد البيت كله له.

ذات مرة زرت يافا مع أبيك، فمر من أمام بيت والده وقال: هذا هو بيتنا. وحين قرأت " عائد إلى حيفا " لغسان كنفاني تذكرت تلك الزيارة. لم يفعل أبوك شيئاً، مثله مثل سعيد.س. ولم يفعل عمك شيئاً أيضاً. ظل الجميع يحتفظ بالكوشان ومفتاح البيت على أمل أن يحرر عبد الناصر فلسطين، وبعد 1967 على أمل أن يحررها الفدائيون. وهدم البيت، هكذا عرفت من مواطن نابلسي كان يقيم قبل عام 1948 في يافا بالقرب من بيت جدك، ولا تدري إن ظل عمك يحتفظ بالكوشان، فلم تعد تسأله، ولم يعد النّاس يسألون عن الكوشان، فهناك بطاقة الإعاشة التي تصدرها وكالة الغوث، وهذه البطاقة قد يكون ثمنها خمسين ألف دولار. هكذا يقولون.

وتقول للبقال النابلسي: أما أنا فلا أريد أي مبلغ. سوف أترك الخمسين ألف دولار ولن أسأل عنها.

وها أنت تنفق من عمرك سبعة وأربعين عاماً. عشت في مخيم اللاجئين وتقاتلت مع السكان حول الماء، وانتقلت إلى حي بعيد عن المخيم، ولكنك تشاهد المخيم صباح مساء: مبان بعضها فوق بعض، بناء مرصوف يبدو عصبي المزاج قبيح المنظر. والناس في المخيم ما زالوا يحلمون: قطعة أرض وحديقة قد تأتي بها بطاقة الإعاشة وأما حلم العودة فشعار على لافتة أو على بطاقة تصدرها مؤسسة تحمل مفردة " سنعود " يقوم عليها بعض من يحلمون بالعودة.

عمان 12/7/2001

هل أنت من مواطني 1948؟

تستقل السيارة من العبدلي، في عمان، إلى فندق عمرة لتنفق ساعة أو ساعتين في ( فيينا كفى ). تنظر إلى العداد الذي توقف أمام الرقم (40) فتلفت نظر السائق، ويسألك هذا: هل أنت من عرب 1948؟ وقبل أن تبدأ حواراً معه تقول له: أمس، وأنا عائد من فندق عمرة، سألني سائق السيارة أيضاً السؤال ذاته. وتسأل السائق: لماذا هذا السؤال؟

يتحدث السائق الذي هو من منطقة جنين، ويقيم في عمان، عن عرب 1948. يقول لك إن هؤلاء يأتون إلى هنا وينزلون في فنادق ضخمة، أسعارها مرتفعة جداً، ويدفعون مقابل مبيتهم الكثير ولا يسألون، ولكنهم حين يستقلون سيارة الأجرة يلتفتون أول ما يلتفتون إلى عداد السيارة، ويفصحون عن رأيهم: أنتم سائقو السيارات تستغلون عرب 1948.

تحتار حقيقة بم تجيب السائق عن سؤاله: هل أنت من مواطني 1948؟

تقول للسائق: أنا من مناطق عام 1948 أصلاً، ولكني أقمت في الضفة الغربية منذ العام 1948. أنا من نابلس الآن. وكنت ترغب في أن تقول: أنا من فلسطين، وتكتفي بهذا.

قبل فترة كانت إحدى الطالبات، من منطقة الجليل، في مكتب رئيس القسم، ولا تدري الآن، بالضبط، ما الحوار الذي جرى بينكم الثلاثة، ولكنك وأنت تصحح ورقتها، في الامتحان النهائي، تقرأ ملاحظة لافتة للنظر:

" سامحك الله يا أستاذ على الرغم من اتهامنا، نحن عرب 1948، بأننا جواسيس لليهود. أرجو أن تقرأ ص84 من كتاب حليم بركات " المجتمع العربي المعاصر ".

لا تدري بالضبط ما الكلام الذي قلته وأنت تتحدث مع الطالبة. هل قلته جاداً أم مازحاً أم بين بين؟ هل قلت هذا الكلام اصلاً؟ هل قلت كلاماً آخر؟ هل جعلتك ظروف الانتفاضة تميز بين فلسطيني في الضفة وآخر في المناطق المحتلة عام 1948 وثالث في لبنان ورابع في الأردن وخامس في سوريا؟ هل قلت لها ما كان يعتمل في ذهنك: أين هي وحدة الشعب الفلسطيني؟ لماذا لا يواصل فلسطينيو المناطق المحتلة عام 1948 تحديهم للإسرائيليين ولماذا لم يشاركوا في الانتفاضة وينتفضون كما ينتفض سكان الضفة الغربية والقطاع؟ لماذا أصبحنا، نحن الفلسطينيون، أيدي سبأ ولا رابط بينها؟

هل أنت من مواطني عام 1948؟

سؤال لافت للنظر سمعته مرتين في يومين، وأحتار في الإجابة عنه. أنا في الأصل من يافا، وأقيم منذ عام 1948، مع أهلي، في مخيم لاجئين قرب نابلس، ومنذ عام 1978، أقيم في نابلس نفسها. فهل أنا من مواطني مناطق 1948 أم أنا من نابلس؟

في نصي " خربشات ضمير المخاطب " كتبت: طلبنا دولة فأعطونا عشرة، وكان ذلك في العام 1997، ومنذ 28/9/2000 حصلنا على مائة دولة. كل مدينة غدت دولة، وكل قرية مستقلة عن بقية المدن والقرى المحيطة، وأصبح التنقل في الضفة أمراً صعباً، وأما غزة فيبدو الوصول إليها، لقسم من أهل فلسطين، معجزة.

في عام 2000 عقدت الجامعة الإسلامية في غزة مؤتمر اللغة العربية، وقررت أن أشارك فيه، ولما أردت أن أسافر ذهبت وزملائي للحصول على تصريح. سافر زملائي ولم أسافر، وبعد أسابيع سافرت إلى الأردن فلم يمنعوني، وحين سألت: لماذا يسمحون لي أن أسافر إلى الأردن ولم يسمحوا لي بالسفر إلى غزة، كان الجواب: لأنك، حين تسافر إلى غزة، تمر بأرض دولة ( إسرائيل )(؟). هل أنت من مواطني 1948؟ يسألك السائق وتسأل السؤال نفسه لذاتك: هل أنا من يافا؟

عمان 12/7/2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى