الأحد ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم سهير فضل عيد

الفقير المعدم والكاتب المغمور

حول تلك الطاولة الواقعة عند الزاوية الزجاجية للمقهى تعود ذلك الكاتب أن يجلس غارقاً بين طيات الكتب أو مسافراً مابين القلم والورق .

كان يأتي يومياً صيفاً وشتاءً حتى بات شكله مألوفاً، وكل الواردين على المقهى يعرفونه دون أن يعرفوا اسمه وصار من غير المألوف عدم وجوده لدرجة أن زوار المقهى كانوا يسألون عنه إذا غاب ويناقشون سبب غيابه فيما بينهم وعندما يفشلون في إيجاد سبب يسألون النادل فتكون إجابته لا أعلم .

نعم حفظوه بملابسه ، خاصة أنه لم يكن لديه سوى بزّة صيفية وأخرى شتوية ومعطف شتوي طويل تعود ارتداءه فوق بزته الشتوية .
كان الكاتب يأتي فيجد المقهى مليئاً بالناس ويجد طاولته بانتظاره وكأنها حُجزت له دون أن يحجزها ، لم يجرؤ أحد على الجلوس حول تلك الطاولة ليس خوفاً وإنما كانوا يعتقدون أنه من العجب أن يجلس أحد مكانه .

ورغم بساطته إلا أنهم كانوا يرونه إنساناً غريباً ، لذا لم يسأله أحد عن اسمه فكانوا يسمونه فيما بينهم بالرجل الغريب تارةً وتارةً بعاشق (النسكافة) فقد كان يطلب فنجان النسكافة كلما أتى للمقهى ، حتى أن النادل كان يجهل اسمه وكان يناديه سيدي عاشق النسكافة حتى أنه صار يحضر إليه طلبه دون أن يطلب .
فغياب الكاتب عن المقهى يعني أن يأتي الصيف دون شمس أو أن يأتي الشتاء دون مطر.

كان الكاتب يأتي بصمت في كل مساء ويجلس أربع أو خمس ساعات ثم يغادر بصمت لا يفعل شيئاً سوى القراءة والكتابة,لم يلفت نظره شيء في ذلك المكان حتى إن وقع شيء بالخطأ أو انكسر كأس أو فنجان أو ربما حادث على الطريق العام ، لاشيء يثير انتباهه وكأنه يسكن قعر المحيط , لا يسمع ولا يعرف ما يجري على السطح.

ذلك الكاتب كان يعمل موظفاً في دائرة حكومية تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية بمهنة مهندس صيانة ، مسئولاً عن صيانة أجهزة الدائرة وصيانة سيارات كبار الموظفين ويتقاضى راتباً يغنيه عن مسألة الناس.

كان يسكن في غرفة من الطين تقع في حي شعبي فقير متقارب المباني أو بالأحرى متقارب العشش ، لا أعلم كيف يوجد هكذا حي في وطن تملؤه القصور الرفيعة المستوى ، أطفال بعمر الزهور تسكن حيا تفيض فيه مياه الصرف الصحي كالأنهار الجارية ويعج بالمآكل الفاسدة ، في الواقع إنها بقايا القصور إلى فقراء ذلك الحي .

لا أعلم كيف يعيشون ، كيف يكبرون ، لكنهم كانوا على قيد الحياة يبدو أنها قدرة الإنسان على التكيف مع ظروف الحياة الصعبة.
وبهذا الحي كان يسكن كاتبنا ،يومه يكاد منظوماً كبيت من الشعر لا تتغير قافيته ووزنه.

يصحو في السادسة صباحاً , يبدأ فطوره بشرب الحليب مع شطيرة من الجبنة أو حسبما يتوفر لديه من طعام ثم يغسل أسنانه ويتوجه للعمل وفي الثانية والنصف ظهراً يغادر عمله راجعاً لغرفته وفي الطريق يتوقف لتناول غداءه , بعد ذلك يكمل طريقه لمسكنه لينام قليلاً ثم يخرج ليتابع يومه بشراء كتاب أو صحيفة حسب أحواله المادية ثم يتوجه للمقهى مع قلمه وأوراقه ليكتب حكايا وقصصاً ينسجها من الواقع الذي يحيا فيه وينهي حكاياه بنهاية من نسج الخيال.

هذا الرجل كان يعشق الكتابة وكأنها حبيبته , كان يحرم معدته الطعام لكن لا يحرم عقله الثقافة , راتبه موزع بين أجرة المسكن ومابين الطعام والثقافة ولأنه كان يحلم بالكثير وكان يروي لأصحابه ولمن حوله عن أحلامه وأمنياته بأن يكون كجبران خليل جبران .
بدأ من حوله يسخرون منه ومن أحلامه فابتعد عن الناس وانكب على القراءة كالجائع النهم وبدأ يكتب رواياته فقد كانت الأفكار تنهال عليه بغزارة المطر فتروي عقله وروحه كما يروي المطر الأرض المحرومة من الماء منذ آلاف السنين .

لم يعلم كاتبنا أن الزمن سيطيل عليه حلمه فقد ظل سنوات يرتاد المقهى يقرأ ويكتب إلى أن أمرته روحه باتخاذ أجرأ خطوة وهي نشر كتاباته لم يعلم السبب الذي يجعله يكتب ويفكر بالشهرة كل ما يعرفه هو أنه هناك شيء داخلي يدفعه ويجبره على الكتابة ،شيء يجعله يحطم خوفه من الفشل وينسيه تردده وانعدام ثقته بنفسه ، شيء يجعله يغلق عينيه وأذنيه عن سخرية الناس واستهزاء زملائه , ذلك الشيء المجهول كان كجنون البحر حين يحطم باخرة ويغرفها.
راح يطرق أبواب دور النشر المشهورة والمغمورة ولكن كاتبنا كان سريع اليأس ومليئاً بالتناقض ,ظل يقرأ و يكتب سنوات ولم يحتمل أكثر من أيام بين عتبات دور النشر, فما كان منه إلا أن حمل سطوره وأوراقه ورمى بها إلى داخل حاوية القمامة وهم بالرحيل لكن بعد عدة خطوات مشاها , خرج من تلك الحاوية فقير معدم كان يبحث عن بقايا أطعمة الأغنياء ليذهب بها إلى أبنائه .

حمل الفقير الأوراق ولحق بالكاتب وناداه ( يا هذا – أنت- يا صاحب الأوراق- أيها المثقف- أيها الغني)

كان الكاتب يسمع كل تلك الألقاب فلم يعره اهتماماً إلا عندما ناداه – أيها الغني – التفت نحوه وصرخ قائلاً : أنا لست غنياً فأنا أعيش في حيٍ فقير ولا آكل إلا القليل وليس لدي ما ألبس إلا ما علي.

الفقير: إن كنت تسكن في حيٍ فقير فأنا افترش الهواء وإن كنت لا تأكل إلا القليل فأنا لا أجد القليل ولا أجد ما ألبس ، فثيابي وثياب أطفالي تحيكها زوجتي من بقايا قطع القماش التي تجدها هنا وهناك.

الكاتب : ماذا كنت تفعل داخل الحاوية؟

الفقير: أبحث عن طعام.

دمعت عينا الكاتب ثم قال كنت أظن أنني فقير.

الفقير: دعك من الدمعات فقد تعودنا عليها فكلانا فقير ولو اختلفت أشكالنا . خذ أوراقك بالمناسبة اعتقد أنك كاتب ويبدو أنك تعرضت لصدمة ولذلك رميت بها.

الكاتب : وما أدراك؟

الفقير :إنني أمر دائماً بجانب المقهى وأراك دائماً تكتب , لذلك تخيلتك كاتباً.

الكاتب : هذه حكاياتي وضعت فيها كل طاقاتي ولكن اليوم ليس زمن الكتب والكتابة بل إنه زمن الإعلام المرئي والمسموع وإن كان لابد من وجود شيء مقروء فلا بد أن يكون المكتوب يقصد مواضيع حساسة أو ليس لها أهمية؛ (مسابقات – فوازير- ابتسامات) وإن كان هناك من يقرأ فلا بد أن يقرأ للمشهورين حتى إن كانت رواياتهم ليست على المستوى اللائق.

الفقير: ماذا كان رأي من عرضت عليهم كتاباتك ؟

الكاتب : لا يوجد أحد اعترض أو سخر بل معظمهم أشاد بما أكتب لكن حجتهم أنها مغامرة أن ينشروا لأحد مغمور فإذا كان المشهورون لا يجدون من يقرأ لهم فكيف بالمغمورين؟

الفقير : خذ أوراقك ولا تيأس فلو كان لأحد أن ييأس لكنت أولى منك باليأس فما دام يوجد شيء لديك فلابد أن تصل حتى لو بعد زمن ولابد أن يأتي يوم يكون يومك.

أخذ الكاتب أوراقه وعاد الفقير يدور من حاوية لأخرى باحثاً عن طعام.

عاد الكاتب لحياته المعتادة إلى أن جاء يوم وقرأ إعلاناً في صحيفة عن مسابقة للكتابة ، وبدأ تجربةٍ أخرى مع المسابقات , سنة كاملة يحرم نفسه من الطعام ليوفر المال كي يرسل طرداً يحوي كتاباته، مسابقات محلية ودولية وفي كل مرة يصاب بخيبة أمل , لم ينل سوى نحول جسده وضعف بصره وكل مرة يقول لنفسه هذه آخر مرة ويرجع ويضعف أمام إعلان آخر.

وذات مساء وهو جالس في مكانه المعتاد في المقهى يدخل الفقير المعدم ليتسول فيرى الكاتب ويتوجه نحوه , يقف الفقير أمامه لكن كاتبنا لا يلفت نظره شيء ، يبقى الفقير صامتاً لعدة دقائق دون فائدة.
الكاتب غارق في ملكوته , ثم ينوي الفقير الخروج عن صمته فيطرق بيده على الطاولة قائلاً :أيها الكاتب , يلتفت إليه الكاتب وهو لا يكاد يذكره فيعمل الفقير على تذكيره ، بعدها يطلب الكاتب منه الجلوس .

الكاتب: ماذا تشرب ؟

الفقير : إن كنت مصراً فأرجو أن تعطيني ثمن ما ستحضر ولن أشرب شيئاً.

ثم يستطرد قائلاً عشت طوال عمري وأنا بحاجة للمال ومرت بي مصاعب ومصائب الواحدة تلو الأخرى ومع ذلك لم أفكر يوماً بتسول المال ,كنت أجوب القرى والمدن باحثاً عن عمل .

عملت في الزراعة زمناً , سائقاً , عاملاً ...وهكذا وعندما لا أجد المال لم أخجل أن أبحث عن طعامي بين النفايات, لم يعتريني الاشمئزا زمن أن آكل ذلك الطعام فالحياة لابد وأن تستمر, لكن اليوم كان أول يوم أفكر فيه بالتسول ، فابنتي مريضة جداً ومصابة بحمى شديدة أمضيت ساعات وأنا أبحث عن طبيب يكشف عليها بالمجان وبعد أن وجدت الطبيب ظهرت مشكلة الدواء .

من أين سأشتريه , قلبت ملابسي مئة مرة فلم أجد المال رغم أنني أعلم قبل أن أبدأ بتفتيش ملابسي للمرة الأولى أنني لا أملك المال ولهذا أنا هنا , قلت في نفسي إن هذا المقهى لا يرتاده إلا أصحاب المال فإذا بي أراك هنا وحالك يعد من الفقراء.

الكاتب :يا صاحبي يبدو أن الفقر شيء نسبي فمن هو فقير في نظري غني في نظرك والفقر درجات ولا أعلم فقري من أي درجة أما فقرك فمن درجة المعدمين .

على الأقل أتقاضى راتباً في نهاية الشهر رغم أنه لا يمنحني المأكل
الطيب والملبس الأنيق والسكن المعتدل إلا أنه يكفيني لأبقى على قيد الحياة .

أخرج الكاتب محفظته وعد نقوده فلم يجد سوى مبلغ صغير يكفيه حتى نهاية الشهر ومبلغ آخر لإرسال طرده البريدي فتناول المبلغ المخصص لذلك الطرد وأعطاه للفقير .

تناول الفقير المبلغ دون تردد وقال: أشكرك يا سيدي اسمح لي بالمغادرة لشراء الدواء.

الكاتب : ألا تشرب شيئاً؟

الفقير : ابنتي بانتظاري ,أتعتقد أن قلبي سيحب البقاء أ و أنني سأتلذذ بطعم أي شيء بعد أن حصلت على ثمن الدواء.

الكاتب : هل تسمح لي أن أذهب معك؟

الفقير : لا مانع .

غادرا معاً إلى صيدلية الحي واشتريا الدواء ثم توجها معاً إلى منزل الفقير ، هناك عند المنزل دخل الفقير إلى زوجته لتعطي الدواء إلى الطفلة (ليلى) التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات .

أثناء ذلك كان الكاتب ينتظر خارجاً متأملاً المكان الذي هو عبارة عن مرتفع تكسوه الأشجار العالية من الياسمين وبين أغصان هذه الأشجار مد الفقير جدران بيته المبني من القش كانت الأشجار أحن على الفقير وأبنائه من الناس كانت الأغصان تعانق الكوخ بشدة وكأنها أم تحتضن رضيعها خوفاً عليه من الضياع .

ظل الكاتب ينتظر نصف ساعة إلى أن خرج إليه الفقير معتذراً :
آسف لتأخيري لقد اضطررت أن أبقى مع ابنتي حتى انخفضت حرارتها .

الكاتب : أتعلم أن المكان الذي تسكنه جميل جداً , أشعر وكأنني أجلس وسط غابة من الأشجار ، أشعر بأن الطبيعة لازالت على قيد الحياة ، هل تسمح لي بالبقاء حتى الصباح فالجو هنا يريح الأعصاب .

الفقير : على الرحب والسعة ولاسيما أنني سأبقى ساهراً لأطمئن على ابنتي .

(يحضر الفقير كرسيين صغيرين من الخشب ويجلسان تحت الشجر ونور القمر مع كوبين من الشاي ويبدأ التعارف الحقيقي ويحكي كل منهما قصته للآخر) .

يبدأ الفقير بسرد حكايته مع الحياة وكيف أنها قست عليه وأنه على الرُّغم من كل شيء على الرغم من البؤس والجوع لم يزر فؤاده اليأس.
ثم يروي الكاتب حكايته مع الحياة وأكثر ما يتحدث عنه هو مشواره مع الكتابة وحلمه بأن يصبح كاتباً مشهوراً وكيف أن اليأس ضاجعه مراراً رغم علمه وثقافته .

الكاتب : ما هي أعمار أولادك ؟

الفقير : وليد خمس سنوات، ليلى ثلاث سنوات، وردة سنة.

ويمضي الوقت وهما يتبادلان الحديث كل عن نفسه إلى أن يأتي الصباح ويغادر الكاتب لعمله بعد أن يزرع الأمل في نفس الفقير بأنه سيعود.

بعد أسبوع يعود الكاتب فيرى الفقير وعائلته مفترشين العشب بين الأشجار يتناولون الطعام الذي هو عبارة عن خبز ناشف وثلاث حبات طماطم.

الكاتب للفقير : الغداء اليوم على حسابي حيث أحمل إليك خبراً ساراً .

يضع الكاتب الطعام أمام الأطفال الذين يبدأون بالتهام الطعام بطريقة تدعو للسخرية أو للشفقة حسب نظرة كل إنسان وإحساسه بهذا المشهد.

إنهم معذورون فلقد مرت سنوات لم يأكلوا فيها اللحم .دمعت عينا الفقير حين شاهد أبناءه يأكلون بهذه الطريقة .

شعر الكاتب بما في داخل الفقير فحاول أن ينسيه قائلاً تعال ولنمش ِ بين الأشجار فلدي خبر سار أزفه إليك , غداً صباحاً ستبدأ بالعمل بمهنة ساعٍ في الدائرة التي أعمل بها . الراتب ليس كبيراً لكن شيئاً أفضل من لاشيء.

فرح الفقير كثيراً وضم الكاتب وكان على وشك أن يقبل يديه لولا أنه منعه.

ومنذ هذا اليوم بدأت العلاقة بين الكاتب والفقير تزداد قوة وتغير نظام الكاتب فبدلاً من أن يذهب للمقهى صار يأتي لزيارة الفقير وعائلته يجلسان على الكرسيين الخشبيين الصغيرين تحت أكبر شجرة ياسمين موجودة.

هذه الجلسة صارت فيما بعد عادة ً لا بد منها . يجلس كلاهما ليدلي كل منهما بدلوه للآخر وكلما زار الكاتب وحي الكتابة يجلس وحيدا ً بين الأشجار يتابع حلمه ويدخل الفقير لعائلته .

وتمضي الأيام ويقرر الكاتب ترك الحي الذي يسكنه ليبني غرفتين من الطين بين الأشجار ليسكن هو في واحدة ويعطي الأخرى للفقير , تطورت العلاقة بين الكاتب والفقير حتى أصبحا أكثر من أخوين وصارا يتقاسمان المال والطعام واللبس وأفراح وأحزان الحياة .

وتتحسن الحياة نوعاً ما ويكبر الأولاد ويدخلون المدارس وتمر السنون وينسى الكاتب حلمه إلى أن يذكره به الفقير في جلستهما المعهودة :
أين وصلت في تحقيق حلمك؟

الكاتب : منذ أن أقمت بينكم فوضت أمري لخالق السماء وقاومت حلمي مراراً والآن شارفت على الأربعين وما عاد عندي قوة وإصرار الشباب .

الفقير : أنت مخطىء فمن لديه هدف لابد أن يسعى لتحقيقه حتى آخر يوم من عمره.

ولأن كاتبنا مليء بالتناقضات تثور مشاعره مرة أخرى ويتحرك البركان ويعود للكتابة من جديد , مشكلة كاتبنا أنه غير مستقر على خط واحد بل يمر بفترات هدوء وفترات نشاط حسب ظروفه النفسية .
وعاد المسلسل المعهود ، يكتب وكل ما انتهى من رواية يقرأها أمام الفقير آخذاً رأيه وبين الحين والآخر يزور دور النشر عله يحقق حلمه المكبوت وبالفعل توافق دار للنشر على نشر مؤلفاته ولكن بعدد محدود كتجربة .

على الرغم أنه ليس هذا ما كان ينشده إلا أن هذه الخطوة ملأته بالفرح والسعادة ، بكى وأول من بلغه كان صديقه الفقير وصرف الكاتب المبلغ الذي كسبه من نشر أولى مؤلفاته على عائلة الفقير.
نعم صار الكاتب كل سنة يطبع وينشر رواية لكنه كان يحلم بأكثر من ذلك, فما كان يجري لم يكن يرضي غروره .

وتمر السنون ويكبر الأولاد ويصبح وليد إعلامياً وليلى تتخرج في قسم اللغة العربية ووردة في كلية الاقتصاد.

وكأنه كان يعد أولاد الفقير حتى يكبروا ويساعدوه لتحقيق حلمه ، ويكبر الكاتب ويشيب شعره ويضعف جسده لكن عقله كما هو ويزداد طمعاً في الحياة خاصة بعد أن صارت ليلى تأخذ رواياته لعرضها على أساتذتها في الجامعة.

كانت ليلى تحرص على حضور الأمسيات الثقافية حتى بات وجهها مألوفاً لدى معظم الكتاب والأدباء ، فتجرأت ليلى ذات مرة وعرضت إحدى روايات عمها الكاتب على أديب معروف جداً في ذلك الزمان ووعدها الأديب بأنه سيقرأ الرواية ويرد عليها .

بعد حوالي الشهر تفاجأت ليلى بأن الأديب يريد مقابلة صاحب الرواية أخذته ليلى إلى عمها الكاتب .

هناك عند غرفة الطين جلس الأديب وكاتبنا يتبادلان الحديث .

الأديب (بعدما سمع قصته بالكامل) :من كثرة إعجابي بروايتك تمنيت لو أنها لي ولا أكذب عليك لقد سولت لي نفسي أن أنسبها لي وأطبعها باسمي فأنا المشهور وأنت المغمور لكن ضميري أنبني وقررت أن أنشرها على حسابي حيث إنني أمتلك دار نشر كبيرة وتم الإنفاق على كل شيء وخرجت الرواية للناس . وعلى رغم أن هذه الرواية الخامسة التي تتم طباعتها لكاتبنا المغمور إلا أن أسلوب الطباعة والدعاية التي عُملت لها والاهتمام الذي لاقته هذه الرواية جعل الكاتب المغمور يشعر وكأنه لأول مرة ينشر فيها ، امتزجت مشاعر الحزن والفرح وابتسم ودمعت عيناه ولاحت له ذكريات الماضي.

ولأن الاهتمام كان كبيراً والدعاية أكبر تفوز رواياته بأشهر جائزة في تلك البلد ، وفي ليلة وضحاها يتحول المغمور إلى لامع مشهور, كل العيون تتجه إليه والأضواء والمقابلات والإذاعات . لكن لم يعطه القدر فرصة كافية للفرح فما هي إلا أيام وتدهورت حالته الصحية وحمل القلم هذه المرة لكتابة آخر سطور من حياته على هيئة وصية ما قبل الموت , تضمنت الوصية توكيلاً عاماً للفقير بالتصرف بكل رواياته ، والوصية الأخرى أن يدفن في ذلك المكان تحت شجرة الياسمين التي تعود هو والفقير الجلوس تحتها على الكرسيين الصغيرين ، وآخر وصاياه أن يتم توقيع أي عقد في نفس المكان .

ويفارق الكاتب الحياة وتتوالى الأيام ويتوالى نشر الروايات ويكثر المال ويتحول الفقير إلى غني ويفتح دار نشر لطبع ونشر جميع مؤلفات الكاتب المرحوم وتترجم وتوزع إلى خارج البلاد وتنال العديد من الجوائز ويتسابق عليها مخرجو السينما ويمسي كاتبنا المرحوم كاتباً ذا موهبة ليس لها مثيل ولكن أين هو هل يشعر بذلك وهو تحت التراب ؟؟!

من كتاب العزف على الوتر الحساس


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى