الاثنين ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣

البربيش

سلامة سليم عودة ـ كفر ثلث /قلقيلية ـ فلسطين

الأرض تئن تحت وطأة مكعبين من الأسمنت، كحجري موقد. يتلظى أمامها وخلفها حشد غفير من الموظفين والمتسوقين الذين يحملون أكياس البضاعة، هرج يسود وضوضاء تستعر. وعلى بعد ما يربو على حوالي مائتي متر يقبع جندي الاحتلال الحاقد، بزي عسكري احتلالي خلف مكعب من الأسمنت ،ومسدداً بندقيته الغادرة صوبهم، وأمامه رزمة أوراق يسجل فيها أسماء وأرقام الهويات وهذا بدوره يبطيء الحركة ويعرقلها، وبين الفينة والأخرى تراه يرمقنا بنظرات يتطاير منها الشرر، وقد خاطبنا بنبرة عربية مشوبة برطانة العبرية ، وأنت(ارجأ اخورة) يرتد الصف قليلا ثم يتوقف، غير أنه ما يلبث أن يستشيط غضباً ويرفض خروجنا إلا إذا انتظم سربنا، وعاد خلف المكعبين.وأنى لنا العودة خلف المكعبين. فيلج في عناده، ثم يلوذ بالخيمة تاركنا نتقلى على جمر الانتظار اللآهب.

نتساجل الحديث ونقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، إرتدوا إلى خلف المكعبين نريد العودة إلى بيوتنا قبل الآذان ذلك بأننا صائمون، والشمس تقذف بحممها على رؤوسنا، نتقي حرها بما نحمله من كتب وبضاعة. خرج من خيمته عندما شاهد خصاصاتها إننا التزما المكعبين مكرهين، وقد حمل بيده قنبلة غاز مسيل للدموع، وقد إعتدنا على رؤيتها وقد انفجرت بيننا مرارا وتكرارا، بيد أن الشيء الأسود الذي يحمله في يده الأخرى لم نره من قبل ولم ندر كنهه، استعرضنا بعينيه الحاقدتين ولوح بقنبلة الغاز التي في يده وقال : أن لم تصطفوا (سيرجيل) مسطرة فإنني سأغلق الحاجز.

طوّحت بفكري بعيداً ويل له، لم يريد إغلاق الحاجز أين نذهب؟ لابد من التماس طرق ترابية التفافية، كي نتمكن من العودة، غير أننا لا نأمن غدرهم في جنبات تلك الطرق، ووراء شجر برتقالنا الحزين، فقد كنا نتفيأ ظلاله الوارفة ونأكل من ثمره الناضر اليانع اللذيذ، أما الآن فقد باتت ظلاله مأوى لهؤلاء الرعاديد، الذين نهبوا الديار بالخداع والمخاتلة، أننا لعمري، أضحينا بين فكي رحى، هذا يمعن بنا قهرا وإذلالاً، وذاك يسدد علينا ولا يتورع. ومع ذلك صخرة التحدي تزداد مضاء ولن يثني عزمها أحد مهما استل من سهام الإجحاف والغدر، فالصمود فولاذ والإرادة حية في نفوسنا.

لم ينصع أحد لما كان يريده، والصف ينامى، وقد اشتمل على النساء والأطفال والشيوخ ناهيك بالتزايد المستمر لإعداد الموظفين ممن أنهوا أعمالهم وعادوا، وكل واحد في دماغه قصة حب وردية يريد أن ينهيها لأبنائه المنتظرين والمتمنين له سلامة العودة، وربما احتقب لهم شيئا لذيذاً، لكنه اصطدم بعدو لئيم مزق له ذلك الثوب المزركش من الأحلام الواعدة بالخير والعطاء، وألبسه ثوباً من الحقد والكره.

الشيء الأسود بدت ملامحه، وهو يستعرضنا قائلا: أريد هويات الشيوخ والنساء والأطفال وطفق يفحصها، وما لبث أن عاد إلى خيمته بعد أن سمح لهم بالخروج، فيما بقي سربنا يعج بالشباب، وأخذ الصف بالتقلص التدريجي مما أدخل المسرة المشوبة بالحذر من إغلاق الحاجز.

بدأ التساؤل ينتاب جمعنا، ماذا يريد من هذا الشيء الأسود إنه أنبوب بلاستيكي(بربيش)؟ أيريد أن يشير به إلى من يقف عنده الدور، أو ربما يريد أن يضرب من يخرج من الصف ويحدث فيه اعوجاجاً، موظف من التربية فاكهنا قائلاً: إن الضرب ممنوع، عاجله آخر قائلاً: لن أدعه يضربني أو ينتهك كرامتي، إلا أن أحد الحضور قال: حسبنا الله، إننا صائمون، ونتضرع إلى الله أن ينجينا من مكرهم ثقوا بالله تعالى، لن يمسكم مكروه.

اقتربت ساعة المغيب، والشمس في الأصيل على وشك أن تودع وجه الأرض. جاء من بعيد وطرح الأنبوب على الأرض وألصقه إلى الحجرين وقال : سأسمح لكم بالعودة لكنني إذا رأيت أحدكم الآن يتخطى هذا الأنبوب دققت عنقه ببندقيتي هذه وأشهرها في وجوهنا، ارتد بعدها قائلا إلى مكانه وبدأ ينادي : أريدكم اثنين اثنين.

نفذ الاصطبار، وبدأ الصف في التناقص التدريجي إلى أن أتى على نهايته، وعدنا إلى بيوتنا والنفس قد تبخرت منها شهوة الطعام، على الرغم من الصيام ومكابدة الإرهاق والظمأ.

سلامة سليم عودة ـ كفر ثلث /قلقيلية ـ فلسطين

هذه القصة منقولة عن كتاب مركز ابداع المعلم في رام الله ـ فلسطين وقد قام الاستاذ حذيفة سعيد جلامنة بتنسيقه وتحريره وتدقيقه .
موقع المركز هو
www.teachercc.org


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى