الأربعاء ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد التفراوتي

سلطان الطلبة

تمسك بولدها والدموع تنهمر من عينيها ، حاول زوجها أن يهدئ من روعها.

 لقد بدا على ابننا نبوغ باهر وأتم حفظ القرآن الكريم ولابد أن ينهل من علوم ومعارف أخرى بجامعة القرويين

 إنه كفيف لا يقوى على التحمل..

بعد عناء توقفت عن البكاء الشديد وجذبت الطفل من طوقه بعنف ممزوج بعطف مميز وأخذت تقبله، وهي تجفف دموعها مودعة ، ومقلتيها مشدودة إلى السماء متوسلة باللطيف كي يحفظ حبيبها..

إنها أول ليلة سيفارقها مولاي عبد الملك الضرير بعدما كان لا يمكن أن يخلد إلى النوم إلا في حضنها الدافئ ..

 أرجوك خذ حذرك فاللصوص وقطاع الطرق متربصون بالقوافل واجعل مولاي عبد الملك أمامك دائما ،لا تغفل عنه ...

 لا عليك فالقافلة يرافقها "الزطاط " *

 هيا أسرع فالقافلة ستنطلق...

اخترقت القافلة الفيافي والقفار بينما الاب ينتابه شعور ينجذب نحوالعاصمة العلمية بتوق صار جارفاً ، فأصبح ينتظر لحظة اللقاء بمدينة الحلم والأمل..
و
لكن تتماوج في مخيلته شكوك وظنون يخالجه هاجس أخر أربك اطمئنانه ، وجعله غير واثقٍ من تحقيق المنى بفعل أوهام هلوساته التي استفحلت أمام طول المسير، حيث بات يسمع أصواتاً تخاطب دواخله بالعدول عن فراق فلذة الكبد

 أتدري يا أبت أن جامع القرويين تم تشييده من طرف السيدة فاطمة الفهرية

 نعم ، نعم.. لقد وهبت كل ما ورثته من أموال في بناء المسجد

ثم عاد للشرود مجددا ..

في اول الظهيرة وصلت القافلة وانطلق جل أفرادها للتبضع ..واستعراض التمور البهية للبيع باسواق المدينة ..
بينما مكث الاب يبحث عن الأحباب والأقارب ..

لكنه استنفد جهده باحثا عمن يستضيف الطفل النابغة لولوج جامعة القرويين

القافلة على أهبة الرجوع بعدما استكمل الجميع أغراضه...

لم يبد على وجه الطفل أي انفعال يذكر أمام حرج وارتباك الأب اذ توهج النور و تسلل إلى شغاف قلب الضرير مغتالا فيه الوجل من المصير والمآل

 اتركني يا أبي عند الله ، نعم اتركني في ضيافة رب العزة..لا تتردد ، فساكون في ضيافة رب جواد كريم

 اندهش الأب ليقين الطفل الضرير ..

 كيف ؟

 اتركني أمام المسجد و"لها مدبر حكيم "

بينما عيون رفقاء الأب تدور في محاجرها منبعثا منـها بريق منكسر حائر.

تظاهر الأب بالجلد ، لكنه يبدو محطم الأعصاب وبداخله روع مبهم وقلبه معلق بين الرجاء والأمل..

لم يجد بدا من تركه أمام مسجد القرويين بمدينة فاس يتلو بصوته السجي وبالقراءة الفيلالية* آيات بينات من الذكر الحكيم

وقفل راجعا مع القافلة إلى مقامه بضواحي بلدة "الراشيدية "مداريا حرجه وانكسار جلده الصحراوي أمام هول الموقف حيث تنطلق من عينيه، وهو يتوارى بعيدا ،نظرات يزيدها العذاب حدة وتوهجا..

أخد المارة يتلكؤون في المشي مشنفين أسماعهم بعذوبة ورقة الصوت الطفولي..

وإذا بشخص ضخم الجثة تبدو عليه آثار النعم ، مكتنز الوجه، شديد بياض البشرة على رأسه عمامة أنيقة صفراء ، يرتدي جلبابا يميل الى لون "عنق الحمام "من فوقه سلهام * من الصوف الجيد ، يخترق الأجساد المتزاحمة و المارة المتجمهرة أمام المسجد محاولا استكشاف مبعث الصوت..

انحنى الثري جالسا القرفصاء إلى الطفل في وداعة وسمت

 تبارك الله عليك يا بني

 جزاك الله خيرا

 هل يمكن أن تشاركني وجبة الغداء ؟

مستدركا

 ابن من أنت؟

روى مولاي عبد الملك الضرير روايته إلى الثري العطوف وجمهور غفير يلتف حولهما.

نهض الثري ونفض سلهامه المدلى على الأرض.. ّ

همس في أذن الطفل الكفيف

 إذن هيا نذهب ، هرول الخادم ليحمل متاع الطفل وقاده إلى مقامه موفرا له خادما وغرفة مجهزة بمستلزمات الدراسة وأواني الوضوء وسجادة للصلاة وقنديلا ...

كما كلف خادما خاصا لرعايته و لاصطحابه يوميا إلى جامع القرويين، لتحصيل العلوم الشرعية والمتون و مختلف فنون الأدب والتاريخ..

شب الطفل في كنف الثري وترعرع بالعاصمة العلمية وتفجرت مواهبه وتفتقت عبقريته وبدا حديث المجالس إلى أن حصل على الشهادة العالمية..

اختير مولاي عبد الملك الضرير سلطان الطلبة لهذه السنة

نظم الطلبة ، بالمناسبة ، وكما جرت العادة حلقات ثقافية ألقيت فيها خطب و قصائد شعرية و غيرها من فنون الأدب والعلوم..
انتهى الحفل يوم الجمعة الموالية بخطبة عصماء لسلطان الطلبة مولاي عبد الملك الضرير أدهشت جموع الحاضرين ..
وسمع أثناء حفل " سلطان الطلبة" العلامة الضرير فوق صهوة حصانه والخدم يرفعون شمسية السلطان مضللين هامته أمام الزغاريد والهتافات المبجلة والمهنئة ل"سلطان الطلبة " وهو في ذروة العز والرفعة يسري عليه ما يقدم لسلطان البلاد من وجوب التقدير وفروض الاحترام ، وهو يردد :

يا أبي، يا أبي ، يا أبي أنظر إلى ذلك الذي تركتني عنده ما هو فاعل بي ..

 [1]

صالة العرض


[1- سلطان الطلبة : هو الطالب الذي يحوز الشهادة العالمية بجامعة القرويين فتجرى له مراسيم احتفال
يخدم فيها كسلطان وذلك تكريما للعلم وللعلماء
 "الزطاط " : حارس شديد البأس يهابه اللصوص ، يرافق القافلة بأجر متفق عليه.
 الفلالية : صيغة تنتسب الى منطقة فيلالة بضواحي إقليم الراشيدية الجنوب المغربي
- سلهام :عباءة


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى