الاثنين ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم سهير فضل عيد

نعم – لسنا شقيقين

(1)

عصام وعادل أخوان وليس شقيقين، لكن المشكلة لم تبدأ من هنا بل بدأت من المرأة..... من أم عصام وأم عادل.
المرأة مخلوق عجيب وضع الله فيه أكثر من نصف أسرار الحياة، تأثيرها كالقنبلة الذرية يستمر مئات السنين، سبحانك يا من وضعت لكل من الذكر والأنثى صفاته الخاصة به ومهما حاول أي منهما ادعاء المساواة إلا أنه هناك ما يفرق بينهما بحكم الفطرة.

جبروت المرأة في ذكائها، في دهائها، في حنانها، في دمعاتها، في حبها وعطفها.

وجبروت الرجل في عقله، في يده، في خشونته، وبخل مشاعره.

زرعت أم عصام في ابنها الحب، التسامح، الأخلاق وكل ما يوحي بالضعف.

وزرعت أم عادل في ابنها الأنانية، الغرور، الحقد، الظلم وكل ما يوحي بالقوة.

واشتركت المرأتان في شيء واحد زرعتاه داخل فؤادي عصام وعادل وهو كراهية بعضهما بعضاً والسبب أنهما ليسا شقيقين فكانت كل واحدة عندما تريد ترغيب ابنها في شيء تقول له انظر إلى أخيك غير الشقيق ماذا فعل، إنه نجح في كذا وكذا يجب أن تتفوق عليه فهو ليس شقيقك.

وغادرت المرأتان الحياة بعد أن أثمر زرعهما، أما الأب فقد غادر دون أن يترك أي أثر على ولديه فيما يتعلق بعلاقتهما كأخوين، رغم جهده ومشاجراته مع زوجتيه، رغم الحرب القائمة مع المرأتين من أجل إلغاء الحدود بين ولديه ويجعلهما يداً واحدة. حاول الكثير ولكن المرأة التي تعرف كيف تملك ألباب الرجال كان أثرها أبلغ و أقوى.

مع العلم أن الأب كان يعدل حسب استطاعته بين زوجتيه لكنها عقدة من ضمن ملايين العقد الشرقية، نعم أنتما أخوان ولكن لستما شقيقين.

(2)

كبر عصام وكان متفوقاً في دراسته، هادئاً في تعبيراته، وسيم الملامح، خافض الصوت، طيب القلب، حياته مستقيمة يكره الانحراف، ضميره مشتعل كالنار، يحاسب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، كان يحاول جاهداً القضاء على البذرة التي زرعتها أمه داخله وهي كراهية أخيه، لكنه لا يخجل بأن يعترف أن دوافعه في التميز والتفوق كانت بسبب تلك البذرة فكان واضعاً أخيه أمام عينه فانتهى به الأمر أن يكون عالماً في الفيزياء يحصد الكثير من الجوائز التقديرية واعتبر ذلك تعويضاً عن الفارق الذي بينه وبين أخيه حيث كان عصام يسكن حياً شعبياً، رغم التفوق والنجاح ورغم الترقي في مجاله الوظيفي، ولكن كل ذلك لم يوفر له الحياة المادية الرفيعة.

بالمقابل كان عادل فاشلاً دراسياً، فحاول التعويض والتفوق على أخيه بالمال، فسلك الطرق المتعرجة وجمع ثروة هائلة وسكن القصور وركب أفخم السيارات ولو كان نظام امتلاك الطائرات معمولاً به في بلاده لامتلك طائرة، لكنه بالمقابل كان حقوداً سليط اللسان، لا يرى من الناس إلا العيوب ولا يرى من نفسه إلا المزايا، كان يضحك لدرجة السخرية، كرهه لأخيه أكبر من كره أخيه له.

ومرت السنوات وكل واحد منهما يحاول جاهداً التفوق على الآخر هذا بالعلم والأدب والآخر بالمال والغرور.
وتزوج عصام وتزوج عادل وجاء التاريخ ليعيد بعض الآثار القديمة، وأنجب عصام ولداً سمّاه باسماً وأنجب عادل ولداً سمّاه سيفاً.

(3)

زرع عصام داخل باسم الخير، الالتزام، الضمير وكل شيء من المفروض أن يكون هو السائد واستطاع أن يقضي على البذرة التي زرعتها أمه، فكان باسم لا يكره سيفاً بل يسعى لمصاحبته على أساس أنه ابن عمه.

كان باسم متفوقاً في دراسته لا يعلم في الحياة إلا الكتاب والمدرسة محباً للانعزال والانطواء قد تلعب الوراثة دوراً أحياناً في ذلك وكان متسامحاً لدرجة يظنه البعض غبياً أو ليس لديه إحساس من كثرة ما يسامح من يؤذونه.

أما سيف فكان أنانياً، لا يعرف في الحياة سوى النوادي والسهر واختطاف اللقمة من أفواه الغير، والنجاح بواسطة عوامل مساعدة.

كان عصام قاسياً أحيانا على ولده باسم وكان عادل متراخياً متهاوناً مع سيف ولكن يبدو أن القسوة إما أن ينتج عنها إنسانٌ حالم حزين متسامح وأحياناً شاعر، أو أن ينتج عنها شيطان مجرم وكان باسم ذلك الشاعر.

أما التراخي والدلع لا ينتج عنه سوى الأنانية والغرور والإجرام ولو اختلفت أشكاله وكان سيف ذلك الأناني المغرور.
كان عادل يقوي الحقد داخل سيف ضد ابن عمه باسم وكان عادل يعرف أن قوة باسم في عقله وقوة سيف في ما سيرثه من مال فكان عادل يحاول شراء العقل لابنه بالمال، بالواسطة، بالرشوة، بالهدايا. وبحكم العلاقات المتوترة بين الطرفين بدأت العلاقات تفتر شيئاً فشيئاً فالخير والشر لا يتجاذبان في الحياة على الرغم أنهم علمونا في الفيزياء أن الأقطاب المختلفة تتجاذب لكن العلم لا ينطبق دائماً على الحياة.

وتستمر الحياة شبيهة بالأفلام القديمة باسم من نجاح لآخر، من البيت للمدرسة، ومن المدرسة للبيت، وأصحابه معروفون لدى والده هكذا علمه أبوه، علمه أنه لابد من أن يحدث تعارفاً بين الأب وابنه وأصدقاء ابنه.

أما سيف فكان يضيع وقته ما بين النادي والسهرات والبنات خفيفات الوزن، خفيفات العقول. فهو واثق أنه في النهاية سينجح حتى ولو بمعدل يكون على حافة الهاوية لكنه سينجح وبالتالي يؤكد لباسم أنه يستمتع بحياته بينما باسم خافٍ رأسه بين صفحات الكتب.

(4)

يقول باسم: لم أكره ابن عمي ابداً ولم أشغل تفكيري به على الاطلاق، كل ما كنت أفكر فيه هو كيف أكون متفوقاً فقد كانت طموحاتي كبيرة جداً أكبر من قدراتي المادية والعقلية والجسدية، كنت مهووساً بالمستقبل لدرجة أنني كدت أنسى من حولي من كثرة ما أعيش مع أحلام اليقظة، أضيع ساعات طويلة وأنا أتخيل نفسي هنا وهناك.

ويقول سيف: كنت أحقد على باسم لأنه أذكى مني ولديه هدوء وآراء صائبة فلطالما أحرجني أمام أصدقائي وقد كنت متأكداً أنه لا يقصد إحراجي لكنني لم أستطيع منع نفسي من كراهيته والتفكير في التفوق عليه بأي طريقة كانت.

(5)

وبعد سنوات تظهر نتائج الثانوية العامة.

يقول باسم: حينما ظهرت نتائج الثانوية العامة لم أصدق نفسي، كنت الأول على الجمهورية، نعم الأول قرأت الورقة أكثر من مرة لدرجة أنه اعتقدت أني نسيت اللغة العربية وطلبت من زملائي التأكد من النتيجة وبالفعل أكدوا لي النتيجة.

يقول سيف: حين ظهرت النتيجة بلغ الحقد مبلغه تجاه ابن عمي رغم أن النتيجة كانت متوقعة لكنني أخذت أشوه صورته أمام من يعرفه ومن لا يعرفه، وصفته بالفقير، ذي الملابس المتواضعة، فاقد الخبرة في الحياة خاصة فيما يتعلق بالجانب الأنثوي، ولدينا المجتمع الشرقي يستطيع أن يتقبل أي اتهام إلا اتهام عدم خبرته في التعامل مع الإناث.

تعود سيف أن يتحدث عن نفسه أنا فعلت، أنا ذهبت، أنا عملت، أنا سافرت، أنا أذكى من فلان وأذكى من هذا وأجمل من ذاك.... الخ على الرغم أن الأعمال هي التي تتحدث عن أصحابها.

بينما باسم لم يتحدث عن نفسه على الرغم من التفوق بل الصحف والمجلات والتلفاز هم من استدعوه وتحدثوا عنه، تخيلوا على الرغم من التفوق كان باسم خجولاً، أيخجل المرء من النجاح أم أنه كان متواضعاً لدرجة الحياء؟؟.

(6)

وهناك في الجامعة كانت المفارقة حين التقى الأول على الجمهورية وناجح على حافة الهاوية في نفس المقعد ونفس الكلية.

اعتبر باسم أن هذا ضربٌ من الخيال لكنه لو فكر قليلاً والقى نظرة حوله لا ستنتج أن هناك كثيراً من الأعمال وكثيراً من أصحاب المهن الرفيعة يجلسون حول مائدة واحدة مع أصحاب المهن الوضيعة. والإنسان العاقل جداً في هذه الحياة لا يستطيع أن يوازن بين الأمور فلا بد أحياناً أن يكون هناك شيء من الجنون أو ادعاء الجنون حتى نستمر في هذه الحياة.

يا للعجب كلية الهندسة لا تقبل سوى المعدلات العالية ونرى فيها طالباً ناجحاً بعوامل مساعدة، لكنه المال نعم المال الذي يشتري كل شيء، كل شيء دون استثناء حتى كرسي الدراسة، إنها مأساة الشباب اليوم، مأساة الناجح والفاشل، المبدع والمبتدع، المجتهد والكسول، هنا يتساوى ذوو الأخلاق بمدعيها، يتساوى العابد بأصحاب الملاهي الليلية هنا يخجل ذوو الأدب ويتنحون جانباً لأنهم متخلفون في نظر أصحاب الأموال ويتبجح الممزقون وبكل صلابة وثقة بالنفس يظهرون ويقودون المجتمع لأنهم صاروا متحضرين.

في ذلك اليوم، اليوم الدراسي الأول بدأ شيء يتزعزع داخل باسم، وانطلق سؤال من داخله، كيف؟ ولماذا؟ وما فائدة أن أكون الأول على الجمهورية ثم أوضع في كفة واحدة مع فاشل؟ حاول باسم أن يسيطر على داخله ويتابع دراسته ماشياً خلف فكرة تقول _ المستقبل سيثبت من الأفضل _.

ودرس باسم كالمعتاد وعرف باسم بالطالب النظامي الملتزم المجتهد، وعرف سيف بطالب الرحلات الجامعية وزائر المشرفين والأساتذة سواء في مكاتبهم أو في بيوتهم.

واستكمالاً للمفارقة كان باسم ينجح كل سنة على حافة الهاوية وسيف ينجح بتفوق، انقلبت الأمور رأساً على عقب فباسم لا يعلم قوانين اللعبة ولم يخبره أبوه أن المدرسة شيء والجامعة شيء آخر وليس كما يقولون لكل مجتهد نصيب وبالتدريج استسلم باسم لهذه اللعبة وتحولت الدراسة لديه من أجل النجاح فقط بعد أن كانت طريقاً للوصول للماجستير والدكتوراه والمراكز العليا.

وفي آخر يوم من أيام الجامعة تفرق باسم وسيف واعتقد كلٌ منهما أن الفراق سيمسي أبدياً فسيف حقق ما يريد وهدأت روحه وباسم انقلب وتحول من إنسان هادئ مستقر لإنسان مضطرب وتبعثرت أمامه القوانين واختلط الصواب بالخطأ لديه وصار لديه تبرير لأشياء كان يعتبرها في الماضي من المحرمات.

(7)

مرت سنوات وانشغل باسم بعمله وحاول الوصول لنجاح أكبر وبدأ شيئاً فشيئاً ينسى أيام الدراسة، فما عاد يذكر الماضي الذي إن تذكره أصابه صراع داخلي وارتباك وحيرة لكنه أحياناً يتذكر أنه كان مواظباً على الدوام ملتزماً مجتهداً وفجأة تتعالى ضحكة ساخرة مؤلمة، كيف دخل باب الجامعة وخرج منه دون أن يستمتع ولو لحظة بحياته، إنه فعلاً لم يكن يضيع الوقت، ألهذا الحد كان جدياً؟ بينما كان الآخر يغيب عن أغلب المحاضرات مستهتراً لا يشعر بالآخرين ومع ذلك وصل لما أراد.

يقول سيف: شعرت براحة نفسية وجسدية كبيرة فقد كدت أصاب بالجنون بسبب أبي الذي كان يقول دائماً إن باسماً أفضل منك وحينما تفوقت عليه وحتى ولو بطرق غير مشروعة شعرت براحة كبيرة جداً وليس مهماً الطريقة التي سلكتها طالما العالم ليس لديه إلا الظاهر.

أما باسم الذي تحول لإنسان تملؤه التناقضات فتارة نراه هادئاً مسالماً مع كل من حوله وتارة نراه لا يفكر إلا بكيفية الانتصار على من سرقوا منه فرحته وهناءه وكانت تنتابه أوقات كثيرة يستسلم فيها لليأس ويقول ما فائدة الاجتهاد والتعب والعرق طالما سيأتي كسول ويقول لي أنا وأنت في كفة واحدة؟

وذات مرة وهو يشكو لأصحابه ويتحدث عما يدور في نفسه وكيف أن ذلك الشرخ قد جعله يُضرب حتى عن الزواج، فعلى أي أساس سيربي أبناءه، أية معايير سيزرعها بداخلهم، كيف سأقنعهم بالصواب والطريق المستقيم بينما العالم ماشٍ بعكس دوران عقارب الساعة.

وحتى يزيل أحد زملائه الكرب عنه قال: أسمعت آخر نكتة، ذهب شاب لأحدهم وقال: أريد أن أنتحر قال الآخر: هل لديك واسطة.

الشاب: لماذا؟

الآخر: إن كان لديك واسطة سنقتلك تحت التخدير العام فلا تشعر بالألم.

وتتعالى الضحكات....

(8)

أعلنت الدولة عن جائزة لأفضل مهندس يصمم أجمل مبنى، والفائز سوف يتم إرساله للخارج للدراسة على حساب الدولة. وسارع باسم وتقدم وهو شبه متأكد من الفوز حيث إنه كان رساماً ذا خيال خصب.

وصدرت النتائج وكانت صدمة لباسم حين قرأ اسم الفائز لقد كان سيف هو الفائز، لماذا يتقدم سيف للمسابقة وهو يمتلك المال الذي يعطيه الفرصة للسفر والدراسة.

واعتبر باسم أنه هزم في هذه المرة أيضاً وبات يشعر بالملل، لا تقدم، لا تغيير، فعمله صار روتينياً بعد أن كان حلمه التميز والشهرة.

حوار بين باسم وأحد أصدقائه:

باسم: قدمت استقالتي.

الصديق: هل يئست؟.

باسم: أتعلم أن شعوري بالقهر والظلم عزز بداخلي حب الانتصار على الظالم؟.

الصديق: ما معنى ذلك؟.

باسم: الحياة لا زالت أمامي.

الصديق: لكنك استقلت.

باسم: مؤقتاً فقط وسأسلك طريقاً آخر إلى أن أحقق ما أريد ثم أرجع لمهنتي.

الصديق: ما هو؟

باسم: الإبداع.

الصديق: لكن هناك أيضاً مبدعين بالواسطة والمال.

باسم: تقصد أن تقول مبتدعين وليس مبدعين ومثل هؤلاء يمكن أن يشتهروا لكن صدقني لن يحبهم الناس فإن
الناس لا تحب إلا المبدع الحقيقي.

الصديق: وما هو الفن الذي اخترته؟

باسم: الحياة كلها فنون المهم أن أختار شيئاً أحبه وأشعر أن لدي موهبة فيه.

الصديق: معنى ذلك أنك نسيت حقدك الدفين تجاه سيف.

باسم: كلا ليس بعد، ربما حين أصل إلى ربع ما أريد سأنسى كل أحقاد الدنيا.

الصديق: قد تفشل، قد تتأخر، قد تقع.

باسم: عندي الأمل وعندي الإصرار وقوة الإرادة والله لن يضيع تعبي فسأدع سيفاً يمشي في طريقه وسأمشي في طريقي فإما أن أنتصر وإما أن أموت.

غريبة هذه الحياة كيف تبدل أفكارنا واتجاهاتنا بين ليلة وضحاها ولكن ما أبكي عليه هو أن الدوافع لدينا تغيرت، قلة من الناس قد تكون دوافعهم إيمانية، أي أنهم يتطلعون إلى النجاح بهدف خدمة الآخرين، لكن الكثير من الناس خاصة الشباب بات دافعه للنجاح إما الانتصار على ظالم أو انتقام أو شهرة لمجرد الشهرة، فهل منكم رجل رشيد يدلني ويرشدني مع باقي شباب هذه الأمة لطريق تجعل هدفنا هو خدمة الوطن بدلاً من أن يكون هدفنا الانتصار على بعضنا بعضاً.

28 مايو أيار 2005


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى