السبت ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم بشير خلف

لا إبداع بلا حرية !!

قال الله تعالى:  بَديعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ إذَا قَضَى أمْراً فَإِنَّمَا يَقُـولُ لَهُ كُـنْ فَـيَكُونُ . سورة البقرة الآية 117

الصلة بين الإبداع و الحرية صلة بين المقدمة و النتيجة، بين الغذاء والكائن الحي، بين الأم ووليدها .. فإذا كان الإبداع عطاء جديدا نافعا في ميدان إنساني ما، فهذا العطاء و ذلك الثراء للحياة الإنسانية فضاؤه الحرية، الإبداع الحر لا ينبع إلا من الذات الحرة، من النفس التواقة، المغرمة بالكشف عن المجهول و تجاوز المعلوم.

الإبداع الحر ينبع، من الرغبة في الإضافة الكائنة داخل الإنسان الفرد ذي الموهبة أولا و في الجماعة التي تحررت من القيود التي تربط بينها أواصر عديدة و ترى الحياة صيرورة متجددة في جميع المجالات تطويرا لما هو كائن و إيجاد لما لم يكن، و غرسا دائما لما يجب أن يكون.
و طالما أن الإبداع الحر في عمقه توق دائم للأفضل و تجاوز لما هو كائن و تحرر من كل القيود كيفما كان نوعها و مهما كان مصدرها، فإنه يتعارض مع الخضوع لأي قيد ، أنه يهفو دوما لتجاوز الواقع إلى ما هوأبعد منه، و إلا لما استحق أن يطلق عليه صفة الإبداع .. و الإبداع الحر المتحرر بصفة أخص.

الإبداع يتعارض مع كل قيد مادي أو معنوي، و مع كل نص مؤسساتي هدفه الإبقاء على ما هو موجود. الإبداع فكر خلاق، و هج أخّاذ، صيرورة متجددة، عملية تجاوز عملية بناء جديدة ومتجددة، قد تكون خطوته الأولى الهدم لإنشاء الجديد محل ما هدم و يهدم، و قد يكون إنشاء جديداً … ديدن الإبداع التطوير.. التحسين.. تيسير الحياة الإنسانية.
إذا كان هذا هو حال الإبداع دوما، فإن المبدع الحقيقي، المبدع الحر ديدنه دوما و عبر كل المراحل التاريخية في كل بقاع المعمورة، التحرر من القيود و الانطلاق في الفضاءات الكونية الفسيحة،مغردا لإسعاد البشرية أولا و ملبيا نداء داخليا و مفجرا طاقات متميزة و هبه الله إياها وخصه بها، محققا للبشرية بعضا من سعادتها … المبدع هذا الإنسان المنفرد.. نفسه تواقة إلى الانفلات مما ألفته و تألفه الأنساق القائمة في المجتمع و خضع لها الناس راضين.. روحه تسبح في عوالم أخرى غير عوالم غيره، تتعارض مع النمطية السائدة، مع الخضوع و الإخضاع ترفض قبول ما هو كائن والإبقاء عليه.

المبدع بطبيعته الدنياميكية الثائرة على الرداءة و الواقع المتردي، يضيق بكل ما يحاصر عقله، ويقيد حركته، يضيق بقيود المؤسسة أيا كانت المؤسسة حتى و لو كانت مؤسسة الأهل و العشيرة والأسرة،يربد أن يقول ما يؤمن به بصرف النظر عما يراه غيره و يفكر فيه أو يشعر به أو يؤثره عن غيره .. يريد أن يبدع بفكره، بيده يريد دوما تتجاوز الواقع وصولا إلى فكر جديد يشع على الإنسانية، يفتح أمامها آفاقا أفضل و أجمل، يتوق و يعمل دوما من اجل تقديم منتوج جديد.. اختراع حديث يقيد به الغير بغض النظر عن الزمان و المكان و الجنس و الأمة.
المبدع في رؤاه و في فكره دوما يشكل شوكة مؤلمة في حلق المؤسسة و أهل الحل و الربط و حتى لدى الأفراد و لو كانوا من أولي القربى، تحركه، ديناميكيته و آراؤه ، فلسفته هي قلب للأوضاع الكائنة، هز للطاولة وما عليها … المبدع الحر المتحرر الذي ينشد الفضاءات الشاسعة ويـعمل على تجسيد الحرية فيما يبدعه.

الإبداع الحقيقي إيجاد لعوالم جديدة بدلا لما هو كائن، البديل يناقض الواقع بكل ما فيه من مفارقات و تناقضات و ترسيخ لنمطية عادة تُبقي على الرداءة … الإبداع الصادق ذاته ثورة حرة .. ثورة تحريرية، و المبدع الحر صانع هذه الثورة التي يراها من ألفوا الرداءة ، من وجدوا مصالحهم فيها و في الإبقاء عليها مسّا بمكانتهم تهديدا لوجودهم، خطرا على مكتسباتهم.
في كل مراحل التاريخ الإنساني، سيما في عالمنا العربي و الإسلامي بصفة أخص .. العقل المبدع المتجدد والمجدد مستهدف لإسكان صوته بشتى الطرق و الأساليب، بالحجر.. بالنفي .. بالإغراء، بالقتل بـ … إلخ.

ما لنا نتكلم عن الإبداع الحر و المبدع المجدد و المتجدد و الذي يقلق أصحاب المصالح و يخلخل الواقع، و لم نتكلم عن الحرية ؟، هل يمكن أن يكون إبداع إذا انتفت الحرية ؟، هل يمكن للمبدع أن يبدع في بيئة مقيدة و مغلولة ؟، أليس المبدع جزءا من الكل ؟، أليس عضوا من مجتمع يؤثر في المبدع و يوفر له المناخ المناسب للإبداع ؟، ماذا لو كان المجتمع يخلو من الحرية، بل يعاديها و يحاربها ؟ هل يبرز منه مبدعون ؟.
ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أن الإبداع باعتباره تجديدا،و إيجادا لما هو غير موجود ، وتجاوزا للمألوف يأتي إلا ممن تحرر مما ألفه غيره واستسلموا له طائعين راضين أو خاضعين شعارهم ؟ ليس في الإمكان أبعد مما كان .. الإبداع صنو الحرية و الحرية هي الشرط الأساسي لوجود الإبداع، ولكن ما الحرية ؟.

يرى العديد من المفكرين، أن الحرية مفهوم مطلق لا وجود له إلا في الذهن، أما في الواقع لا توجد حريات و ما وجد منها فهو نسبي، لأن نقيضها (الحتمية) مرافقة لها دوما .. و لكن يوجد تحرر و التحرر يصنعه العظماء و العباقرة و الموهوبون و المبدعون " فالحرية ظاهرة، أو واقعـة أو حالة " (1) وهي بهذا تشترك مع الإبداع في كونها فعلا ينتقل من الإمكانية إلى الوجود بفعل التحرر الذي يقوم به الإنسان، و إذا كان الإبداع فعلا للتحرر و تجاوزا للواقع و قفزا على المألوف يعبر عن نفسه من خلال الصراع المعقد بين المبدع و ذاته و مجتمعه فهّذا هو جوهر الحرية.
و لئن كانت الحرية و كما سبق، مفهوم مطلق لا وجود له إلا في الذهن، فإن إدراكها و تحقيقها لا يمكن أن يتم إلا في صميم الفعل الذي تمارس فيه، الفعل الذي يتجسد بين الإنسان و الوسائط التي من خلالها وبها يصنع ذاته، و الحرية كما هو معروف مرتبطة بالاختيار الذي يفترض كينونة الحرية،و كينونة الحرية تفترض ملكية الحرية، أي نمتلك قرار الحرية ") (2)، إذ لا قرار بدون اختيار و لا اختيار بدون قرار، و ليس كل اختيار في الحقيقة اختيار حر، و حتى يكون الاختيار حرا و حقيقيا وخاليا من الزيف، ينبغي أن يصدر عن إرادة الحرية، و الحرية تأبى الإلزام، تتعارض مع التعيين الفوقي و حتى الأفقي الذي يعطي لنفسه حق الوصاية، لأن كل تعيين إخضاع، و كل وصاية حدّ و تحديد، ولا حرية بالإلزام و التعيين والحدّ والتحديد .

إن الإبداع يأبى الإلزام .. الإبداع ينمو في فضاء الحرية، كما أن الإبداع شرط كي تصبح أفعالنا ذات طابع حر، و هذه العلاقة بين الإبداع و الحرية تعبر عن نفسها في التجديد المستمر لأفعال الإنسان عبر صيرورة التاريخ.
" إن ما تنعم به البشرية اليوم ما هو إلا محصلة تلك العملية الذهنية الراقية ألا و هي الإبداع، إذْ لا يستطيع أحد أن ينكر أهمية الابتكارات التي طورت الحياة من تلك الصورة البدائية الجافة إلى صورتها الحالية بما فيها من وسائل راحة و إنجاز للمهام بأقل جهد، كما أن الإبداعات الفنية من شعر و أدب و رسوم تضفي على النفوس السعادة و المتعة و تجعلها مرهفة سعيدة، فالإبداع هو تعبير عن إنسانية الإنسان و وسيلة للرقي بها (3)"
" و في المنظور الإسلامي فالفكر يعني حركة العقل الواعية، العقل الذي يتأمل، ينظر، يتدبر. والقرآن الكريم باعتباره نصا مفتوحا ثريا متجدد العطاء، و الآيات التي تدعو إلى التدبر.. إلى النظر ومخاطبة ذوي العقول.. ذوي الألباب، و التفكر و استعمال الفكر و تدبر الكون تدبرا دقيقا من سماواته و أراضيه و من كواكبه إلى نجومه و من حيواناته إلى سائر المخلوقات القائمين عليه ، و على الإنسان بعد التدبر أن يسجل النتائج و يقدمها فيهمل ما يضر و يحتفظ لنفسـه و مـن بعـده بالنافع (4) "
حثنا الإسلام منذ البداية على إعمال عقولنا في التفكير بالظواهر الكونية حولنا للوصول منها إلى الإيمان الصحيح بالاستناد على الأدلة العقلية، و لا يحجر على العقل و هو أداة التفكير و لا يحدده ولا يضيق عليه :

" بل يطالبه بالتحرك و التجوال الهادف في هذا الكون، ليكتشف أسراره، و يطلع على قوانينه ويستكنه علاقاته و معادلاته و يسخر ذلك كله من أجل تعميق العبودية للخالق الحق و لخدمة الإنسان بتجلييْه المادي و المعنوي، و لقد كرر الإسلام في كتابه الدعوة إلى النظر و التفكّر كثيرا وهذه الدعوة و ذاك الطلب يصب في مصب ـ الإبداع ـ فعلى الجميع أن ينظر و لكل مجاله وميدانه من أجل النظر و على الجميع أن يعرفوا إذ يدعون إلى النظر فمن أجل ـ الإبداع ـ والتجديد موقف إسلامي مطلوب، و قد تكفل الله ببعث مجدد على رأس كل مائة سنة كما جاء في الحديث الصحيح (5) ".
رُبّ قائل يقول: موضوعنا، لا إبداع بدون حرية و مركز الثقل في الموضوع، الإبداع الحر فلماذا الاستطراد في الحديث عن الحرية ؟، و الجواب: أن الحرية لدى المبدع شرط ضروري لكي يبدع، و لما نتحدث عن الإبداع، و عن هذا الفعل المتميز الصادر عن الموهوبين فليس القصد الحديث عن الإبداع في الفكر أو الأدب أو الفنون الجميلة بما في ذلك الإبداع في الموسيقى فحسب، بل قصدنا كل ما يبدعه الإنسان في شتى مناحي الإنجازات الإنسانية من علوم و تكنولوجيا و صناعات و حرف مختلفة و فنون و صناعات تقليدية و أعمال تجارية و زراعية و بنى تحتية، أي كل ما يهم الإنسان ويلبي له طلباته المعنوية و المادية.

و قد ارتبط مفهوم الحرية عند الإنسان عبر التاريخ بالانفلات من السلطة.. من القهر.. من الكتب..من القيود التي تبدأ من الأسرة مرورا بالعادات و التقاليد و القهر الجمعي في مؤسسة التعليم إلى كل مؤسسات المجتمع، فالسلطة بهذا المفهوم تعمل على ثبات و تثبيت الواقع على ما هو عليه .. هذا العقل الجمعي خاصة في عالمنا العربي و الإسلامي يرسخ ثقافة معينة، ليس هذا المقام مجال لتشخيصها، هذه الثقافة تقتل الإبداع و تقضي على المبدع، تحد حرية الفرد و تكبله، و لا تمكنه من الانفلات من أسر هذه الثقافة الجامدة المقولبة للأفراد و المتجسدة في نمطية الحياة التي يحددها المجتمع للفرد و يأبى أن يتجاوز الخط الأحمر فيها.

يذهب بعض المفكرين إلى الإقرار بأن غياب الإكراه هو الشرط الكافي لتحديد الحرية فإذا كان الإنسان يتصرف بملء إرادته و لا يخضع لأي إكراه فهو حر، هذا الفيلسوف " هوبر " يقرر: " إن الحرية هي انعدام القسر، و كل فعل يتم وفقا لدوافع حتى لو كان الدافع هو الخوف من الموت يعد حرا، و الإنسان يكون حرا بقدر ما يستطيع التحرك على طرق أكثر، حرية المواطن و العبد لا تختلف إلا من حيث الدرجة، فالمواطن ليس تام الحرية و العبد ليس تام العبودية ".
و عند " سبينوزا " نجد نفس المفهوم للحرية من القسر: " هذا الشيء يعد حرا إذا كان يوجد وفقا لضرورية ماهيته وحدها و يعين ذاته بذاته للفعل "، و عند الفيلسوف " لــوك " أن الحرية هي: " أن نفعل أولا نفعل فحسب ما نختار أو نريد ".
أما " هيدجر " فيقول: " إن ماهية الحقيقة هي الحرية، و الإنسان لا يوجد إلا من حيث هو مملوك للحرية، فالحرية هي من ماهية الإنسان الجوهرية، و الحرية هي الأساس المطلق، و هي التأسيس و هي الوجود الأساسي ".

و أغلب المفكرين و الفلاسفة يربطون الحرية بالوعي، فلكي نحقق الحرية لا بد أن نعي أن الضرورة مرتبطة بالزمان و المكان و الضمير الجمعي، فالحرية الإنسانية ليست حرية مطلقة، بل تمر بمرحلة من الصراع و التناقض حتى تصل إلى مرحلة الوجود الضروري التي يصبح فيها اختيارها لذاتها مجرد تعبير زمني عن حقيقتها الأزلية و الوعي بالمصير لدى المبدع، فهو ذلك الموقف الذي يجد المبدع نفسه فيه، إذ لا يمكن أن يتصور أنه يوجد في عالم آخر أو يكون موجودا آخر.

و الحرية تعبر عن نفسها في جدل الإثبات و النفي، و هذا يعني أنها في الإبداع لا تعني دوما العفوية أو التلقائية، و إنما يقوم الوعي بدور خلاق في تقديم مقاصد المبدع، و فكرة الوعي و فكرة المصير تجعلان المبدع الحر يتجاوز ذاته الضيقة ليعبر عن مجتمعه، و يستشرف صورا جديدة في التفكير و السلوك و الحياة، فالحرية تقوم على المعرفة، لأن الجهل نقيض الحرية، فالمبدع الذي يجهل تاريخ أمته و حاضرها و مستقبلها و طموحاتها، لا يتكون لديه وعي بمصيرها، و كذلك الفنان الذي يجهل تاريخ الفن و مدارسه و حاضر فن بلده و ما يحمله من موروث و قيم، لا يقدر على إثراء فنه بل حتى من الإفادة مما قدمه غيره، و نفس الكلام ينطبق على كل مجالات النشاطات الإنسانية، فالذي يجهل قوانين المادة التي يستخدمها في الإبداع لا يستطيع أن يسيطر و من ثمة لا يستطيع أن يكتسب حريته، و بالتالي لا يتمكن من الإبداع. المهندس المعماري، على سبيل المثال الذي بفعل دراسته للنموذج المعماري الغربي وانبهاره و تشبعه فكريا بذلك النموذج، لا يتمكن من ممارسة حريته و هو يؤدي مهامه كي يبدع أنماطا أخرى من الفن المعماري لحضارات أخرى، وبلدنا مثلٌ للنموذج العمراني المسيطر و الذي لا يتماشى مع نفسية الأسرة العربية المسلمة، و القيم التي تربط بين أفرادها .. النموذج المعماري الإسلامي من الروعة بمكان و بإمكان المعماري الجزائري أن يستمد منه ما يتوافق مع حياتنا و أن يبدع فيه أيما إبداع في الهيكل و الواجهة، و في المرافق الداخلية و في التجميل الداخلي و الخارجي و تحديد المساحات الخضراء.
هل المغني ـ عفوا ـ لا نقول المطرب لأن المطرب من أبدع و أطرب غيره و حلق بالحاضرين في آفاق رحبة بفضل اللحن المميز و الكلمة الساحرة الجميلة الهادفة و تجاوز بهم واقعهم إلى لحظات ممتعة يشعرون فيها بالسعادة، فيتخلصون من الكدر و القلق و يشعرون بأن الحياة جديرة أن تحيا .قصدنا هؤلاء الدخلاء على فنون الغناء والطرب.. و ما أكثرهم في هذا البلد، الذي يؤدي أغنية بالحرف اللاتيني كُتبت له ..يجهل معاني عباراتها وكنه كلماتها يعادي لغته الأصلية ..لغته الجميلة ..هذه الأداة السحرية التي تمكنه من معرفة تاريخ الموسيقى و مدارسها و فطاحلها، و الشعراء الغنائيين، و لغة الموسيقى ونوتاتها وطبوع الأغنية … و هذا المغني الجاهل الفاقد للحرية، و الفاقد للوعي لمصير أمته .. هل يمكن أن يبدع ؟.

"إن الإبداع فعل حر و الفعل الحر يتضمن قبولنا و مشاركتنا فيه، و هذه المشاركة سندها الوعي و هي تعمل على نفي الواقع بالصورة التي هو عليها و العمل على نقله إلى حالة أخرى، فاستقلالية المبدع عن الواقع تفرض عليه نبذ الحرية السلبية وصولا إلى الحرية الإيجابية بالمفهوم الإبداعي الذي يحقق صورا جديدة للواقع"(6).

لئن أسهبنا في الحديث عن العلاقة المتينة، بل الضرورية بين الإبداع و الحرية فما هو الإبداع ؟ قد تتعدد التعاريف تبعا للرؤى الفردية و تبعا للمدارس و وفقا للأيديولوجيات و النظم السياسية والاجتماعية، و أقرب التعاريف في رأينا ما يلي:
إن الإبداع نمط من أنماط التفكير و مستوى متقدم في سلم القدرات الذهنية للإنسان، حيث يتميز به أولا عن غيره من الكائنات الحية، و يختص به ذووا المواهب و الذكاء العالي. و الإبداع من الناحية العملية يُعرف بأنه العملية التي تؤدي إلى ابتكار أفكار جديدة و أساليب متجددة و وسائل تقنية مستحدثة و تطبيقات في شتى مجالات الحياة غير مألوفة .. ابتكارات يشترط فيها نقله نوعية أحسن وأفضل مما هو كائن من أجل إسعاد الإنسان و تيسير سبل الحياة أمامه.

و وفقا لما سبق ذكره فإن الإبداع موهبة و عبقرية و ذكاء و إحساس بالحرية و سعي دائم للتحرر، هي عناصر متلازمة. الإبداع مطلب حضاري جوهري لجميع الأمم باعتبار أن الفرد المبدع لا يبدع لذاته حتى و إن سعى هو ذلك مؤمنا بأنه يملك شحنات إبداعية و رؤى تجاه الكون و الحياة يحرص على إخراجها بغض النظر عما إذا كان غيره يراها أولا يراها … فالأفكار ، والآراء و المواقف، والإنتاجات كيفما كان نوعها.. فالخبرات الإنسانية المتراكمة تجد بصماتها فيها و بالتالي فالمبدع الذي إذا أتيحت له فرصة الانفلات و الذهاب إلى مجتمع آخر يقدر المواهب و المبدعين، فإنه يتألق وإبداعه سرعان ما يعم البشرية.

الإبداع والابتكار والتجديد مفاهيم متقاربة لبعضها ، وهي دليل على التقدم الحضاري، وهي الدافع و المحفز لأي تقدم علمي أو فكري أو تقني أو صناعي أو تربوي أو اجتماعي أو زراعي.
والمبدعون هم ثروة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها لدى الأمم الواعية، و هم الشموس التي تضيء غياهب التخلف، و عقولهم تكتسح حواجز التقليد، و نفوسهم التواقة تخترق المألوف، تبحر صوب المستقبل. و من ثمة فبقدر ما تنجح أمة في الكشف عن الطاقات الإبداعية لأبنائها و الإفادة منها، تكون أمة متقدمة و متطورة حضاريا.

الإبداع يشير إلى القدرات المميزة للأشخاص الموهوبين، و القدرة على إظهار السلوك الإبداعي إلى درجة ملحوظة، و يشمل السلوك الإبداعي فيما يشمل الاختراعات و التصاميم و الاستنباط، و التأليف الفكري و الأدبي و الفنون التشكيلية و التأليف الموسيقي والإنشاءات الهندسية و العمرانية و الابتكار والتجديد و التطوير في شتى مناحي الحياة و مجالاتها الإنسانية. إن الأشخاص الذين يظهرون مثل هذه الأنواع من السلوكات هم الذين يوصفون بالمبدعين.
الإبداع ليس تفكيرا مزاجيا أو شطحات عفوية، أو نزوعا فجا، وإنما هو النظر للمألوف يعين ناقدة وبطريقة غير عادية قد لا تتراءى لغير المبدع، و من زاوية غير مألوفة، ثم تطوير هذا النظر ليتحول إلى فكرة، ثم إلى تصميم، ثم إنشاء إبداعي قابل للتطبيق و الاستعمال.
و يـــذكر أحد الكتاب: " أن من أهم خصائص التفكير الإبداعي، ، الحرص على الجديد من الأفكار ، والآراء و المفاهــيم و التجارب و الوسائل، و البحث عن البدائل لكل أمر و الاستعداد لممارسة الجديد منها (7)"

يقول الفيلسوف العربي الدكتور " زكي نجيب محمود": " و معجزة الحيـاة في مجراهـا هـي أنها ـ تبدع ـ جديدا بعد جديد في أثر جديد … خلال ذلك الجريان يموت ما يموت و من يموت من أبنائها، فتلد الجديد، و ضربٌ من المحال في عالم الأحياء أن يولد جديد ليكون صورة مكررة بكل حذافيرها وتفصيلاتها من سالفه (8) ".

و يواصل فيلسوفنا: " معجزة الحياة في إبداعها سواء أكان ذلك الإبداع في المجال الإنساني على مستوى الإفراد أم كان على مستوى الجماعات، و إن حيوية الإنسان في شتى جوانب حياته لتقاس بمقدار ما أبدع، أعني بمقدار ما أضافه من ناتج جديد، أما الذي يحيا حياته محاكاة لحياة غيره، من السلف، أو من الخلـف، على حدٍّ سـواء، فهو إنما يحيا صـورة باهتة لأصلٍ كانت له قوتـه عنـد صاحبه (9)"

الدكتور زكي نجيب محمود و كأنه يقول لنا و لمن يأتي بعدنا أن الحياة متجددة، عبارة عن نهر مياهه جارية دوما.. متدفقة .. متجددة و سر الحياة في تجددها في كل لحظة و لدى كل الموجودات حتى و إن كنا لا نلاحظ هذا التجديد المتواصل، و كل تجديد فيه تميز، فيه تفرد لا يكرر نفسه، فيه دوما تجاوز إلى الأحسن.

إن الإبداع الإنساني باعتباره تجديدا جوهريا و أساسيا ضمن حركية الحياة و الكون لكونه صادرا عن ذات واعية حرة تعي مصيرها و مصير الكون، تنزع دوما نحو الخير والسموّ بالإنسانية ، أيّا كان نوع هذا الإبداع ، والإبداع في حاجة إلى عوامل مساعدة تعمل على إبرازه ..من تجسيده ..من أنمائه ..من نشره وتجذيره .

المبدع في حاجة إلى أجواء نفسية وصحية و بيئية سوسيولوجية مشجعة على اكتماله و على رأس هذه العوامل الحرية، و ما أدراك ما الحرية، فلا يعقل أن يصدر الإبداع من ذات تكبلها العبودية من الداخل، ترسخ فيها القهر منذ نعومة الأظافر، يستحيل أن يصدر الإبداع في بيئة يسودها القهر و الظلم و الحد من الحريات الفردية و الجماعية، و إن صدر الإبداع واخترق الأسوار الحديدية، يستحيل أن يحيا و أن ينمو و أن يعطي ثماره و أن يشع في بيئة تسودها العقد النفسية و الأمراض الاجتماعية و يسيطر فيها القهر المؤسساتي، و تكبلها التقاليد و العادات البالية وتنهش فيها أنياب المحسوبيات و المنافع الشخصية و المافياويات التي تدنس كل القيم وتدوس كل شيء جميل.

ما أكثر المبدعين الذين برزوا يبرزون يوميا في حياتنا في هذا البلد في مجالات عديدة عرفناهم عن قرب، و رأينا بأم أعيننا إبداعاتهم الفكرية و الأدبية، الفنية و التقنية، ابتكارات عديدة بروزا فيها وعرضوا ما أبدعوه على الناس في معارض، في مناسبات عديدة، و انبهر الجميع بهذه المواهب … تقرب هؤلاء المبتكرون المبدعون من أهل الحل و الربط، شرحوا لهم و لههم بالبحث،عشقهم للتجدد، حرصهم على التطوير و التجديد … يريدون التشجيع المادي للمواصلة … و لا حياة لمن تنادي. تمر الأيام والزمن يفعل فعله … تخمد المواهب في النهاية و يخسر البلد طاقات هائلة .

السؤال الجدير بالطرح، لماذا نخسر الإبداع دوما ؟ لماذا نكره التطوير ؟ لماذا نعادي التجديد ؟ ما العلل الكامنة في نفوسنا التي تكبلنا و تقيد حركتنا ؟، لماذا أبناء هذا الوطن لما يستقرون في أوطان أخرى يتفردون بالابتكار ؟ يتميزون بالإبداع ؟، في كل البلدان تبؤوا الريادة و أثروا باختراعاتهم وبأفكارهم حياة الآخرين أينما حلّوا؟

لماذا دائما نحدد الإبداع عندنا إلا في الإبداع الأدبي و الفكري و الفنون الجميلة و الموسيقى ؟ أليست مجالات الحياة الأخرى أكثر و أوسع و بصمات الإبداع فيها عبر التاريخ ظاهرة للعيان ولولاها لما تطورت الحياة الإنسانية و لما وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم و تطور ؟.
هل خلت العلوم الأخرى من الإبداع و الابتكار ؟ كيف ستكون الحياة لو لم يكن هناك إبداع في الصناعة و الزراعة و التكنولوجيا و الطب و الإعلام و الموصلات و التجارة و العمران والإنشاءات القاعدية و البنى التحتية و مستلزمات الحياة ؟.
شعوب عديد على كوكبنا الأرضي تستمد مواردها و مصادر عيشها من الصيد البحري وأخرى من الثروات الغابية، و أخرى من السياحة و صناعتها، و الصناعة السياحية تعني العديد من الحرف للصناعة التقليدية التي يضفي عليها المبدعون اللمسات الفنية و الجمالية و بصمات التفردات المحلية،فنون جميلة في النقش والحفر و الزخرفة وغيرها من نسيج و عمارة متناسبة مع الأذواق وتتوافق مع البيئات الجغرافية و المناخية، يمارس فيها المبدع موهبته و ذوقه مستندا إلى رهافة حسه و سعة خياله و ذكائه … بل حريته في التصميم و التخطيط و الإنجاز و حسن الإتقان … هل هذه النشاطات الإبداعية التي يصب فيها المبدع ذاته و خبرته و الموروث الثقافي للجماعة، و قد تقوم بها عائلات و أسر عديدة توارثتها عن الآباء و الجدود و تورثها لأبنائها و أحفادها، و كل جيل يضيف ويُثري كسْبا للعيش ونماء للدخل القومي و حفاظا على قيم الجماعة و مكتسباتها و كينونتها ؟… هل هي نشاطات لا توصف الإبداع ؟.

لماذا نفغر أفواهنا لما ندخل معرضا مخصصا لابتكارات النجارين و نشاهد فيه روائع فن الخشب وصناعته من نماذج مختلفة قد ينفرد بعضها بعهد معين أو بشخصية معينة تاريخية ما. ضفْ إلى ذلك تلكم اللمسات الفنية المتميزة من نقش و حفر و تخطيط و كتابة بخط جميل، و نفس الكلام ينطبق على الإبداع في الأدوات النحاسية، و صناعة الجواهر الثمينة، و نسج الزرابي و الأغطية و الأفرشة التي هي صناعة و إبداع، و تتميز بها كل منطقة عن غيرها، فهذه زربية وادي ميزاب، و تلك زربية وادي سوف، و هاتيك زربية أولا نايل … إلخ، هي كلها إبداعات جميلة تتسم بالروعة و الأصالة و الجمال … أيعقل أن نسقط صفة الإبداع عن هذه الزرابي و تلك الحلي و الحلل التي تفننت و تتفنن فيها جداتنا و أمهاتنا في مناطق عديدة من بلادنا ؟، و ماذا نقول عن تصميم و خياطة و نقش و زخرفة (القندورة) القسنطينية أو التلمسانية أو الوهرانية أو الصحراوية أو … أليس من الروائع التي أبدع فيها الإنسان و ضمنها خلاصة رؤاه و فكره و نظرته للحياة ؟.

إن الإبداع الذي يتألق فيه حرفيو المجوهرات قمةٌ في العطاء الإنساني، قمةٌ في الموهبة و الذكاء و سعة الخيال و المعرفة التخصصية .. في كل بلداتنا و قرانا و مدننا العشرات من الشباب كأفراد أو في شكل تعاونيات صغيرة … أبدعوا كلٌّ في مجال النشاط الذي فضله و اختاره … إبداع متميز في صناعة الحديد و تشكيله إلى حاجيات و مستلزمات للمواطن .. و كذلك الأمر في صناعة الألمنيوم … إتقان جيد و ابتكارات رائعة في التشكيل و حتى أصبحت المرافق والمؤسسات والمحال التجارية وحتى المنازل و العمارات، بفضل هذه الإبداعات تحفة في الأداء و العرض و الفن المعماري.

و بإمكاننا أن نسقط هذه الفضاءات الإبداعية على جل ما له علاقة بحياتنا، نلمس فيها قدرة تتسم بالأصالة في سبك عناصر البيئة ببعضها و استنباط مركبات جديدة منها … و ماذا نحن قائلون عن العشرات من الشباب الذين توجهوا بحماس لخدمة الأرض و استصلاحها و ابتكار طرق وأساليب وأدوات مستحدثة في السقي و البستنة و استنباط محاصيل لم تكن موجودة، أو كان إنتاجها ضئيلا، فتمكنوا بفضل الطرق المستحدثة و الإبداع في التعامل مع الأرض و الاستفادة من الأبحاث العلمية و الآلات و المخصبات و غيرها من أن يجنوا ثمارا و محاصيل على مستوى عال من الجودة إضافة إلى الكم الذي وفر لهم أرباحا طائلة ساعدتهم على التطوير المستمر، و شجعت غيرهم من الشباب المتعلم و الجامعي من أن ينضم إلى هذا النشاط الهام في الحياة الإنسانية.

إن هؤلاء و غيرهم كل في إطار نشاطه و حرفته، إذا ما أحسوا بالاهتمام و فتح لهم المجال ومنحت لهم الحرية فإن الطاقة النفسية و الروحية و القدرات الكامنة عندهم تتفتق و تبدع و تطور وتجدد.
الإبداع إنتاج مهما تنوعت أشكاله. فالتفكير الإبداعي، وكل إبداع أصيل إنما هو ابتكار، أية عملية إبداعيه إنما هي نتاج قدرات عقلية. و ليس الإبداع عملية افتراضية بل هو حقيقة عيانية بشرط توفر الشروط المساعدة على بروزه و تجسيده في إنتاجات إنسانية راقية.
يقول الدكتور " عبد الرزاق قسوم " لما سئل عن مقاييس العمل الإبداعي، في حوار معه بمجلة –المجاهد الأسبوعي - :
" من خصوصيات الإبداع التمرد على المتعارف عليه و الثورة على الروتين و الخروج على المألوف كي ينفرد بصفة فردية تغدو بمثابة النسق العقلي المتفرد و المتميز.

فالإبداع هو فن السمو بالذوق عن السذاجة و العلو بالفكر من الاتباعية و إطلاق عنان المواهب العقلية في سماء الإلهام الحر المطلق (10)".
هناك من يرى بأن لا بد من وضع حدود للحرية حتى يأخذ الإبداع بدوره حدودا له وإلاّ تحوّل إلى معول هدم لقيم الأمة و ثوابتها و مقدساتها و موروثها الثقافي … انطلاقا من هذا الرأي يدافع الطرف الآخر عن الحرية المطلقة في الإبداع الغير الفكري … إذ لو كانت حدود أمام الإبداع لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه، و لما اكتشفت القارات و المحيطات و لمَا سبر الإنسان أغوار الكون و طوع الموجودات إليه … و شعار هؤلاء لا إبداع بدون حرية، و لا يمكن أن تكون هناك حدود لوقف حرية الإبداع.

إن العالم النفسي " غليفور " بعد دراسته للموهوبين و ذوي القدرات غير العادية استنتج إلى أن هؤلاء مما يمتازون به تلكم القوة الدافعة و الإحساس بالمشكلات و القدرة على النفاذ إلى غير المألوف و امتلاك القدرة على التصور التجريدي و كذلك القدرة على الإنشاء، أي إيجاد عنصر جديد مستنبط من مركب أو مركبات موجودة.

" من أهم العوامل أو القدرات الأولية التي يمكن أن تساهم في عملية الإبداع هي: وجود القوة الدافعة أو الإحساس بالمشكلات، و الطلاقة في توليد و إنتاج الأفكار في وحدة زمنية ما، و درجة التجديد في طرح الأفكار، و المرونة في التفكير و القدرة على التغيير، و تنظيم الأفكار في أنماط أوسع و أشمل، كالقدرة التركيبية، و القدرة التحليلية و القدرة على إعادة التنظيم و التعريف و التمويل للأفكار و الاستخدام الجديد و كذلك درجة التعقيد للبناء المفهـومي الذي يستطيعه الفرد، و القـدرة على التعامل مع عدد من الأفكار ، وإدارتها في وقت واحد، و درجة الضبط التقويمي من أجل الاختيار الأفـضل للأفكار "(11)

إن الحديث عن الإبداع وحريته يجرنا بالضرورة إلى المبدع الذي هو في الأصل شخص موهوب حباه الله قدرة متميزة عن غيره عندما يسمو بها بواسطة الإطلاع المستمر و البحث و الصقل للتجربة، فهو في حاجة ماسة إلى حرية حقيقية، ليتحرر من أسر الواقع و التقاليد و العادات و الجمود و الروتين،ويحلق في آفاق جديدة، و يبحر صوب المجهول، ذلك أن التقاليد الصارمة و الموروثات النمطية و الحدود المصطنعة و الممنوعات الكاذبة المظهرية، كلها موانع و إحباطات تصيب المبدع في مقتل و تقضي على إبداعه، بعد أن تكبله و تسجنه و تشل تفكيره و خياله فتلقي به كما مهملا.
إن مصادرة الحرية و التسلط الذي نمارسه على أنفسنا و أبنائنا كما سُلط علينا نحن و على من قبلنا، يقتل كل روح للإبداع و يقف حجر عثرة أمام روح الابتكار و المغامرة لدى إنساننا ،فالتسلط الأبوي هو البداية الأولى لسحق بدايات الإبداع الناشئة، فالتنميط والإخضاع المستمر والقهري للتقيد بنموذج الكبار ونمطية الحياة السائدة ..سلوكات تقتل الروح الإبداعية لدى الناشئة وتعيق عملية النمو لديهم وجدانيا وعقليا وحسحركيا ، وتشلّ كل تفكير آني ومستقبلي لديهم .. سلوكات تغرس في نفوسهم روح القهر الداخلي مما يؤدي بهم إلى الدخول تحت مظلة الكبار طائعين.
كل مؤسساتنا لا تختلف عن مؤسسة الأسرة التي تنبني على التسلط الأبوي، فالتدجين و الترويض و الإخضاع لنزعة الامتثال.فالكل يرفع شعار التسلط و القهر بدءًا من الوالدين و مرورا بالمؤسسة التعليمية و المسؤول في إدارته و المدير في معمله حتى إلى رئيس الحزب و غيرهم.
إن تجاهل ذوي القدرات العالية و الموهوبين في المؤسسة التعليمية و في المؤسسة الإدارية و غير الإدارية، و عدم الاهتمام بالتميز و الفروق بين الأفراد و الاعتراف بذلك التميز، فضلا عن تجاهل الكفاءات المبدعة في أغلب الأحوال و إسناد الوظائف و الأعمال إلى غير الأكفاء لها، هي عوامل محبطة للمبدع و موانع للشعور بالحرية التي يتم بها الإبداع.

إن الإبداع في بلدنا على غرار العالم العربي في أزمة، و من تكرار القول أن نشخص أسباب هذه الأزمة فالكل يعرف واقع الإبداع العربي، و الكل يعرف الكثير عن آلاف الموهوبين الذين غادروا هذه الديار نجاة بإبداعاتهم و مواهبهم التي تفتحت أكثر في الخارج الذي احتضنهم و رحب بهم فأبدعوا في شتى المجالات و أصبحوا مضرب المثل في الإعلام و الفكر و الطب والتكنولوجيا و الفضاء و البحث العلمي … مساراتنا كلها تعادي كل ما هو جميل … و الإبداع من أجمل ما في الحياة، لأنه إشراق روحي و تفكير شعوري يرتشف المبدع عناصره من واقعه و واقع غيره الجميل، فيتمثلها في نفسه ثم يسبغها جديدا على واقعه ، فيتلقاه الآخرون بما فيه من إشباع لذواتهم وتجديدا لمعالم حياتهم .
و قمة الإبداع الإلهي للكون: " بديع السماوات و الأرض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون"، لقد حثنا الإسلام على التفكير بإعمال عقولنا في معرفة الظواهر الكونية حولنا للوصول منها للإيمان الصحيح بالاستناد على الأدلة العقلية: " إن في اختلاف السماوات و الأرض لآيات لقوم يوقنون "، و اليقين مرتبط بحرية البحث و التحري، اليقين يدفع إلى الإبداع و التجديد في التفكير وأسلوب البحث و منهج التحري، و يدعوا الإسلام أيضا إلى تأمل الإنسان لنفسه: " و في أنفسكم أفلا تبصرون "، كما يلوم القرآن الناس على عدم استعمال العقل: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون "، كما يدعو الإسلام إلى التحرر من التقليد و اتباع الهوى، و قد سبق الإسلام الجميع إلى طريقة عرض القضايا في صورة مشكلات لتحفيز العقل على التفكر: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، و إلى السماء كيف رفعت، و إلى الجبال كيف نصبت، و إلى الأرض كيـف سطحت ".- سورة الغاشية -

نخلص إلى القول بأن الإبداع الحقيقي يتعارض مع الخضوع و القهر، فالخضوع قبول القهر وسلب الحرية التي بدونها لا يكون إبداعا، و المبدع بطبيعته يضيق بكل القيود و بكل ما يحاصر عقله وذاته، تنزع نفسه دوما إلى الجديد و التجديد، ..تشعر باستمرار أنه جزء من الكون الفسيح المترامي اللامتناهي، المبدع يضيق من التقاليد و العادات، يختنق من النمطية، يريد أن يقول ما يؤمن به بصرف النظر عما يراه غيره أو يحس به أو يفضله، ومن هذا فهو دائما خطر على الأفراد والمؤسسات التي همها الثبات على التقليد و ترسيخه و الولوع بالعيش في عباءة الماضي بدعوى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان و كذلك التسلط و القهر، و قولبة الأغلبية. و في المجتمعات المتخلفة التي تسيطر عليها مثل هذه الممارسات تنظر إلى الموهوبين و الأذكياء و المتفوقين نظرة الدهشة و الاستغراب، لا نظرة الإعجاب …وأحيانا وصْم هؤلاء بالجنون .
و طالما أن هذا السائد عندنا فلا ننتظر من الإبداع أن يسود، فالرداءة هي السائدة في جميع المجالات و مع ذلك بصيص الأمل سيبقى موجودا و الانتظار لشعاع الأمل لن يخبو .

وإجمالا :" أنْ لا إبداع في أي مجال بدون حرية،" فالحرية أثمن ما في الوجود ، ولا حــدّ أو حدود لها إلا ما تعارض مع مقدسات الأمة.
الهوامش :

الهوامش
 
1 ـ الادب والحرية .شكري عياد.
2 ـ المرجع السابق .
3 ـ ما الحرية .الدكتور جميل قاسم .
4 ـ الابداع خلاصة فكر لا تنتهي عجائبه .الدكتور محمود عكام .
5 ـ الابداع – موقع :google .com.
6 ـ حيدر الجرّاح .العدد 27 مجلة البيان .السنة الرابعة .
7 ـ أزمة الإبداع العربي ...إلى أين ؟ الدكتور ماهر عباس جلال .
8 ـ عن الحرية أتحدّث .الدكتور زكي نجيب محمود .
9 ـ المرجع السابق .
10 ـ الابداع والحرية .صحيفة المجاهد الأسبوعي .العدد : 2186.
11 ـ الابداع والابتكار ضرورة حتمية .موقع :google.com

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى