الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
رواية ـ للكاتبة سحر الرملاوي
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ حلقة 2 من 18

سعيد محامٍ غير نابه ، شاب في الخامسة و العشرين من عمره يقطن المنزل المجاور لهم ، متزوج و عنده ثلاثة أطفال ، اشتهر عنه أنه شاب لاهٍ ، لا يعترف بالمسؤولية ، يؤدي عمله في مكتب المحاماة الصغير الذي يملكه بشيء من اللامبالاة ، عانت زوجته طويلاً من عيونه الزائغة وراء كل حسناء ، لا يبالي أبداً بالاعتراف أمام الملأ بأنه لا يحترم النساء ، و أن المرأة تكوين جسدي مثير خلق للمتعة و ليس للوفاء و ليس للحب ، إنه أساساً لا يعترف بشيء اسمه الحب ، و لديه القدرة دائماً على تسفيه كل شعور بالحب قد يخطئ صاحبه و يصفه له ••

 هاه •• إذن تحب ؟ يا أخي خذها إلى مكان بعيد و تمتع بها ، ثم عد إلى منزلك و أغلقه عليك و نم ••
قبل شهر خرجت زوجته من حياته و أخذت أطفالها الثلاث ، قـــالت له إنها تخشى عليهم و على نفسها من وجودها معه ، قالت إنها حاولت المستحيل ليصبح إنساناً مسئولاً ، لكنها فشلت ، اعترفت له أنها استسلمت و أنه إنسان غير قابل للتغيير و تركته ، بدوره لم يتمسك بها ، كان يعرف أنها لن تستمر معه طويلاً ، يعرف أن استمرارهما معا هو من قبيل نفخ الرماد لإنعاش نار غافية ، كانت و ظلت و ستظل طوال الوقت غافية ، أعتقد أنه أصبح أكثر حرية عندما تركته ، و لكنه فوجئ كثيراً بالتغيير عندما وجد نفسه أكثر التزاماً و هو وحيد على عكس ما كانت حياته و هي معه ، وجد نفسه زاهداً فجأة في النساء و عندما كان أصحابه يسألونه عن السبب كان يلوي رأسه قرفاً و يقول :

 لا راحة في دنياك إن اقتحمتها امرأة ••
ذات صباح ، كان عائداً من العمل ، لم يعرج على أي مكان اتجه فوراً إلى منزله ، كان يشعر برغبة قوية في ترتيبه و تنظيمه بعد أن تركه طيلة الأسابيع الماضية في حالة إهمال جسيم ، بجوار مدخل العمارة كانت ريم واقفة ، تعمدت التلكؤ حتى يراها و عندما اقترب منها ، لم يلاحظها ، إلا أنها نادته :
 أستاذ سعيد ••
رفع رأسه باتجاهها ، ارتسمت على وجهه علامة استفهام كبيرة ، و بدا أنه لا يعرفها قال : - ناديتني ؟
أومأت برأسها و قالت :
 نعم •• في الواقع رأيتك و أنت قادم من بعيد و انتظرتك ••
ابتسم ابتسامة ذات مغزى و قال و هو يقيس بنظراته تفاصيلها :
 خيرا إن شاء الله ؟
ضغطت ريم بأصابعها على شيء تحمله و مدت يدها به قائلة :
 هذا للسيدة مريم ••
 ما هذا ؟
أعادت اللفافة إلى حضنها و قالت :
 إنه ثوب كنت قد اقترضته منها قبل فتــرة و جئت اليوم لأعيده إليها لكنها غير موجودة ••
 آه حقاً ، هي غير موجودة ، و لن تكون موجودة أبداً ، احتفظي بالثوب لنفسك فهي لن تعود ••
همست كأنها تقرر حقيقة كانت تعرفها :
 انفصلتما ، أليس كذلك ؟
قال باقتضاب :
 نعم ••
نظرت إليه بتحفز و لا تدري من أين واتتها القوة لكنها قالت :
 هذا أفضل لها ، فمثلك لا يصلح زوجاً ••
انفلتت إلى منزلها ، و لم تلتفت وراءها ، و عندما وصلت إلى البيت حكت لأمها ما حدث ، تحدثا قليلاً و علقاً على الانفصال المتوقع ، ثم نسيا الأمر ، و لم تدرك أنها تركت أثراً عميقاً منذ ذلك الوقت لم تستطع الأيام أن تمحوه لدى سعيد ••

***
عندما همت ريم بإغلاق نافذتها لمحت سعيداً جالساً في شرفة منزله يحتسي كوباً من الشــاي و ينظــر باتجاههــا مبتسمــاً ، لم تعط للأمر أية أهــمية إلا أنها تذكــرت زوجــته و شعرت بغصة غضب تجاه هذا المخلوق ، حنقت عليه جالساً يسامر القمر فيما أسرته بعيدة ، أغلقت النافذة بقوة كأنها تصفعه و هدهدت سمر قليلاً حتى نامت مجدداً بعد أن أيقظها صوت النافذة الغاضب ، و نامت ••

حلمت في هذه الليلة حلماً غريباً ، رأت نفسها فيما يرى النائم كأنها تسير في صحراء مترامية الأطراف ، لاشـــيء أمامها ســـوى هذه الصحراء ، كــانت تشعر بالعطش الشديد و في كل مرة تتراءى لها بحيرة تركض نحوها فتجدها سراباً و يزداد العطش ، رأت بحيرة ، ثم بحيرة ، ثم جبلاً عالياً تسلقته حتى القمة و اعتلت سحابة بيضاء و كانت ما تزال عطشى و فجأة أمطرت السحابة مطراً ، و أخذت منها الحيرة كل مأخذ ، لأنها لم تستطع أن تشرب من ماء المطر المنهمر تحتها رغم عطشها الشديد و استيقظت و هي تحاول التقاط بعض القطرات بكفها و لكنها لم تستطع ••
***
كانت قد أنهت للتو مساعدة أمها في أعمالها المنزلية ، و كانت أمها تستحثها الإسراع في تجهيز الطعام و فرشه قبل وصول أبيها المتوقع بعد لحظات ، و عندما انتهتا من وضع كل شيء في مكانه جلستا صامتتين تنظران الباب تارة ، ولساعة الحائط تارة أخرى ، قالت الأم و قد شعرت أنه لابد من الكلام :

 أبوك متعب
نظرت إليها ريم ، صمتت قليلاً ، كانت تبحث عن الكلمات المناسبة ، كانت تريد أن تخبرها أنها تعرف ، شعرت بهذا منذ فترة ، منذ أن أصبحت خطواته واهنة و دموعه التي لا تسقط قريبة ، في الحقيقة هي تعرف أنه ما فتح لها كنزه المخبوء منذ سنين إلا لينقل لها عبر ذكرياته وصية ما حفرت في قلبها إلا أنها لم تستبن كلماتها ، أوجعها قلبها و أحست بالغصة منذ أن أعطاها وثيقتها ثم الجرس و لكنها كانت تريد أن تحتفظ بكل مشاعرها داخلها فهي لا تريد أن تخرج كلماتها فتقرر واقع لذا اكتفت بأن تقول :
 العمل مرهق لمن في سنه يا أمي ، اطمئني و دعينا نعمل على راحته أو نطلب إليه أن يتوقف قليلا عن العمل بضعة أيام فقط ••
 أي سن يا ريم ؟ إن والدك ما زال في الخامسة و الأربعين من عمره لم يتمهم ، لكنه يبدو و كأنه تجاوز الستين ، بل السبعين •• انني شديدة القلق عليه ••
أدارت ريم وجهها عن والدتها لا تريدها أن ترى دمعة ترقرقت لامعة في عينيها تعتمد الحقيقة التي ذكرتها أمها ، صاح شيء بداخلها :
 إنه الحنين يا أمي •• الحنين إلى منزل قديم و بئر معــطلة و أم ربطــت حجرا على قلبها و دفعت أولادها يوما إلى الغربة لكي يعيشوا •• إنه الحنين أيتها الأم الحبيبة ، الحنين إلى صخب أخوة جمعتهم يوما أرض كانت لهم ، وطن كان فرشهم و غطاؤهم زادهم و زوادهم •• إنه الحنين يا أمي و ليس تعب السنين كما أقول و ترفضين ، إنه فقط الحنين ••
عندما فتح جهاد الباب ، لمح في نظرات زوجته كل ما توقع و أكثر ، قــلق و حيرة ، خوف و ضيق ، تنهد :
 السلام عليكم ••
توجه إلى غرفته تتبعه عيونهما :" إيه يا أم قاســم •• إيه أيــتها الغــالية ، رفيقة الدرب و الكفاح ، هل تشعرين بحالي ، هل أخبرك صمتي أنني أعاني ، هل سمعت هدير أمواج غزة في زفيري و شهيقي ، لابد لكل طير أن يعود ، و لقد طالت غربتي ، فهل سأعود يوما ، أم أنه كان فراقا للأبد ، شيئا يشبه الموت ، لكنه موت مؤجل ، إيه يا أم العيال إنني محطم حتى النخاع ، وحيد رغم العمل و البيت و الأولاد ، شيئا عزيزا قطعوه من لحمي يحن إلي الآن ••"
التفت إلى الباب كانت تملأ تجويفه الخالي ، تنظر إليه بقلق همست :
 هل أساعدك ؟
هز رأسه مبتسما و قال :
 مازلت شابا يا أم العيال ، من في سني لم يتزوجوا ، أنت التي شيبتني بالعيال مبكرا قبل الآوان ، صدقيني سأتزوج عليك يوما شابة صغيرة تعيد إلي الشباب !!
أشاحت أم العيال بيديها و قالت باسمة :
 و هل كنت ستجد من تتحملك مثلي أيها الفلسطيني التائه ، أم نسيت ؟ هل أذكرك بيوم جئت لأبي ترجوه أن يقبلك زوجا لي و تعده بأن تصونني في العيون و في حبة القلب ••
 أنا ؟ !! أنا الذي ذهبت أم أنت من طاردتني حتى قبلت الزواج منك •• هيا لا تغالطي التاريخ يا أم قاسم ••
كانت ممازحة يبعد بها كلاهما شبح النهاية عن سمائه ، و كان يحلو لهما دائما تبادل اتهامات السبب في هذا الزواج ، لكن الممازحة اليوم كانت هما ثقيلا على القلبين لذا صمتا فجأة كما تكلما فجأة و نظرت إليه مليا فاطرق برأسه و قال :
 نعم •• ساعديني يا أم العيال ••

***
كانت سميحة والدة ريم الآن هي ذاتــها تلك الشــابة المصــرية التي تلبس الملاءة السوداء و تغطي شعرها بمنديل مزركش الأطراف و تحمل الغذاء كل يوم إلى أبيها ملاحظ العمال ، فيلتفت لمقدمها كل عامل بناء و كل مهندس يصادف وجوده في موقع العمل ، عندما رآها جهاد لأول مرة كان قد مضى على وجوده في مصر ثلاثة شهور ، عمل خلالها في عدة أعمال صغيرة و سافر إلى مدن عدة قبل أن يستقر به المقام في القاهرة حيث تلقفه عم صابر والد سميحة و تعهده بالرعاية عندما علم أنه غريب من فلسطين ، كان يسأله عن الأحوال هناك و كان كغيره من المصريين آنذاك يعتبر أن فلسطين هي القضية التي خانها مليكهم يوما حين كانت في مرمى اليد ، أسلحة فاسدة و قصة قديمة تحولت مع مرور الوقت إلى عقدة ذنب خفيه في الضمائر ليس لها سببا مباشرا ، لذا فقد رأى فيه العم صابر ممثلا جيدا لبلاده يمكنه من خلاله أن يقدم شيئا لتــلك البلد البعيـــدة التي تــضم قدس جريح ، و لم يكن هذا الحال مستغربا لدى الجميع ، لذا فقد كان لدى جهاد فرصة جيدة ليقف على أقدامه بمنأى عن أية مكائد قد يدبرها زملاء المهنة لبعضهم الــبعض ، كان هو اســتثناء ، و كان سعيدا بهذا الاستثناء ، و عندما رأى سميحة قرر أن يختبر هذا الاستثناء عــمليا و أضمر في نفسه أنها ستكون زوجته ، لم يكن يعنيه تلهف الرجال عليها و حديث بعضهم علنا عن رغبتهم في الزواج منها كان في قرارة ذاته يشعر أنها له ، شعر بذلك من عينيها عندما التقت بعيـــنيه في لحظة واحـــدة ، وقعا خلالها بالأحــرف الاولى علاقة لن تنــقطع ، و كان كلما سمع أن أحدهم تقدم لها ينتظر بقية الحكاية التي يعرفها••" و رفضت هي " لكنه لم يتكلم و لم يشر حتى بأنه يريدها ، كان يعرف أنه لابد أن يكون مستعدا للزواج قبل أن يقدم على هذه الخطوة ، و بالفعل ، بعد عام كامل تقدم إلى العم صابر و قال بمنتهى الثبات :

 عم صابر •• أحبك كثيرا و أريد أن ارتبط بك ارتباط دم و نسب فهل تقبل أن تزوجني ابنتك ؟

تطلع اليه العم صابر مليا و سأل ضميره إن كان اشفاقه و محبته لهذا الفتى يبرران أن يعطيه ابنته لتشاطره غربة لا يعلم حدودها إلا الـــله أم لا ، لكنه حسم الموقــف في دقيقة و قال :
 إن وافقت هي فأنا موافق ، و لن أجد لها أفضل منك ••

هذا الرد كان جهاد قد سمعه قبل أن ينطق به الأب ، كان قد أحسه و قلما أخطأ إحساسه ، سميحة له الآن و ليحمل الغد ما يشاء من مفاجآت فإنه سيصنع أسرة من جديد بعد أن تشتت أسرته الأصلية اختياريا ، و ربما صنع وطنا ••

و في أقل من شهرين كان المنزل الجــديد قد أُجر و الفرش بالتقسيط قد اشــترى و فرش و الزفاف تم كأحسن ما يمكن لشاب فلسطيني غريب و شابة مصرية كانت محط أنظار الجميع ، و جاءت ريم بعد تسعة أشهر بالضبط و تنهد جهاد ساعة أن سمع خبر الولادة الأولى و قال :
 الحمد لله الآن أصبحت لي أسرة ، الآن عاد لي بعض من بعض الوطن ••
***
تأخر الغذاء هذا اليوم عن موعده كثيرا و اضطرت ريم لتسخينه مجددا مرتين على الأقل قبل أن يقبل الأب و الأم و حتى قاسم كان قد عاد من مدرسته و علقت سمر :
 هذه هي المرة الاولى التي نأكل فيها معا ••
ربت قاسم على ظهر الصغيرة و قال :
 غريب أنكم انتظرتموني اليوم ، هل من جديد ؟
قالت ريم بمكر و هي تبتسم :
 هذا السؤال يجيب عنه أبي ، أو أمي ، فهما السبب
و قال جهاد :
 السبب خير إن شاء الله ، خير للجميع و خصوصا لك يا ريم ••
تركت ريم ملعقتها تتوجه إلى فمها دون وعي منها فأسقطت الحساء على ثوبها و هي تسأل بلهفة :
 خيرا إن شاء الله ؟
ضحك الأب و أشار لثوب ريم المتسخ و قال :
 خير حتى انسكاب الحساء خير ••
و تمتمت الأم :
 طبعا خير ما دامت هي لا تغسل الثياب فما الذي يهمها ••
أشاح الأب بيده و قال :
 يا أم ريم دعيها ، اليوم تحديدا لها أن تفعل ما تريد ••
تعمق السؤال في عيون ريم و تطلعت إلى أبيها تحاول أن تقرأ ما يخفيه و سألت نفسها :
 هل هو عريس ؟
قال الأب :
 ما اخرني عن الحضور اليوم إلا مقابلة غير متوقعة مع جارنا الأستاذ سعيد ••
استغرقت الأم وقتا لتتذكر من سعيد فيما عرفته ريم فورا و لم تخف تعجبها الذي لم يطل فقد قال الأب :

 قرب منزلنا وجدته واقفا و كأنه كان بانتظاري ، سلم علي بحرارة رغم أننا بالكاد نعرف بعضنا ، فهو لم يسكن في الجوار إلا منذ سنة تقريبا و الحياة تلاهي ••
شيء ما في نفس ريم كان يستحث الأب على سرعة إتمام الحديث الهام و البعد عن التفاصيل الصغيرة التي لا معنى لها ، لكنها لم تبده و رفعت ملعــقتها إلى فمهــا مجددا و هي تسأل بلا مبالاة مصطنعة :
 ماذا كان يريد ؟
و سبقت الأم بالكلام قائلة :
 إياك أن تقول أنه يريد الزواج منها ، هذا الشاب اللاهي ••
هز الاب رأسه مبتسما و قال :
 لا يا أم قاسم ، لم يكن هذا محور حديثنا ، اتركيني لأكمل ، لقد رحب بي بحرارة متعجبا من عدم معرفتنا ببعضنا البعض طيلة هذه السنة و ذكر شيئا كثيرا عن إعجابه بي و بكفاحي في الحياة ، كنا نسير معا و وجدت نفسي فجأة أمام باب بيته لا بيتي فدعاني للدخول و شدد في دعوته فلم أملك إلا الاستجابة ••
ـ آه هذا اللاهي ماذا يريد منك ، هل يريد جرك الى طريقه ، لا تنس ذكرت قبل قليل انك صغير و تريد الزواج من اخرى ••
هذه المرة تكلمت ريم ووجهت حديثها لأمها :
 أمي بالله عليك دعينا نعرف ماذا يريد هذا السعيد من أبي و ما علاقتي بالموضوع ، ماذا هناك يا أبي ؟
ترك الأب ملعقته و نهض قائلا :
 الحمد لله ، الشاي يا ريم و تعالي سأحكي لك كل شيء ••
مرت الدقائق التالية بصعوبة على ريم التي كانت تصنع كل شيء بآلية و كأنها مسيرة من أجل الانتهاء بسرعة ، رفعت الطعام ، غسلت الأواني ، أعدت الشاي و عندما جاءت به إلى حيث يجلس الجميع ، كانت قد خطرت في بالها الفكرة ، قالت و هي تضع الصينية :
 أبي هل للأمر علاقة بإكمال دراستي ؟
ابتسم الاب و هو يأخذ كوب الشاي و هز رأسه قائلا :
 هذا صحيح يا ريم ، لقد سألني الاستاذ سعيد عنكم جميعا و عرف أنك منذ عام تجلسين في البيت لأننا لا نستطيع تأمين مقعد لك في الجامعة ، و بالصدفة هو يعرف مسئولا كبيرا يعمل في الجامعة مدرسا ••

 تقصد أستاذ يا أبي ••

 نعم يا قاسم هذا ما قاله ، أستاذ في الجامعة ، و قال أنه سيسأله عن إمكانية التحاق ريم بالجامعة خاصة بعد أن عرف أنها كانت من المتفوقين دراسيا و أن مجموعها كان كبيرا جدا في الثانوية العامة و أخيرا فقد أخبرته عن أنك تتقنين الرسم و تتمنين الالتحاق بقسم الرسم في الجامعة ••
 الفنون التشكيلية يا أبي ••
 نعم بالضبط الفنون التشكيلية ، و لكـــن يا ريم هـــــل من الفنـــون التشكيلية الرقص أو الغناء أو أي شيء من هذه الفضائح ؟
هزت رأسها بسرعة مؤكدة :
 لا •• لا و الله يا أبي ، أنها كلية تدرس فقط فنون الرسم و النحت و لا علاقة لها بفن السينما و المسرح و الغناء ••
كانت الأم تستمع و لم تشارك في الحديث ، لذا عندما نظر إليها الأب سائلا إياها عن رأيها تنهدت و قالت :
 إنه حلم حياتي كما تعلم ، أن يتعلم أولادنا أحسن تعليم ، و لكن يا أبا قاسم لقد نسيت شيئا هاما جدا ••
نظرت ريم الى أمها و كأنها ترجوها ألا تفسد الخبر الجميل ، فنظرت إليها الأم و قالت بحنان بالغ :

 المصاريف •• مصاريف الدراسة الجامعية فوق قدرتنا يا أبا العيال ، كيف لم تفكر في هذا ؟
ران صمت طويل على الجميع ، كان الأب خلاله ينفث دخان سيجارته ، و يرشف من كوب الشاي و يفكر ، فيما تطلعت ريم الى أبيها برجاء ، ثم باشفاق ، و في الدقيقة التالية كانت قد مسحت فكرة دخول الجامعة من خيالها و همست الأم :
 لا يقدر على القدرة إلا الله ••
نهضت ريم و حملت الأكواب الفــارغة و هي مطــرقة و اتجــهت الى المطبخ ، تنحنح قاسم و قال :
 أبي ، لو أذنت لي •• التعليم الجامعي هو حلم ريم و هي بالفعل إنسانة موهوبة و ربما في المستقبل يكون لها شأن كبير ، فلماذا نجعل من المصاريف عائقا و هو أمر قد يرهقنا إلا أنه غير مستحيل ، و أنا قد كبرت و أستطيع مساعدتك فترة بعد العصر إلى العشاء ، ألم تكن تعمل و أنت في سني بل أصغر ؟
شهقت الأم و قالت :
 و الدراسة ؟
رد عليها قاسم قائلا :
 لن تتأثر كثيرا ، أستطيع تنظيم وقتي ••
هز الأب رأسه و قال :
 لمن لا وطن له و لا أملاك تعينه ليس بعد الله الا العلم يا قاسم ، و لن أسمح لشيء أن يؤخرك عن دراستك ، و إلا يا بني أكون قد أضعت عمري هباء ، فلن أترك لكم عندما أموت مالا ، لكنني أكون على الاقل مطمئنا أنكم على الطريق الصحيح ••
هزت الأم رأسها موافقة و تمتمت :
 أطال الله عمرك يا أبا العيال ، و لا حرمنا الله منك ، تعيش إن شاء الله حتى ترى أولادك و هم متزوجون و تلاعب أحفادك و تراهم بدورهم كبارا متزوجين و ••
قاطعها الأب قائلا :
 كفى •• كفى لقد أوصلتني إلى المائة أو يزيد بدعائك هذا •• ما يهمني أن يطيل الله في عمري حتى أكمل رسالتي و بعد ذلك لا يهم •• هيا ، اذهب يا قاسم لتستريح و من ثم تذاكر دروسك ، أريدك دائما الاول ••
تابعه بعينيه و هو يمضي إلى غرفته و قال :
 حماه الله •• رجل صغير ••
كانت ريم تستمع إلى الحديث بجوار المطبخ يراودها الأمل تارة و يموت أخرى و عند هذا الحد منه اتجهت إلى غرفتها و هي تبتسم ممتنة لأخيها ، و تذكرت حلم الليلة الماضية ، الظمـــأ و السراب و الســحابــة التي لا تســتطيـــع أن تشرب منــهــا رغـــم أنها تعتــليها و تساءلت :
 ترى هل هذا هو تفسير الحلم ، أم أن ما يخبأه لها القدر من العطش أكثر بكثير مما ترى أو تتوقع ؟

منذ أن ألقت ريم كلمتها الغاضبة إلى سعيد و شيء ما انبش مخالبه في صدره ، زحف جيش مجهول الهوية و استوطن مكانا ظل خاليا في جوفه :

 قالتها و مضت ، و كأنها طيف أو حلم ••
من هذه الفتاة ، و كيف لم يلاحظها منذ سكن الشارع رغم أنها جارته ، من أين واتتها القوة لتقول رأيها بصراحة في الوقت الذي استغرق الامر من زوجته عمرا و ثلاثة اطفال كي تنطقها •• ماذا تعرف هذه الصغيرة الجريئة عنه ، ماذا كانت تخبرها مريم و كيف كانت تنظر إليه ، هل تحتقره في قرارة نفسها ••
اسئلة كثيرة حرمت عليه النوم ذلك اليوم ، و قرر أن يعرفها أكثر ، قال أنها بكل تأكيد مثل كل النساء و لكن تنقصها الخبرة و وعد نفسه أن تستقي هذه المخلوقة خبرتها على يده ، اسعده كثيرا أن اكتشف أن نافذة في منزلهم تطل على شرفته المهجورة ، قام ففتح الشرفة و رتبها و أزال منها غبارا كثيرا ، ثم وضع فيها كرسيا و طاولة و قرر أن تكون جلسته الدائمة في هذا المكان في حالة كانت الغرفة لها ، و ابتسم و هو يقول لنفسه :

 اللعبة القديمة ، ابن الجيران و ابنة الجيران ، كبرت قليلا عليها و ربما جاءت متأخرة لكنها جاءت على أية حال ، و لن تضيع الفرصة ••

كان هذا ما يقوله بصخب لسانه ، أما ما استقر في نفسه فكان مختلفا بعض الشيء ، كان هناك ما يربطه بهذه المخلوقة ، ليس جمالها فلقد عرف من هن أجمل منها عشرات المرات ، و لا لسانها الطويل الذي فاجأه برأي من غريبة ذات ظهر أحد الايام ، أنه شيء ما في عينيها ، نظرات بريئة ، مفعمة بالتحدي و بالحزن ، بل و بالضحك أيضا ••

 كل هذا كان في نظراتها ؟!! يا لك من مغفل كبير •• هي فريسة و أنت الصياد و أنت صياد ماهر •• هذا كل ما في الأمر ••

و عندما جلس ذلك المساء في شرفته للمرة الاولى يحتسي الشاي ، كانت نظراته مصوبة على النافذة ، و أمنية تجوس في خاطره أن تكون الغرفة لهـــا ، كانت الغـــرفة مظــلمة ، و كان القمر بدرا ، لأول مرة يلاحظ القمر ، عادة في مثل هذا الوقت لا يكون في مكان مفتوح يطل عليه القمر ، إنه يكون في مكان مغلق ، مغلق حتى الاختناق يمارس لعبته الدائمة في خداع الفرائس الخبيثة ، الفرائس التي تريد الخداع و تطلبه ، هذه هي المرة الاولى التي يطالع فيها القمر وجها لوجه ، ترى هل اكتمل متعمدا اليوم ، أم أن القمر يسير في دورته الاعتيادية غير آبه بمريديه زادوا واحدا أو نقصوا عشرة ، المهم أنه ما زال متربعا في السماء يلعب دور قديم متجدد ، لم يمله منذ بدء الخليقة :

- سبحان الله ، كيف لم ألاحظك أيها القمر من قبل ؟ لماذا تحمل ملامحك وجه إنسان غاضب ، هل أنت غاضب مني أنا تحديدا أم من كل البشر ••هل تعرفها أيها القمر •• ما اسمها •• هل هي صديقتك ، أم أنها بدورها لا تعرفك •• ؟

لاحظ الضوء ينبعث من خصاص النافذة ، أمعن النظر عله يرى خيالها لكن النافذة كانت ساترا قويا دون عيونه ، عاد يرشف من كوبه و يطيل النظر إلى النافذة يستجديها أملا ، أو خيالا •• ثم توجه إلى القمر و همس :
 إذا كانت صديقتك فأرسل في طلبها ، أرني مقدار حظوتك عندها أن استطعت ••!!
و كأنما استجاب القمر للتحدي فأرسل شعاعا منه إلى النافذة المغلقة و انتظر ، بعد قليل فتحت ريم النافذة ، أطلت منها فورا إلى القمر ، نفخ سعيد الهواء و نظر للقمر مبتسما و قال :
 إيه أيها القمر لقد نجحت ••!!
راقبها و هي تطالع القمر ، لاحظ على البعد تقطيبة حزن و هي تمعن النظر إليه ، شعر بها و إن لم يستبنها ••و ظل مركزا نظره عليها علها تراه ، و بالفعل نظرت ريم باتجاهه ، و لكنه هذه المرة سمع زمجرة غضب حملها النسيم إليــه رغم أن المسافة ليســت قصيرة و أصابه الذهول حين ردت على ابتسامته الساحرة باغلاق النافذة بقوة و كأنها تصفعه ••
 للمرة الثانية تتعمد هذه المخلوقة الصغيرة تقليم أظافرك و إدارة رأسك •• لا يا سعيد يجب أن يكون هناك حل •• و بسرعة ••
بعد تفكير عميق قرر أن يعرف عنها كل شيء ، راقب المنزل ، عرف أباها و أخاها و حتى أختها الصغيرة تمرح مع الصغار أمام الباب و عندما عرف ميعاد عودة الأب اليومي من العمل كان بانتتظاره عازما على معرفة كل شيء ، و قد كان له ما أراد ، عندما ألح على أبيها بدخول منزله تعمد ألا يرى الغرفة التي تطل بشرفتها على نافذة ابنته ، و جاذبه أطراف الحديث و عرف ما أراد ، و لدهشته وجد نفسه مدفوعا للكذب ، قال أنه يعرف أستاذا في الجامعة و يستطيع إلحاق ريم فيها •• كان اسمها يعجبه ، استزاده و كان الأب مستـــعدا للمزيـــد ، بدا متلــهفــا على تعليــم أولاده ، تمسك بالأمل و عــرض عليه حــالتها و موهبتها و أخبره كثيرا عن لوحاتها الجميلة ، و تطور الكذب و قال سعيد :
 لا تخف يا عم جهاد سوف تلتحق ريم بكلية الفنون الجميلة ، هذا وعد ••
عندما غادره الأب ، طالع وجهه في المرآه ، صاح :
 كاذب ••
***
فتحت ريم نافذتها و استقبلت بعض النسمات الصيفية مع الشمس و هي تلملم شعاعاتها لترحل ، كان لون الشفق يريح أعصابها ، و تحبه كثيرا رغم أنه يعني الوداع ، وصفته ذات مرة لصديقتها سوسن قائلة :
 عندما يصبغ الشفق الأفق بالحمرة يغلبني يقين بأنني أمام عيون بكت حتى الإحمرار على الفراق ••
و يومها علقت سوسن قائلة :
 دائما الفراق يا ريم ، لماذا يغلب عليك الشعور بالفراق رغم استقرارك و تمتعك بعائلة يحسدك عليها الجميع في التفاهم و الترابط ؟
همست ريم قائلة و هي مطرقة :
 لأن الفراق يكون أقسى عندما نحب من نفارق و ما نفارق ••
و تنهدت و أكمل شيء داخلها ••
 الوطن •• الانتماء •• هل تشعرين ؟
لا •• لا يمكن لمن يعيش في وطنه أن يعرف يقينا معنى و قيمة أنه ينتمي له ، كيف يمكن لمن يصحو مطمئنا أن يشعر بالخوف من مستقبل غامض ككهف أسود فاغر فاه على المجهول ، لا •• لن تستطيعي يا سوسن أن تعرفي و لن يستطيع أحد أن يعرف ، حتى أهلونا هناك لن يعرفوا ، سنظل دائما في نظر الكل أولئك الذين هربوا من المواجهة مع الموت ليعيشوا ، سنظل دائما في عيون الآخرين النقطة في آخر سطر عذاب يعيشه الآخرون •• لن يشعر بالمعذبين في بوتقة اللجوء إلا من عاشه ، فهل عشته يا سوسن ، حتى أنت يا سعيد هل عشت اللجوء يوما ؟ ، لو أنك عشته ما وجدت فراق زوجتك و أولادك هينا ، ما وجدت الانفصام سهلا ، لكنك في بلدك ، الكل أهلك ، الجميع ناسك ، فلم تخاف من فراق إرادي ؟ ما زلت رغم الفراق تملك أن تجلس باستكانة على كرسيك الهزاز في شرفة منزلك تغازل القمر و تبتسم ، أي اطمئنان يعيشه من له وطن ••
تطلعت في وقفتها طويلا إلى شرفته الخالية و تساءلت :
 هل حقا بمقدورك المساعدة أيها الرجل اللاهي ، هل حقا يمكنك أن تقدم عونا ؟ و لم لا•• أنت في وطنك و بامكانك أن تفعل ، كما أنك جريء ، جريء جدا ، لقد استطعت في مقابلة واحدة مع أبي أن تعرف كل شيء •• و لكن عرضك مرفوض •• لن نستطيع أن نقبله ، فهناك دائما المال ، الحاجز الذي لا يقهر ، اللجوء الآخر ، الأمنيات الصعبة ، الأحلام المستحيلة و •• نعم و العطش ، الظمأ الشديد رغم سحابة الماء ، سأظل دوما ظمأى هذا قدري ، و لن تستطيع تغييره ••
أغلقت نافذتها و توجهت إلى حامل لوحاتها رفعت الغطاء فبدا شكل البئر و الشجرة تدب أغصانها فيه موحشا ، مرعبا ، مخيفا ، حتى الصبي الذي يتطلع إليه كان غريبا ، عضت على شفتها السفلى و همست :
 كيف رسمت هذا المنظر الفظيع ؟
كان كل شيء أمامها في هذا اليوم يفقد قيمته ، شعرت للحظة أنها عاجزة ، أنها مبتورة الساقين و اليدين ، أنها تريد أن تصرخ لولا لسانها المقطوع ، وضعت لوحا أبيض فوق لوحة البئر و خطت بالفحم خطوطا سوداء كئيبة لوجه يطحنه الظمأ ••
دخل أبوها الى الحجرة دون أن يدق الباب ، نظرت إليه بعيون مغرورقة و لم تتكلم ، اقترب و نظر في لوحتها و هز رأسه رافضا لما فيها •• قال:
 أنت غاضبة يا ريم •• هل خيبت أملك يا ابنتي ؟
نظرت اليه ريم و حاولت الكلام إلا أن غصة منعتها و شرقت بدموعها ، فاقترب منها أبوها جدا و أخذ رأسها بين يديه ووسده كتفه ، قال :
 لا تبكي يا صغيرتي •• عندما تكون المشكلة نقودا ، فلا مشكلة ، مازال أبوك قويا ، قادرا على العمل و العطاء ، و إذا صدق الأستاذ سعيد في وعده فإنني سوف ألحقك بالجامعة ••
رفعت ريم وجهها و مسحت دموعها بباطن كفها و ضحكت و هي تقول بحروف متعثرة :
 لا يا أغلى أب ، لا أريد الجامعة ، و لا أريدك أن ترهق نفسك أكثر من أجلي •• صدقني لن أكون سعيدة و أنا أحقق أحلامي على أنقاض صحتك ، يكفيك ما عانيت حتى وصلنا إلى ما نحن فيه ، لا أريد المزيد ••
أمسك وجهها بين يديه و قال لدموعها النازفة :
 أقسم بالله العظيم أن أمسح هذه الدموع و لو كلفني هذا عمري •• أنتم كنزي أيتها الفتاة الرهيفة و أنتم وطني الذي تركته مخيرا قبل عشرين عاما و لن أسمح لهذا الوطن الصغير أن يضيع مني بدوره ••
 و لكن يا أبي ؟
وضع الأب أصبعه على فمها ليمنعها من إكمال أعتراضها و أمسك لوح الرسم الحزين ، رفعه و وضعه جانبا و عندما نظر إلى لوحة البئر تحته ، وقف واجما و ريم تراقبه •• مرر أصابعه على حافة البئر ببطء و لمس غصون النخلة السامقة •• قال :
 هل يمكن أن أحتفظ بهذه اللوحة ؟
قالت ريم :
 لكنها لم تكتمل يا أبي ، كما أنها بشعة جدا ••
 لكنني أريدها ••
همست ريم :
 كنت أريد تقديمها لك عندما أكملها ، لكنني فجأة زهدت فيها و شعرت أنني لا أريد إكمالها ••
ابتسم الأب و هو يرفعها و قال :
 لو اكتملت لخالفت الحقيقة ، إن نقصانها هو كمالها أيتها الفنانة الصغيرة ••
راقبت ريم والدها و هو يغادر الغرفة حاملا اللوحة بين يديه ، همست :
 صدقت ••
***
في طريقها إلى منزل سوسن كان لابد لريم أن تقطع المسافة بين بيتها و بيت سعيد أولا قبل أن تنعطف يمينا لتسير باتجاه بيت سوسن الذي لا يبعد كثيرا عن منزلها ، عشر دقائق سيرا على الأقدام ، و عندما اجتازت واجهة بيت سعيد و بدأت طريقها إلى سوسن وجدته فجأة أمامها •• كان سيد أخو سوسن ، اعتراها ارتباك و لم تدر إذا كان من اللياقة أن تحيه أو من الأدب أن تتركه دون كلام ، لكنه كان أسرع في أخذ المبادرة إذ حياها قائلا :
 آنسة ريم ، كيف حالك ؟
همست :
 الحمد لله
 متجهة إلى بيتنا ؟
أومأت برأسها أن نعم ••
 هذا جيد ، ساذهب في مشوار صغير و عندما أعود آمل أن أجدك هناك فلدي ما أقوله لك ••
أسرعت في مشيتها بدون رد و عندما اقتربت من منزل سوسن وقفت برهة مترددة هل تطرق الباب أم تنسحب قبل مجيء الاستاذ سيد ثقـــيل الدم •• و أخــيرا حزمت أمــــرها و أقفلت عائدة ، لكنها و للمرة الثانية في أقل من عشر دقائق تجد من يستوقفها و هذه المرة كان سعيد الذي بادرها :
 آنسة ريم ••
نظرت إليه مندهشة ، ثم تذكرت أن أباها أعطاه اسمها قالت :
 نعم
 رأيتك تسيرين حتى نهاية الشارع ثم تعودين ، هل هي رياضة ؟
تطلعت إليه بحنق و همت أن تجيب ، إلا أنها آثرت عدم الكلام ، هزت رأسها و سارت في طريقها ، ظل واقفا في مكانه يراقبها تسير و قال و هي تكاد تختفي في انعطافة منزلها :
 يا لك من طفلة ••
عندما وصلت ريم إلى منزلها أجابت أمها قبل أن تسأل :
 سوسن ليست هناك ••
نظرت إليها الأم و قالت :
 و هل في عدم وجودها ما يستدعي هذا الغضب في عيونك ؟ ما بك ؟
نظرت ريم إليها و قررت أن تقول :
 في طريق الذهاب وجدت فجأة أمامي سيد ، قال أنه يريد محادثتي و لا أعرف ما الذي يريده ••
و قبل أن تعلق الأم أكملت و كأنها ترمي حملا أثقلها :
 و في طريق العودة وجدت أيضا فجأة أمامي الاستاذ سعيد ، جارنا اللاهي ، أعتقد أنه خفيف الدم و سألني إن كنت أجوب الشارع على سبيل الرياضة ••
و للمرة الثانية همت الأم أن تعلق إلا أن ريم عاجلتها و هي تلقي بنفسها غضبا على أريكة الصالة :
 ثم وصفني بصوت عال بأنني طفلة ، أعتقد أن كل من في الشارع سمعه ••
تطلعت الأم إلى ريم ، مقطبة ، إلا أنها فجأة وجدت نفسها تبتسم و قالت و هي تمعن النظر فيها :
 كبرت و الله يا ريم ••
نظرت إليها ريم و قالت بغيظ :
 هذا ما لا يعرفه الأستاذ سعيد ••
ضحكت الأم و قالت :
 بل ربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه الأستاذ سعيد يا ريم
توجهت ريم بنظراتها المتسائلة لأمها التي أكملت :
 مثل هذا الرجل يعرف تماما متى تكون الثمرة ناضجة ، و يعرف إن كانت حلوة أم مرة و يعرف أخيرا متى و كيف يجب أن تؤكل ••
 ماذا تقصدين ؟
تنهدت الأم و قالت :
 أقصد حماك الله من هذا الأستاذ و أشباهه ووقاك شر أولاد الحرام ، لقد بدأ سعيد يلعب لعبته و اختارك أنت هذه المرة فكوني حذرة ••
 لكنه تحدث مع أبي و كان الحديث عابرا ، و عرض المساعدة ••
 هذه البداية يا بنت أبيك ، احذري و اخبريني دوما بكل شيء و الله يرعاك ••
 هل أقول لأبي ؟
 لا يفهم الرجال هذه الأمور و لا يستطيعون استيعابها و خاصة عندما يظل الأب على اعتقاده أن ريم ابنة الثمانية عشر عاما ما زالت في مثل عمر سمر •• أبوك لن يصدق ، لكنه سيقلق و لاأريده أن يقلق ، يكفيه قلق ••فهمت يا حبيبتي ؟
هزت ريم رأسها :
 فهمت ••
***
كانت سوسن في حجرتها عندما طرق عليها أخوها الباب و دخل ، تلفت حوله و سألها مباشرة عن ريم :
 غادرت مبكرا ، أنا لم اتأخر ••
رفعت رأسها عن كتابها و سألته بدورها :
 عمن تتحدث ؟
 ريم
ضحكت سوسن و أغلقت الكتاب و قالت :
 هيه •• بدأنا نتخيل ، هو العشق إذن يا أخي الكبير العاقل ••
 أي تخيل يا سوسن ، لقــد قابلت ريم في طريقها إلى هنا و طلبت منها انتظاري ، فلم رحلت باكرا ؟
 ريم لم تأت أصــلا ، رغم أنهــا كانت قد وعدتني بزيارة الـيوم ، آه إذن هي لم تأت بسببك ••
 بسببي أنا ؟
 نعم •• ريم خجول للغاية و مجرد مخاطبتك لها في الشارع أثار حفيظتها ، و لا استغرب تصرفها ••
ابتسم سيد بارتياح و قال :
 هذا هو النمط الذي أريد •• ريم فتاة خام و هي ما يتمناه كل شاب ••
قالت سوسن :
 و لكن ماذا عنها هي يا سيد ، إن ريم لا تحب الحديث حولك ، و كم حاولت أن أنقل لها انطباعاتك و مشاعرك فكانت دائما تصدني و ترفض مجرد الكلام ••
 خجل العذارى ••
 ليس مع صديقتها ، إنني أعرف عنها كل شيء و لا مكان للمواربة بيننا ، علاقتنا منذ الطفولة كما تعلم و ريم حازمة في مثل هذه الأمور ، كل ما يعنيها الرسم و لا شيء غير الرسم ••
 عادة غبية ينبغي أن تتركها عندما نتزوج ••
نظرت إليه سوسن ممتعضة ، غادر الغرفة و قالت هي :
 هذا إذا تزوجتها ••


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى