الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
رواية للكاتبة سحر الرملاوي
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ حلقة 3 من 18

كان سيد نموذجا لشباب فقد رغبته في الجديد ، كان قديم المشاعر و التفكير و الأخلاق ، يزن الناس بمقدار ما لديهم من هذا القديم ، يعتبر كل جـــديد انحلال و تفـــسخ عن القــيم و الأخلاق ، و في سبيل تكريس هذه الحقائق جار على الابتسام حتى نسيه و تعلم أن البنت وسيلة إنجاب و تكوين أسرة ، ينبغي ألا يكون لها في الحياة رأي أو موقف ، و كان يعتقد أن تعليم الفتاة ينبغي أن يتوقف عند الثانوية العامة ، لذا فقد فرض على أخته حياة البيت بعدها مباشرة ، و لما كان هو ولي امرها بعد وفاة والدها فقد رضخت لأمره و لم تكمل تعليمها ، شجع سيد منذ البداية العلاقة بين أخته و بين ريم ، في الوقت الذي وقف فيه بالمرصاد لأية علاقة أخرى مع صديقات أخريات ، كان يعرف العم جهاد و يقدره كثيرا و يرى فيه النموذج الحقيقي للرجل ، يكدح من أجل أسرته و زوجته في المنزل تسهر على رعايته و إنجاب الأطفال له ، و بلغ تقديره له كل مبلغ عندما وجده أجلس ريم بعد الثانوية العامة كما فعل هو مع اخته و بهذا اتفقت الميول و صار زواجه من ريم مسألة وقت ، لا يقف أمامها رفض ريم أو ممانعة والدها :

 و كيف يرفض و أنا معلم محترم ، لي راتب و بيت و شخصية قيادية يلمسها الجميع ••
وأد في نفسه ميلا إلى الشعر لمسه لديه معلم اللغة العربية عندما كان طالبا ، أعتبر أن الشعر مضيعة للوقت و سبب في مياعة الشباب و تأخر رجولتهم لذا فقد كان حازما مع نفسه ، مزق كل أشعار المراهقة و ترك للأيام قيادته وفق التقسيم التقليدي ، دراسة فعمل فزواج •• لكنه بعد أن رأى ريم و قد صارت عروسا جميلة عاوده حنين قديم للشعر ، و عندما أسهده التفكير فيها ذات ليلة ، ضبط نفسه متلبسا بالشعر ، و كانت الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل و قصيدة متينة مستقرة بين يديه تطلب إليه أن يهديها لصاحبتها •• لكنه عاد فهزأ من نفسه و طوى القصيدة و ألقــاها بلا اهتــمام في درج مكتبه ••

***
خلال سني عمله في مصر ، و بعد زواجه من سميحة عمل جهاد في مجال البناء و شيئا فشيئا تعلم أن يقتحم مجالات أخرى تتعلق به ، فأصبح بامكانه أن يقوم بالطلاء و برع أيضا في أمور السباكة و الكهرباء و حتى النجارة إذا لزم الأمر ، و اكتسب ثقة كل من عمل معهم لذا لم تتوقف أعماله يوما و كان يعتبر أن هذا رزق تعليم و رعاية الأولاد ، فلم يكن يبخل عليهم بكل قرش يجنيه من كده ، و كان لتدبير سميجة زوجته أبلغ الأثر في سير الحياة وفق ما تمنــوا و رغبوا ، فعلى قـــدر أحلامــهم الصــغيرة كانت أيضا أهدافهم و سيرتهم في الحياة ، و لكن بعد أن لاح أمل الجامعة مجددا في أفق حياتهم أصبح هذا الأمر هو الشغل الشاغل لدى العم جهاد ، كان لابد من وسيلة يحقق بها حلم ابنته و من بعدها ابنه ثم ابنته الأخرى ، و بهذه الطريقة لا يمكن ••!!
كان يتأمل لوحة البئر التي أخذها من ريم و آلاف الافكار تتصارع في رأسه ، تصب كلها في السؤال اليتيم :
 من أين ؟
كانت أم ريم تنظر إليه منذ فترة بدون أن يشعر ، كانت تعرف تماما ما يدور في خلده ، كانت مدركة أن الفكرة لم تغادر رأسه منذ زرعها سعيد فيه و هي تعرف جهاد عشرة العمر جيدا •• أخيرا تنهدت لتنبهه و قالت :
 وحد الله يا رجل ••
تطلع إليها و تنهد بدوره و قال :
 لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله
 عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم •• ما بك يا أبا العيال ؟
 ريم يجب أن تدخل الجامعة ••
و قبل أن تتكلم حذرها :
 و لا تقولي من أين ، الرزاق موجود ••
 و نعم بالله ، و لكن حقا ، حقا من أين ؟
 أفكر في أمر و لا أدري إذا كان ممكنا أو لا ••
 لا تقلها ••
 يجب يا أم العيال ، آن الآوان لتنفيذها ، أجلناها كثيرا و لكن آن الآوان
 تريد أن تسافر و تتركنا ؟
 قاسم صار رجلا يعتمد عليه ، و الغربة لن تطول ••
صمتا كلاهما بعد هذه العبارة ، كان كلاهما يفكر في نفس الأمر :" الغربة لن تطول عبارة حدثته بها نفسه قبل عشرين عاما حين غادر غزة و ها هي طالت و طالت حتى صارت عمرا ، فلماذا لن تطول بدورها غربة الكفاح من أجل تعليم الأولاد؟ "
همست :
 لا أحتمل الفراق ••
قال :
 سنين قليلة ، اجمع فيها بعض النقود و اعود و ربما تمكنا حتى من بناء بيت خاص لنا بدلا عن هذا المنزل ذي الأجرة القديمة و الذي يراودني صاحبه عنه منذ فترة •• أنت تعلمين كل شيء يا سميحة ، فلماذا تمانعين ؟

 لا •• لا يا أبا قاسم • لا •• لقد كبرنا على غربة تفرقنا ، لن أطيق الفراق بعد أن صرت أنت كل حياتي ، لن أطيق أن أعيش مع الأبناء ، أقاسي الأمرين بدونك ، و أنت هناك في بلاد الله خلق الله تكافح و تعود آخر النهار فلا تجد من تمسح عرقك و تشد أزرك ، هذا فوق احتمالي يا جهاد فوق احتمالي ••
 لكن الأولاد بحاجة للمزيد ••
 بل يممكننا الاستغناء عن هذا المزيد ، يمكنــنا أن نرضى بما قسمه الله لنا و نكمل حياتنا ••
 نحو أي اتجاه يا أم العيال ؟ تمضي حياتنا نحو أي اتجاه ؟ نعلمهم حتى الثانوية ثم نتركهم يصارعون فقرا و قلة وظائف و لجوء ، ما الذي فعلته إذن •• ما هي الثمرة التي رويتها بسنين غربتي و لجوئي •• ماذا سيقول أولادي بعد موتي ، هل سيترحمون علي ، ام سيقولون سامحه الله تركنا ريش في مهب الريح •• نحن فلسطنيون يا أم قاسم ، هل تدركين معنى هذه الجنسية علينا ، فلسطيني لا أرض تقبله و لا مكان يرحب به ، يعيش حياته مشتتا بين أمل كاذب و سياسة فاضحة و كفاح مسلح استمر سنينا و حصد أذكى الأرواح و لم يسفر عن شيء •• هل تفهمين قصدي ؟
 و من غيري يمكنها ذلك يا أبا العيال ، من غيري بوسعها أن تعصر سنين العمر الماضية و تقدمها دماءً في عروق الصغار ، من غيري يا أبا قاسم ، و لكن ، الفراق ؟
 حتى حين ••
 و الأولاد ؟
 سيفهمون و سيعينونك ••
 و الوحدة ؟
 سأرسل لك كل يوم خطاب ••
 و السفر؟
 سيكون في أسرع وقت •• إن شاء الله
***
كان سعيد يداري نفسه بعدما لمح العم جهاد في الطريق ، خشى أن يسأله عن الأمل الكاذب الذي زرعه برعونة في حياته و كان أخشى ما يخشاه أن يعيد العم جهاد عليه الحوار الذي دار بينهما البارحة ، عندما كان عائدا من عمله فإذا بالعم جهاد ينتظره و يلح عليه أن يدخل بيته ليتحدثا ، كانت المرة الاولى التي يدخل فيها هذا البيت ، تمنى رؤية ريم و لكن الأب فتح له غرفة الصالون و استأذنه دقيقة عاد بعدها يحمل صينية الشاي ، قدم له كوبه و هو يقول :
 أستاذ سعيد •• تفضل •• أرجو ألا أكون قد فوت عليك عمل ما في هذه الظهيرة ••
 لا لا أبدا يا عم جهاد ••
 اسمع يا بني منذ أن تفضلت و قلت أنه بامكانك الحاق ريم بالجامعة و أنا أفكر مع أم العيال في الطريقة التي نجمع بها المال من أجل هذا الهدف الذي نحلم به ••
وضع سعيد كوب الشاي و هم بالكلام ، لكن العم جهاد كان متحمسا لإكمال ما يريد قوله فأكمل :
 و بعد تفكير قررت أن السفر هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنني من خلالها تحقيق هذا الحلم لأولادي تباعا
 و لكن يا عم جهاد ••
 و لكن يا بني أنا أريد أن أعرف الآن ماذا تم بهذا الخصوص ، فلدي فرصة للسفر الى السعودية بعد شهرين من الآن صديقي الحاج محمود وفرها لي مشكورا ، سأعمل هناك في البناء أيضا براتب كبير ، حوالي ألف جنيه ، هكذا قال لي الحج محمود ، و أنا أريد منك تأكيدا ••
 نعم يا عم جهاد و لكن ••
 يا بني الجامعة حلم ريم الدائم ، و أنا لا أريد أن أثقل علــيك ، فقط أجبني هل هو ممكن ام لا ؟
ترك سعيدا كوبه و نهض قائلا :
 في أقـــرب فرصـــة سأخبرك بكــل شيء ، لقد ســرت بعــض الخطوات في هذا الموضوع و عندما أنتهي سوف أخبرك بكل شيء
 بارك الله فيك يا بني ، بارك الله فيك ، اجلس نتغدى سويا ••
لكن سعيد لم يجلس ، لقد خرج مسرعا و كأنه كان في الجحيم ، لمح ريم و هو يغلق الباب خلفه ، لمح عيونها ، تلك العيــون التي حيـــرته كثيرا منــذ اللحظة الأولى ، رأى فيها أملا و رجاء و اعتماد •• خرج مســـرعا لا يلـــوي على شيء فتح باب منزله و نظر لمــرآة الباب و صاح بغضب :
 كاذب ، كاذب ••
***
نزل خبر سفر الأب المزمع على رأس ريم كالصاعقة ، رفضته منذ اللحظة الاولى ، توسلت إليه ألا يفعل ، قالت أنها راضية تماما بتعليمها إلى هذا الحد ، دللت على أن الأمر عادي بصديقتها سوسن ، لكن الأب اكتفى بقوله :
 سوسن مصرية و أنت فلسطينية ••
توسلت إلى أمها أن تثنيه عن قراره ، تحدثت الليالي الطوال إلى أخيها عن غول الغربة الذي سيقتحم حياتهم اذا سافر الأب في غربته الثانية ، بـــكت ، تــوسلت ، ألحت ، صــلت و دعت الله كثيرا و لكن أباها لم يستجب ، لقد قرر و انتهى ••

و عندما دخل سعيد بيتهم تلك الظهيرة مع أبيها شعرت أنها تريد أن تقتله ، وقفت على باب غرفة الصالون تستمع إلى الحديث ، بدا و كأنه حديث من طرف واحد ، أبوها فقط يتحدث و سعيد يقول "و لكن " حنقت عليه أشد الحنق ، إنه هو السبب ، ليته يستطيع أن يثنيه عن قراره ، ليته يكمل " و لكن " بحديث طويل يقنعه فيه أن غربته عن أولاده ثمنا كبيرا جدا على تعليم الأولاد ، تمنت أن يقول له أنه كان يكذب و أن الجامعة كذبة كبيرة اتخذت شكل البومة و لعبت لعبتها الأبدية في تفريق الشمل و بعثرة الأسرة ، لكنه لم يقل ، و حين خرج ، لا تدري لماذا نطقت عيونها بالتوسل بدلا عن الغضب الذي كان يغلي داخلها ، و تساءلت :

 هل فهم •• هل سيحاول •• لابد أن يفهم ، لابد أن يحاول و هي ستقنعه بذلك ••
حزمت أمرها و انتظرته في اليوم التالي بجوار منزله ، في نفس المكان حيث رآها للمرة الاولى ، عندما أقبل عليها بدا للوهلة الأولى غير مصدق ، ثم تحولت ملامحه إلى الابتسام تعبيرا عن سروره ، لكنه ما أن اصبح في مواجهتها بوجهها الحانق حتى انقلبت ملامحه رأسا على عقب ، وقف واجما و لم يعرف ماذا يقول و بادرته هي :
 أستاذ سعيد ، أريد أن أتحدث معك كلمتين لو سمحت ••
ابتسم مجددا و لكن بحذر و دعاها للكلام قالت :
 ينبغي أولا أن أشكرك على عرضك الكريم على أبي بإلحاقي بالجامعة ، لكنني أريد منك أمرا لو سمحت ••
بلع غصة قريبة و ظن أنها ستطلب منه مثلما طلب أبوها الإسراع في المجيء بالرد لذا هم بالكلام :
 لقد قلت لأبيك ••
قاطعته :
 دع عنك أبي الآن ، أنا صاحبة القضية ، و أنا من تعنيها بالمقام الاول ، و بقدر اشتياقي و رغبتي الحقيقية في الالتحاق بالجامعة ، و بقدر أمنيات أبي و رغبته العارمة في تعليمنا حتى آخر التعليم العالي ، أطلب منك أن تعدل عن خدمتك و أن تخبر أبي انك كنت تكذب عليه و لا تستطيع خدمتنا بهذا الخصوص ••
بلع ريقه و نظر إليها و الدهشة تكسو كل ملامحه ، ماذا تطلب هذه الشابة ؟•• ترجم دهشته في كلمة استنكار بدت حقيقية جدا :
 أنا كاذب ؟
تلعثمت ريم لكنها سرعان ما استعادت قوتها و قالت :
 آسفة •• لم أقصد ما قلت حرفيا و إنما اردت إبلاغك أنك بهذا الحلم الذي دخلت به حياتنا أعملت معولك في هدمها ••
أشاحت بوجهها تخفي دمعة ، ثم نظرت إليه و ملامحها تحمل رجاء و استعطاف و قالت :
 أبي سيسافر و يتركنا من أجل هذا الهدف••
شيء يشبه الزلزال تحرك داخله ، شيء ما هزه حتى الأعماق ، تمنى لو يأخذ هذه المخلوقة في حضنه و يعتصرها بين يديه ، تجاوبا مع نظرة الاستعطاف ، تمنى لو أمكنه حتى أن يمد يده فيمسح دمعتها الخجول ، صمت قليلا ثم قال :
 لكنه هدف نبيل و يستحق الكفاح ••
صاحت :
 أنت لا تفهم ، لا يمكن أن تفهم معنى غربة أبي الثانية •• أنت لن تفهم ، لن تفهم ••
لم تستطع أن تكمل ، بدأت دموعها تغلبها ، و لمح هو اللؤلؤ يتساقط بسرعة غريبة من عيونها ، كانت عيناها مفتوحة و دموعها بلا صوت لكن النشيج كان في قلبه ، و الأسى ملك عليه نفسه همس :
 اهدئي أرجوك ••
 ستخبر أبي أنك لم تسطع عمل شيء و أنني لا يمكنني الدراسة في الجامعة ؟
 سأفعل ••
 وعد ؟
 اعتبريه كذلك ••
 أشكرك ••
و مثلما حدث في اللقاء الاول في نفس المكان انسلت من أمامه كالطيف و غابت في انعطافة منزلهم و هي تحدث نفسها :
 ربما ينجح هو فيما فشلنا فيه ••

***
ذلك المساء كان مميزا جدا فقد جاء سعيد إلى منزل العم جهاد بنفسه و بدون دعوة ، طرق الباب و عندما فتح له قاسم سلم عليه كرجل راشد و سأله عن أبيه ، فأدخله قاسم الصالون و نادى أباه و أخبره عن الزائر الغريب فنهض الأب مبتسما و طلب من أم العيال أن تعد الشاي بسرعة ، كان سعيد يرتدي ملابس أنيقة صيفية ، حليق الذقن تنبعث منه رائحة ذكية ، و كان مبتسما ، سلم على العم جهاد بحرارة و جلس و بادر فورا بالكلام :

 عم جهاد ، لقد تحدثت اليوم مع الآنسة ريم بشأن تعليمها و سفرك ••
عقدت الدهشة لسان الأب و هم بالحديث فعاجله سعيد :
 لا أحب أن ألف و أدور كثيرا ، لقد وجدت الآنسة ريم بانتظاري أمام البيت في الشارع ، رجتني أن أثنيك عن عزمك على السفر و أعلنت أنها لا تريد إتمام تعليمها ، طلبت مني أن أخبرك أنني كاذب و أنني لا يمكنني إلحاقها بالجامعة لكي تتنازل عن فكرة السفر ، لذا آمل منك أن تتكرم بدعوة الآنسة ريم لنناقش الموضوع معا و بمنتهى الصراحة لنخلص إلى رأي يرضي جميع الأطراف و يريحني من عقدة ذنب أبت كريمتكم إلا أن تحملها لي ، فهل هذا ممكن ؟
كان الأب ما زال غير مصدق لما يسمع ، غير موقن أساسا أنه سمع هذه العبارات ، ابنته ريم تقابل هذا الرجل و تتحدث معه ، ماذا حدث ••؟!
أسرع الأب فنادى زوجته و ابنته ، كان يبدو عليه الغضب ، جاءت الأم و الابنة و في أثرهم قاسم و حتى سمر الصغرى جاءت ، قالت الأم بلهفة :
 ماذا حدث يا أبا قاسم ؟
قال الأب و هو ينظر إلى ريم بغضب :
 ابنتك قابلت الأستاذ و طلبت إليه أن يثنيني عن السفر •• أليس كذلك يا ابنة عمري ، أليس كذلك ؟
نهض الاستاذ سعيد بسرعة و توجه إلى الأب و هو يقول :
 اهدأ يا عم جهاد ، اهدأ و أخبرني ما الذي يضايقك •• إذا كان ما يضايقك هو مقابلة الآنسة ريم لي فقد تمت في الشارع و على مرأى كل من فيه و أنت تسعى لإلحاقها بالجامعة و هناك سوف تكلم الكثير من الرجال سواء أكانوا أساتذة أو زملاء ، ما الفرق ؟ أما إذا كان ما اغضبك هو أنها سألتني منعك من السفر فهذا لأنها خائفة من فراقك لهم و لا تريد هذه الغربة ••
جلست سميحة بجوار زوجها و ربتت عليه و هي تقول :
 نعم يا أبا قاسم ، و لقد حكت لي ريم كل شيء و لم أجد غضاضة فيما فعلت ، ابنتنا مرباة و مؤدبة و نحن نثق بها أليس كذلك يا أبا ريم ؟
تطلع الأب نحو ريم و غمامة غضب صغيرة جرداء تلوح في عيونه ، في الحقيقة كان عتابا أكثر منه غضبا ، تقدمت ريم بهدوء و نظرت إلى الأرض و هي تقول :
 أنا حقا آسفة يا أبي ، كنت أريد منعك من السفر بأية طريقة ••
 و لماذا لم تكلميني أنا ؟ لماذا لم تخبريني أنا ؟ ألست أباك و موطن أسرارك ، مصب أمنياتك و محقق أحلامك ؟ ألست هو يا ريم ، ما الذي تغير يا ابنة جهاد ، ما الذي تغير ؟
جثت ريم على ركبتيها أمام أبيها و أمسكت يديه و مالت فقبلتهما و قالت :
 و ستظل دوما واحتي و الوطن أيها الأب الحبيب ، ستظل دائما مرفئي و بيتي و بئري الذي منه أرتوي •• إنما هي محاولة رجوت لها النجاح ••
رفع الأب رأسها و تطلع اليها و قال وهو يكز على أسنانه :
 لماذا ؟ لماذا ، آلاف غيري يسافرون ، و ربما كانت أهدافهم أقل قيمة من هدفي ، إنهم يبحثون عن بيت أوسع و أرض أكبر و تجارة لا تبور ، بينما أبحث عن وسيلة أؤمن لكم بها العلم ، سلاحكم الوحيد في مواجهة الزمن من بعدي ، أنا لا أريد لنفسي شيئا ، لا أحلم بأكثر مما أنا فيه ، لكنني أريد الدنيا لكم ، الحياة الكريمة ••
رفعها من على الأرض و أجلسها بجواره و أكمل فيما الجميع يشاهد صامتا :
 أنتم كنزي يا ابنتي و سفري ليس تضحية ، إنه رسالة تكتمل و أيام تمر بسرعة إن شاء الله و أحلام تتحقق ••
شدت ريم على يد أبيها و قالت و هي تغالب دموعها :
 لكنني لا أريد لغربتك أن تصبح أكبر و لا أريد لعذابك أن يطول ، لا أريد لأمنا و لنا الوحدة بدونك ، لا أريد ، بل لا أحتمل أن أصحو ، و أنت غير موجود بيننا ، أن أحتاجك فلا أجدك ، أن أمد إليك يدي فلا تحتـــويها و تحــتــويني ، يا أبي إذا سافرت يضيع الأمان ، و إذا تركتنا حتى و إن تحققت الاحلام ستكون مجروحة ، مصبوغة بعرق الغربة و ليالي التعب و الفراق ، كيف نهنأ بها و هي من بعض دمك ، كيف ؟
تنحنح سعيد و قد غلبه التأثر فلمعت عيناه لكنه قال :
 لا أملك أمام هذا الموقف إلا أن ألغي فكرة التعليم ، أنا أقول لأبيك يا ريم كما طلبت أنني كاذب ، ليس لدي أية وسيلة أساعدكم بها ••
نهض الأب مسرعا ، أمسك يده بحرارة قال:
 لا •• لا يا أستاذ سعيد ، لا تتخذ هذا الموقف ، لا تبال بما سمعت ، إنهم صغار و أنا ذاهب و هم قادمون ، و عندما يكبرون على دنيا ليس فيها أبوهم و ليس لهم فيها ميراث يستندون عليه ، لن يكونوا سعداء بهذا المــــوقف ، و لن أكــــون راضيا عن كفاح عمري •• لا يا أستاذ سعيد ، أمض في اجراءتك و سأمضي في اجراءاتي علنا في النهاية نصل الى نقطة تتلاقى فيها الأهداف و أنطلق منها إلى تحقيقها ••
و نظر إليه متوسلا ، همس و هو ما زال يضغط على يده :
 أرجوك ••
ران صمت طويل على الجميع ، نظر سعيد إلى ريم مطولا ، كانت تنظر في الأرض تحرك قدمها فوق أشكال البساط الهندسية ، يدها منعقدة خلف ظهرها و في ملامحها تجمع ألم الدنيا ، منظر أعاد إليه الرغبة ذاتها في أن يعتصرها و يهدهد قلبها و يطمئنها على غد تخافه و مجهول تشعر أنه يتربص بها ••
لا يدري لماذا شعر أن إحساسا بالمسئولية يترسخ في ذاته تجاه هذه الأسرة ، لم تعد ريم فريسة يريد اقتناصها و لكن ضعيفة يريد حمايتها ، حزينة يريد إسعادها ، وحيدة يريد أن يملأ عليها أيامها ، نظر إليها طويلا يطبع ملامحها في وجدانه ، يكرس مشاعره نحوها ، يجمعها من شتاتها البعيد ليصبها في مجرى أيامها و عندما طال الصمت تنهد و قال :
 و الآن ماذا قررتم ؟

رفعت ريم وجهها إلى أبيها و رفع الأب وجهه إليها ، كانت الرغبات المتعارضة لأول مرة تتضافر تشكل لحمة ، وشيجة ، تؤصلها أكثر ، تغرسها في أرض لا يراها إلا هما و لا يحسها إلا أب قرر التضحية حتى آخر نفس و ابنة ترفض هذا العذاب •• و صمتا كلاهما فتكلمت الأم :
 على بركة الله يا أستاذ سعيد ، جهاد زوجي و أعرفه إذا قرر أمرا •• مخ فلسطيني عنيد •• و ليكن دعاؤنا أن يقصر الله ليالي غربتنا و يحقق أهدافنا بها ••
نهض الأب مبتسما و أمسك يدي زوجته و قال :
 بارك الله فيك يا أم العيال ، و صبرك على المـــخ الفلسطيني العنيد ، يا رفيقة الكفاح و العمر الذي مضى و العمر القادم ، إنني أعتمد عليك بعد الله كثيرا ••
انسحب الجميع من الغرفة بهدوء و ظل الأب جالسا على طرف الأريكة و سعيد واقفا ينظر إليه و سمعه يقول :
- كم أخاف عليكم يا أحبائي •• ما أقسى أيامي بدونكم ••

مال عليه الأستاذ سعيد و ربت على كتفه و قال بصدق :

 هم أهلي منذ الآن يا عم جهاد و لن يصيبهم مكروه طالما في صدري نفس يتردد ، فلا تقلق ••

***
كان الشغل الشاغل لسعيد بعد هذه الأمسية الغريبة ، أن يحقق ما وعد به الأب ، و في سبيل ذلك ذهب إلى وزارة التعليم و سأل عن الطريقة التي يمكن لفلسطينية إكمال تعليمـــها العـــالي و دهش عنـــدما عـــرف أن للفلسطنيــين نسبـــة 5% في مقاعد الدراسة و ازدادت فرحته بهذا النبأ عندما وجد أحد معارفه القدامى في الوزارة ، يرشده على طريقة التقديم و يعده أن يكون مع الورق حين يذهب إلى مكتب التنسيق بعد ثلاثة شهور ••
كانت الأمور تجري على خير ما يرام ، بل على أكثر مما توقع ، تحمل سخرية صديقه و هو يراه مهتما بهذه الفتاة و لم يصدق أن هذا الاهتمام لا يعدو كونه عملا إنسانيا في المقام الاول قال له :
 أنا أعرف ذوقك تماما و أعرف أيضا أن الفلسطنيات جميلات ، فإذا كانت هذه الفتاة على درجة الجمال التي أتوقعها فإنني لن أخذلك أبدا ، ناهيك عن أن معظم الفلسطنيين لا يتقدمون لإكمال دراستهم لقلة المعلومات عندهم و لقلة ذات اليد في أحيان كثيرة و لذا فإن مقاعد الدراسة في نسبتهم المقررة سنويا يبقى أكثر من ربعها فارغا •• فاطمئن ، حبيبة القلب ستجد مقعدا ••
همس سعيد مستبشرا :
 إن شاء الله ••
و عندما سار في اتجاه منزلهم ليخبرهم بالبشرى ، كان يحدث نفسه بأن صديقه هذا لا يفهم و لن يفهم ، ثم فجأة سأل نفسه : و ما الذي تفهمه أنت ، ما الذي يدفعك إلى كل هذا ، لماذا تفرغت للسؤال ، هل هو الخجل من أن أبدو كاذبا أمامهم ، و ماذا يعنيني في هـــذا ، يا جاري أنت في حالك و أنا في حالي •• أم هي عيونها الحزينة ؟ إذن هي الشفقة أيها الرجل ؟ •• لا ليست الشفقة ، ليس في حياتهم ما يدعو للشفقة ، لم يمدوا يدهم ليستجدوا إحسانا ، أنت من عرضت و أنت من فكرت ، و بناء على عرضك و قرارك سيسافر الأب ، هل هو الإحساس بالذنب ، لا •• فكما قال الأب كثيرون يسافرون ، و ربما كان سفره فاتحة خير عليه و عليهم ، إذن ما هو ، ما الذي يدفعك إلى كل هذا العناء ••؟
عندما اقترب من الشارع تمنى أن يراها ، ثم أنب نفسه بسرعة :
 و لماذا هي بالذات •• بعد دقائق سوف ترى الأب و تخبره أنك لم تكن كاذبا و تبشره بأن ريم ستلتحق بالجامعة إن شاء الله ، و لكن •• ليتها تفتح على الأقل الباب !!
لم يتحقق له ما تمنى و عوضا عن ذلك فتح الأب الباب ، بدا و كأن ليلة سهد طويلة عاشها البارحة ، كان ذابلا ، داكن البشرة ، مشوش الرأس و في فمه سيجارة كأنه يمضغها ، ابتسم فور رؤيته للأستاذ سعيد و نزع السيجارة و فتح باب الصالون و أدخله مصحوبا بعبارات الترحيب المعتادة و عندما أطفأ سيجارته في المطفأة ، كان سعيد يبادره بقلق :

 ما بك يا عم جهاد ؟
هز رأسه نافيا أن يكون هناك شيء و لم يقو على الكلام ••شعر سعيد بقلق مفاجيء ، انتظر قليلا قبل أن يعاود السؤال ، و لدهشته فوجيء بالأب يبكي •• نعم هكذا فجأة انخرط الرجل العجوز في بكاء غريب ، كانت كل أعضاؤه تتحرك حركة قوية ، ترتفع اكتافه و يغوص رأسه بين ذراعيه و و يعلو ظهره و ينخفض •• كان الرجل يحاول إسكات نفسه ، يكتم أنفاسه ، يقاوم نهنهاته ، و سعيد واقف لا يدري ماذا يقول ••
 وحد الله يا عم جهاد ، وحد الله يا رجل •• أين زوجتك ، أين ريم ؟ نريد كوب ماء ••
قال الأب و هو يهز رأسه :
 لا أحد هنا ذهب الجميع إلى السوق ••
 سأحضرها بنفسي إذن ••
هم الأب أن يمنعه إلا أنه كان أضعف من ذلك فربت سعيد على يده و خرج من الغرفة •• لاول مرة يرى منزل ريم من الداخل ، خمن موقع المطبخ و توجه إليه مباشرة ، جلب ماءً من البراد و لفت نظره و هو في طريقه للخروج باب الغرفة التي تطل على شرفته ••
 لابد أنها غرفة ريم ••

شيئا ما أقوى منه دفعه إلى دخول الغرفة بخطوات حذرة كأنه يدخل صومعة راهب •• أول ما لفت نظره كان فراشها •• كان مرتبا و عاديا ، إلا أن شيئا فيه أعجبه ، شيء لا يراه البشر ، مد يده تحسسه •• ثم لفتت انتباهه اللوحة المعلقة على الحائط فوق السرير ، كانت لمنظر طبيعي وقت الغروب ، و رغم أن اللوحة كانت ترسم بدقة هذا المنظر إلا أن شيئا مخيفا كان فيها •• إحساس بالرهبة يشعر به من ينظر إليها لا يدري مبعثه ••
 هذا رسمها ••
التفت بسرعة إلى الأب الذي كانت يده تسكن كتفه و نظرة لوم صغيرة تقبع في عيونه المغسولة بالدموع للتو ••
ارتبك سعيد أيما ارتباك و اهتز كوب الماء في يده فسقطت منه بضع قطرات على الأرض ، مسحها بحذائه و لم يدر ما يقول فآثر الصمت
 هنا كل مملكة ريم ، إنها ترسم أحيانا من الصباح إلى المساء ، انظر هذا حامل الرسم الذي ترسم عليه ••
توجه الأب إلى الحامل بخطوات واهنة و رفع الغطاء بأصابع مرتجفة و قال:
 تأمل معي ••
وقف سعيد يطالع الرسم أمامه ، كانت خطوط مبدئية بالفحم لفتاة منهكة تعتلي جبل عال و عند السفح بحيرة صغيرة نبت الصبار على جانبيها و عند القمة سحابة مثقلة ••
أشار الأب على البحيرة و قال :
 هذه ليست بحيرة ، إنها سراب ••
هز سعيد رأسه و قال :
 لاحظت الصبار ••
جلس الأب على حافة السرير و قال كأنه يكمل حديثا :
 هذه اللوحة ترسم حلما شاهدته ريم قبل فترة •• لم انتبه إنه يصلح لوحة ••
مد سعيد كوب الماء إلى الأب مبتسما فأخذه منه و تبلغ ببعضه و ظل الكوب في يده ، قال سعيد :
 لماذ كنت حزينا يا عم جهاد ؟
أطرق العم جهاد قليلا و تطلع حوله ثم نهض و قال لسعيد :

 تعال •• سأعد شايا ••

توجه كلاهما إلى المطبخ ، كان العم جهاد يعرف مكان كل شيء بالضبط ، و عندما فتح خزانة المطبخ ليخرج منها الأكواب تنهد و قال :
 أنا صنعتها •• هذه الخزانة ، و طقم الصالون و سرير ريم و سرير قاسم و حتى طاولة التلفاز ، تلك في واجهة الصالة ••
أومأ سعيد برأسه و قال :
 فنان و الله يا عم جهاد ، إنها قطع جميلة و متينة •• ليس مــستغربا أن تكون ريم فنانة و هي ابنتك ••
ربت الأب على كتف سعيد ممتنا للمجاملة و صب الشاي و تقدمه في الخروج و الاتجاه إلى غرفة الصالون ، و عندما وضع الشاي على الطاولة و تناول كل منهما كوبه قال العم جهاد :
 خيرا يا بني ؟
ابتسم سعيد مرة اخرى و قال :
 بل هو كل خير إن شاء الله ، وجدت من يساعدني في تقديم أوراق ريم للعام الدراسي الجديد ، و لقد وعدني خيرا و عنـدما يحين موعـــد التقديم ســأكون معها و إن هي إلا أيام و تظهر النتيجة و إذا ريم طالبة جامعية كما تمنيت ••
ابتسم الأب ممتنا و قال :
 على بركة الله •• أتعبناك معنا يا أستاذ سعيد و شغلناك بهمومنا ••
هز سعيد رأسه رافضا الكلمة و قال بصدق :
 لا تقلها يا عم جهاد ، أنت مثل أبي و أولادك إخوتي ••
 بارك الله فيك يا بني ، و أعطاك على قدر نيتك ••
 عم جهاد •• إذا سمحت لي ما الذي أحزنك حد البكاء ، لقد أفجعتني ••
ابتسم الأب ابتسامة صغيرة حزينة و قال :
 لو شاهدوني لماتوا رعبا ، كانت الفرصة الوحيدة لي للتنفيس عن مشاعري ، خروجهم للسوق أتاح لي أن افعل ما كنت أقاومه و بشدة ••
 و لكن لماذا الحزن يا عم جهاد ، إذا كنت لا ترغب في السفر ابق و مصاريف الدراسة يدبرها الله ••
 أنت لا تفهم يا أستاذ سعيد ، أنا لا أسافر من أجل مصاريف قد أستطيع تدبيرها إذا بقيت ، إنني أذهب و أنا أعلم تمام العلم أن أمامي دربا طويلا طويلا ، دربا تأخرت عن المشي فيه بسبب نوازع العاطفة و رغبتي في عدم ترك أولادي ، و أسلكه اليوم بسبب نوازع العاطفة أيضا و بسبب العقل •• قدر محتوم ظللت أخافه و أهرب منه و أتحاشاه قدر الإمكان لكــــن آن الأوان أن أرضـــــخ له و أن أترك سيـــفه يجتز أمني و استـقراري و راحتي •• قاسم في الصف الأول ثانوي ، هل تعرف ما يعنيه هذا ؟
 بقي له عامان و يدخل الجامعة ••
 بالضبط ، لن تكون ريم قد أكملت دراستها ، و ستتضاعف المسئولية •• و سمر هذه الصغيرة بعد عام بدورها ستدخل المدرسة ، مدرسة خاصة مصاريفها فوق القدرة و الاحتمال ، لكنني لن أحرمها حقها في العلم ، أولادي يا أستاذ سعيد هم الشيء الحقيقي الوحيد الذي منحه الله لي •• الشيء الذي لا ينازعني على ملكيـته مخلوق ، الوطن الذي لا ينتمي إلا لي و لا أنتمي إلا له ، و من حقهم أن أبذل من أجلهم كل غال و نفيس ••

 لكنك بذلت بالفعل ••
 مازالوا بحاجة لبذل المزيد ••
نهض العم جهاد واقفا و ، استشرف من باب الصالون منزله ، كان يمسك بيده حاجز الباب كأن الحاجز يسنده ، تكلم إلى لا أحد قال بصوت واهن ••:
 في هذا البيت عشت عشرين عاما ، دخلته بالضبط يوم تزوجت سميحة عام 66 ، كان إيجاره تلك الأيام 561 قرش صاغا •• ارتفع مرتين فقط خلال هذه السنين و توقف منذ أكثر من عشر سنوات على ثلاثة جنيهات و نصف •• تعمدت أن يكون زواجي في اليوم الاول من العام الجديد لكي اؤرخ به لنفسي ، لأقــــول أنني أعلنــت دولتي في هـــذا العام و أرسيت رايتي في هذا اليوم •• ضحكت سميحة كثيرا وقت أن أخبرتها بهذا الكلام ، كانت عروسا جميلة ، جميلة جدا ، كانت فوق أحلامي لولا كرم عم صابر يرحمه الله معي آنذاك ، و كرمها هي •• لقد تزوجت غريبا ، أرضه منهوبة و لا يعرف متى سيكون له وطن •• تزوجت إنسانا مثقلا بهموم الفراق ، يقيده شوق لا منتهي إلى أم و أب و إخوة تفرقوا ذات يوم ، أتصدق يا أستاذ سعيد ••
و إلتفت إليه كان سعيد يطالعه بحنان و إصغاء كامل ، أكمل :
 أنا لا أزوج ابنتي لشخص مثلي لو كنت في ظروفهم •• هذا صحيح •• لكنهم فعلوها ، فلماذا إذن ضحكت سميحة يوم أخبرتها أنني صار لي وطن بزواجنا ••؟
ضحك ضحكة صغيرة و فرك يديه و أكمل :
 السفر أمر أريده و يحتمه الواقع و مصلحة الأبناء ، و لكنه قاس ، مر ، يعني فراقا جديدا في حياة إنسان الفراق نصيبه منذ خلقه الله ••أتدري يا أستاذ سعيد ••؟
تطلع إلى وجهه مليا ، لكنه لم يكن يرى ملامح ، لم تسجل ذاكرته في تلك اللحظة إلا شكلا هلاميا كان يعيش داخله منذ سنين ، قال بصوت واهن :
 اليوم فقط شعرت أن أبي مات •• أحن إليه كثيرا •• أشعر أنني كنت عاقا عندما تركته يموت في أرض غريبة و لست معه ، علمت بخبر وفاته بعد سنة كاملة من موته ، مثلي مثل الغريب •• عندما أعلنتها حدادا في المنزل ، لم يفهم الصغار لماذا عليهم ان يطفئوا التلفاز و الراديو و لماذا تلبس أمهم السواد ، عندما حدثتهم عن أبي ظنوا الحديث عن جدهم صابر يرحمه الله و قالوا أنه مات منذ زمن بعيد فلماذا الحزن الآن •• لم أكمل أيام الحداد الثلاث •• قطعتها لأنني وجدت نفسي سخيفا ، لن يشعر هؤلاء و هم قطعة مني بمقدار حزني فكيف سيشعر به أي معز جاء من قبيل المجاملة و شرب القهوة السوداء على روح رجل لا يعرفه •• تعاظم يومها شوقي إليه و لكنه كان شوقا يشبه أياما كثيرة سبقته و سيشبه أياما كثيرة مقبلة •• و قلت أبي لم يمت ، و ليكن الخبر كاذبا •• يوما ما تنتهي سنين غربتي و ارتهاني بعيدا عن وطني و سأعود لاجد أبي في ساحة دارنا يدخن سيجارته و أمي تصيح علينا •• ابتعدوا عن البئر ، يوما ما سيموت أحد أولادنا في هذا البئر •• أشعر بذلك •• كانت دائما تقول هذه العبارة ••

أحس أنني سأعود لأجد كل هذا أمامي مجددا ، الجمــــيع ينـــتظرني ، إخوتي و أنا و أمي و أبي يرحمه الله •• حلمت كثيرا بعودتي تلك ، و كنت قد قررتها مرارا خلال العامين الاولين على قدومي هنا ، لكنني كنت اخشى غضبة أمي حينما تراني و تعرف انني بعد لم أجد طريقي •• حين جمعتنا بعد سفر أبي قالت تفرقوا و ابحثوا عن طريقكم و لا تعودوا إلا و كل واحد منكم قد وجد طريقه •• خفت أن أعود فتسألني :"هل وجدت الطريق يا جهاد ؟" فأقول لها: "بعد يا أمي" فتقول :"و لماذا عدت ؟" فأقول :"الشوق و الحنين" فتقول :"يا عيب الشوم على الرجال ••"
و لم اعد و في 76 انتهى آخر أمل لي بالعودة ، أصـــبح بحر غزة رهين الاحـــتلال بدوره ، و اصبح أختيار العودة الذي كنت اراود نفسي عنه و أمنيها به أمرا من الماضي ••
هل تصدق هذا يا أستاذ •• بيتي و بلدي و أمي و إخوتي على بعد قليل مني و لم أرهم منذ عشرين عاما •• عشرين عاما يا أستاذ •• أليس كثيرا هذا الزمن ؟ بل هو أكثر من كثير ، أكثر من كثير و الله العظيم ••

هذه المرة كان البكاء من نصيب سعيد ، كانت دموعه الصامتة تسقط رغما عنه ، كان أمامه رجل يتعذب بنبل منقطع النظير ، يعذبه شـــوق وواجب و حنين قاهر ، مسؤولية و ذكريات و حياة تريد دوما المزيد ••

عندما ران الصمت على الغرفة ، لم يجرؤ سعيد على اختراقه ، كان يعلم أن جو الغرفة مثقل بكلام أهم بكثير من أية كلمة يمكن أن تقال ، كان يشعر أن كلمة واحدة تخرج منه كفيلة بأن تسمه بالسخف طوال العمر ، صمت ، راقب العم جهاد و هو يضع وجهه بين راحتيه ، سمع تنهداته الحرى ، لاحظ الارتعاشة التي كانت تسري في يديه و يقاومها الرجل فلا يستطيع و تغلبه ، فيمعن في دفن وجهه فيهما حتى لا يلمس هو الغريب ضعفا في هذا القوي القادم من خلف حدود سيناء ••

نهض سعيد بعد قليل و سار باتجاه الباب بخطوات متثاقلة ، لم يتطلع خلفه ، كان يريد أن يتنفس هواءً نقيا و كان حسابا عسيرا ينتظره خارج حدود هذا البيت ، حسابا لابد أن يقابله بعد أن قابل هذا المطعون في قلبه منذ سنين و رغم ذلك لديه القوة على إعطاء أولاده بقية من نزف روحه لكي يعيشوا ، عندما فتح الباب و خرج و أغلقه خلفه ، أخذ نفسا عميقا و توجه بخطوات سريعة إلى منزله ، فتح الباب ، وقف أمام المرآة لم ينتظر حتى أن يغلق بابه صاح لصورته المتأنقة :
 تافه ••


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى