الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤

أبعد من الحدود

غسان كنفاني

صعد الرجل المهم الدرجات القليلة الى بيته , فُتح له الباب , القى محفظته الجلدية فوق الطاولة , قَبلَ زوجته , ونظر الى طفله النائم في الحرير الازرق , فك رباط عنقه , ساعده الخادم على خلع حذائه أخذت زوجته المعطف , علقته على المشجب , فرك يديه مستمتعا بالدفء
  أتريد أن تتناول عشاءك الآن ؟
  اوه نعم , أنا جائع جدا .
أستدارت زوجته ذاهبة إلى خارج الغرفة , زغزغ الصغير في حريره الازرق أصوات الصحون تأتي اليه مخدرة من وراء الباب " باب غرفة الطعام " ثم صوت زوجته .
  هل أمسكتموه ؟؟
  من ؟؟
  الشاب الذي قفز من النافذة أثناء التحقيق .
  ليس بعد ولكن أين يريد أن يفر ؟ سيكون حاله إلينا بين ساعة وأخرى .
  ماذا كانت جريمته بالضبط ؟؟
  من أين لي أن أدري ؟ لقد طلب مقابلتي ثم هرب .
قام عن الكرسي الوثير , أنتعل شحاطته من الفرو , اجتاز الباب إلى غرفة الطعام , جلس في كرسيه المفضل قرب وجهه من صحن الحساء وأستمتع بالبخار المتصاعد منه
  هذا الحساء ساخن جدا , سيحرقني .
  عليك أن تنتظر برهه.
  أنا مرهق جدا اليوم .
تراخى في كرسيه أحس بثقل يتمدد في جفنيه , سمع صوت شباك ينغلق يضيف زوجته تنسى دائما شباك الحمام مفتوحا فتلعب به الريح . أحس برغبة جامحة في النوم , كيف أستطاع ذلك الشقي أن يثب من الشباك دون أن يؤذي نفسه ؟ كلهم شياطين مجرمون .
  سوف ألقي خطابا أمامك .

سمع هذه الجملة بوضوح فحاول أن يرفع راسه , إلا انه كان مستمتعا بالدفء والنعاس سأل نفسه تراه من يكون ؟
  الشاب الذي هرب من النافذة , عاد من النافذة يا سيدي
  ومرة أخرى لم يشأ أن يرفع رأسه رغم انه أحس بشيء من الرعب كان بخار الحساء , ما زال يتصاعد فيحمل إلى وجهه نكهة رطوبة دافئة , قال لنفسه .
" لا شك انهم أمسكوا ذلك الشاب ... أنا أفكر به الآن لان حاستي السادسة نامية أنا أثق بها "
  " لن تقاطعني يا سيدي , أليس كذلك ؟ أريد أن القي خطابا "
  لا لن أقاطعك
لم يعد بوسعه الان أن يفتح عينيه ورغم ذلك فهو لم ينم بعد أنها اللحظات القليلة القائمة اتي تسبق النوم مباشرة . هكذا فكر أنه يعرف جيدا هذه اللحظات , ويمتصها نصف واع حتى الثمالة .

" اسمح لي يا سيدي أن أرتجف أمامك ريثما يبرد الحساء , أنت لن تمنعني من الارتجاف , أليس كذلك ؟ أنه حق ما زال متوفرا لي حتى الآن , شيء مؤسف لكن حقيقة واقعة , أن رجالك لا يستطيعون أن يمنعوني من ذلك , أعتقد أنهم يرغبون في ذلك ... أليس الارتجاف حركة ؟ ولكن كيف يتعين عليهم أن يفعلوا أيعطونني معطفا ؟ كيف ؟ يعطون الخنزيز معطفا ؟

هز رأسه في محاولة عنيفة لابعاد الصوت الحاد الا أن الحروف , كانت تتكلب في صدغيه كالعلق .

" لا يا سيدي , لا تحاول ان تستدعي كاتبك ليحمل لك الملف الذي يحتوي على كل التفاصيل الهامة وغير الهامة لحياتي . تريد أن تعرف شيئا عني ؟ هل يهمك ذلك ؟ أحسب على أصابعك إذن

لي أم ماتت تحت أنقاض بيت بناه أبي في صفد
أبي يقيم في قُطرا آخر وليس بوسعي الالتحاق به ولا رؤيته ولا زيارته .
لي أخ يا سيدي , تعلم الذُل في مدارس الوكالة ,
لي أخت تزوجت في قُطر ثالث , وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي .
لي أخ يا سيدي في مكان ما , لم يتيسر لي أن أهتدي اليه بعد تريد أن تعرف جريمتي ؟ هل يهمك حقا أن تعرف أم أنت فضولي بريء يا سيدي ؟

لقد سكبت وبدون أن أعي , كل محتويات وعاء الحليب فوق رأس الموظف وقلت له أنني لا أريد بيع وطني ... في لحظة جنون أم لحظة عقل لا أدري لقد وضعوني في زنزانة سحيقة العمق لكي أقول انها لحظة جنون , ولكنني في تلك الزنزانة تيقنت أكثر من اية لحظة مضت بأنها كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها .

هذا صوت أسناني تصطك من شدة البرد يا سيدي , لا تخف أنا لا أحمل سلاحا , إذا كنت تعتقد أن أسناني ليست سلاحا , أن ساقي عاريتان ممزقتان لاني قفزت من نافذتك , وقد خطرت لبالي فكرة صغيرة وأنا أمعن في الركض مبتعدا عن غرفتك وحرسك وهي أن هذا الدم الذي سال من ساقي قد تفجر من جروح هي أول جروحي وأن ذلك , للعجب لا يحدث على الحدود , ولا أريد أن أخفي عنك شيئا , يا سيدي لقد بعث ذلك في شيئا يشبه الخجل ولكنه خجلا حزينا يائسا , ما لبث أن صار دمعا , ويبدو أن ذلك الخجل هو الذي دفعني لاعود اليك من النافذة أن تراني عُدت لان كلمتك الاخيرة , التي سمعتها وأنا أثب من النافذة وكانت آخر ما سمعت منك , وما تزال تنخر في رأسي كالمثقب كلمة ناشبة انهمرت ورائي وأنا أقفز "" الخنزير _ امسكوه ""
يا سيدي أنا إذن خنزيز حقير ... أتسمح لي أن أكونه؟؟

أنا لست أشعر ذلك , إذا أردت الصدق ولكن لو قلت الصدق وراء ظهري المزلاج فمن يستطيع ان يفتحه ؟ أنت ؟ ولا حتى من هو أعلى منك قيمة ومركزا

أتعرف لماذا يا سيدي ؟ لانني في الواقع , لست إلا تجارة من نوع نادر , فأنت ستسأل نفسك إذا قُدر لك أن تسمع بالخبر " وماذا سأستفيد من إطلاقه ؟ والجواب بكل بساطة لا شيء ... فأنا لست صوتا إنتخابيا , وأنا لست مواطنا , بأي شكل من الاشكال وأنا لست منحدرا من صلب دولة تسأل بين الفينة والاخرى عن أخبار رعاياها .
وأنا ممنوع من حق الاحتجاج , ومن حق الصراخ فماذا ستربح ؟ لا شيء وماذا ستخسر أذا بقيت أنا وراء المزلاج ؟ لا شيْ إذن لماذا التفكير الطويل ؟

" خذ هذه الاوراق يا ولد ولا تزعجني بمثلها مرة أخرى " أرايت ؟ مشكلة لا أبسط ولا أسهل .

لقد فكرت في الأمر مطولا في الفترة الاخيرة يا سيدي أنت تعرف لابد أن الواحد منا ... ما زال يستطيع أن يفكر بين الفينة والاخرى لقد كنت ماشيا في الشارع وفجأة سقطت الفكرة في رأسي , كلوح زجاج كبير ما لبث أن تكسر وأحسست بشظاياه تتناثر في جسدي من الداخل , قلت لنفسي.

" أوف – ثم ماذا " ؟ وانت ترى أنه مجرد سؤال صغير يمكن للمرء أن يطرحه ولو بعد خمسة عشر سنة , ولكن العجب هذه المرة أن السؤال كان صلبا وناشفا وأكاد أقول نهائيا ... اذا انه فور أن سقط في رأسي , أنفتح خندق مظلم طويل بلا نهاية , وقلت لنفسي:
" لا بد أن أكون موجودا رغم كل شيء ... لقد حاولوا أن يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن وبذلوا ... يشهد الله جهدا عجيبا من أجل ذلك .

ولكنني ما أزال موجودا رغم كل شيء .. إلا أن السؤال كان ما يزال يعوي ثم ماذا ؟؟... هذا النوع من الاسئلة يا سيدي عجيب للغاية ذلك إنه اذا ما أتى لن يكون بوسعه أن يبرح قبل أن يروي ظمأه تماما
نعم ثم ماذا ؟ دعني أقول همسا , يبدو أن ليس ثمة " ثم ماذا " ابدا دعني أقول ذلك ثم قولوا عني أنني بائس جبان هارب

قولوا عني حتى انني خائن اليس بوسعي ان اكتم الجواب اكثر ان الحقيقة يا سيدي مروعة , وهي تملئني بغزارة حتى لأحس أنني , ذات يوم قد أنفجر من فرط ماعبأتني
أتسمح يا سيدي ؟ ليس ثمة " ثم ماذا " على الاطلاق ... ويبدو لي حياتي حياتنا كلنا خطا مستقيما يسير بهدوء وذلة الى جانب خط قضيتي ولكن الخطيين متوازيان ولن يلتقيا

يا سيدي

ان كنت أنا قد جمعت طوال فترة قاسية شجاعة خارقة لقول الحقيقة فإن الشرف كله ليس لي , انا لي شرف القول فقط , وانت تحتفظون بكل شرف التأليف .... ألست ترى أنكم انت الذين أعددتموني ساعة أثر ساعة ويوما أثر يوم وعاما أثر عام لهذه النتيجة .

لقد حاولتم تذويبي ياسيدي , حاولتم ذلك بجهد متواصل لا يكل ولا يمل لا ياسيدي هل أكون مغرورا فأقول بأنكم لم تفلحوا ؟ بلى , افلحتم الى حد بعيد وخارق .. الست ترى انكم استطعتم نقلي .. بقدرة قادر من انسان الى حالة , فنحن نستوي بشكل مذهل انه عمل رائع ياسيدي , عمل رائع جدا رغم انه احتاج الى فترة طويله ولكن يا سيدي أن تذويب مليون انسان معا , ثم جعلهم شيئا واحدا متوحدا ليس عملا سهلا ولذلك أعتقد انك تسمح له إن احتاج ذلك الوقت الطويل , لقد أفقدتم أولئك المليون صفاتهم الفردية المميزة ولستم في حاجة الان الى تمييز وتصنيف , أنت الان أما م حالة فاذا خطر لكم أن تسموها لصوصية فأنهم لصوص , خيانه كلهم خونه
فلماذا الارهاق والتعب والنظرات البشرية المعقدة ؟

سيدي لا تتعجل على فهمي البطيء أنا أريد أن أقول ايضا انهم من ناحية أخرى " حالة تجارية "

انهم اولا قيمة سياحية

فكل زائر يجب أن يذهب الى المخيمات وعلى اللاجئيين أن يقفوا بالصف وان يطلوا وجوهم بكل الاسى الممكن وزيادة على الاصل فيمر عليهم السائح ويلتقط الصور ويحزن قليلا ثم يذهب الى بلده ويقول
" زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل أن ينقرضوا "

ثم انهم ثانيا قيمة زعامية , فهم مادة الخطابات الوطنية واللافتات الانسانية والمزايادات الشعبية وانت ترى يا سيدي , لقد أصبحوا مؤسسة من مؤسسات الحياة السياسية التي تدر الربح يمينا ويسارا .

سيدي , ليس هناك " أي ثم " هذه حقيقة مروعة ولكنها حقيقة على أي حال ... لقد تقولب دوري في الحياة بشكل حاسم انا كفرد , مجرد خنزير .

أنا كجماعة حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وزعامية لقد فكرت طويلا قبل أن أصرح بهذا الاكتشاف وانا أعرف بأن المنابر ستمتلىء بمن يقول .
هذا خائن جبان متخاذل هارب .

لابأس لن ينالني العار أكثر مما نالني

وبعد خمسة عشر عاما لا بأس ان تكونوا كلكم زعماء الاخلاص ورجال المعركة والابطال الصناديد . الذين لا ييأسون ولا يهربون .
سيدي : أن مؤسستنا تقدم خدمات أخرى لا يحصيها العد .
نحن مثلا أكثر جماعة ملائمة من أجل أن تكون مادة درس للبقية ..... الاحوال السياسية مستعصية صعبة ؟

إذن أضرب المخيمات أسحب بعض اللاجئيين , بل كلهم أن استطعت . أعطي مواطنيك درسا قاسيا دون أن تؤذيهم ولما تؤذيهم , اذا كان لديك جماعة مخصصة تستطيع أن تجري تجاربك في ساحتها .
أريد أن الفت نظرك يا سيدي الى أمور كثيرة أخرى .

أنت تستطيع أن تؤكد ولاء مواطنيك عن طريق الادعاء بأن المتذمرين انما هم بعض الفلسطينين. واذا فشل مشروع من مشاريع نَقل ان الفلسطينين سبب ذلك الفشل كيف ؟ أنه امر لا يحتاج الى تفكير طويل قل انهم مروا من هناك مثلا أو انهم رغبوا في المشاركة او أي شيء آخر .

اذا ما من احد سينبري لمحاسبتك ولماذا ينبري
من يملك بعد خمسة عشر عاما , جرأة التطويح بنفسه في القضاء بدون هدف .

يا سيدي انت ترى فمن رحمته أحيانا , أنت تستطيع أن تشنق واحدا منا فتربي بجسده الفا من الناس دون أن تحمل هما او خوفا او تأنيب ضمير
إلا اننا يا سيدي نقمة في كثير من الاحيان نحن لصوص , نحن خونه نحن بعنا أرضنا للعدو , ونحن طماعون .

طماعون نريد أن نمتص كل شيء هنا ... حتى التراب .. هذا هو الدور الذي رسم لنا ... وعلينا أن نقوم به شئنا أم أبينا ولكن يا سيدي هنالك مشكلة بسيطة تؤرقني وأشعر ان لا بد لي من قولها ان كثيرا من الناس , اذا ما شعر انه يشغل حيزا في المكان يبدأ يالتسائل : ثم ماذا ... ؟؟

وابشع ما في الامر أنه لو اكتشف بأن ليس له حق " ثم ماذا "
يصاب بشيء يشبه الجنون
فيقول لنفسه بصوت منخفض , واية حياة هذه , والموت أفضل منها والصراخ يا سيدي عدوى فإذا الجميع يصرخ دفعة واحده " اية حياة هذه "
الموت أفضل منها ... ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرا فلا بد أن يفكروا بأمر آخر سيدي , أخشى أن يكون حساؤك قد برد فأ سمح لي أن انصرف

غسان كنفاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى