السبت ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
القصة الفائزة بالمركز الثالث فى مسابقة نجلاء محمود محرم للقصة القصيرة 2006

الجدار

تأليف: إبراهيم سليمان نادر ـ العراق

رغم استياء العالم،

وقرار المحكمة الدولية،

واصلت (إسرائيل) بناء الجدار

في قريتنا دواة خاصة بي وحبر أسقي به عطش الورق، وجلباب لجدتي، تتنفس في طياته غابات من زيتون ودفلى.

ها أنا مرة اخرى في قريتنا، وتحت شجرة التين العجوز. من هنا كنت أسمع حكايا الشوق، أطول الحكايا في حياتي، أكلت مني كل شيء، ولم تبق فيّ أي شيء. قبيل ولادتي بقرن كانت قريتنا جنة عدن، بيادر من زهور اقحوان وشقائق نعمان، لكن اليوم أحسّ بالقهر والذل، تجتاح جسدي الفائر روائح العبيد والمستضعفين.

لم أبك حزناً على الطيور المهاجرة، ولا على جدب الحقول والفراشات الفارة، ولا على ازهار الاقحوان والنعمان، بقدر ما بكيت على أغاني الرعاة وهامات الزيتون بعينين تتفجران بالدموع، تمسح عبراتها، تتدانى الاصداء البعيدة، تحمحم الخيول، تهزج السنابك وتشدو السيوف، ينفتح المدى على آخر اتساعه، تغادر نظرات العجوز الاديم، ترتفع قليلا، يتلون وجهها القديم ويبدو كقمة مضاءة في الفراغ الرحب وحول الوجه المضاء وعلى اطراف الافق يتوهج لون السماء، بينما الشمس تساقط أشعتها فوق الجسد الممدد، فيمتد ظله ليغمر المسافات الى الغرب من مكانه، وكأنها آتية من عالم آخر، أو هي باقايا حلم، فاجأه لون النهار.

مرة اخرى…

أقف قبالته تحت شجرة التين، كانت قامته تستطيل وصدره مشرعا للرياح، لم يلامس جبينه التراب، ولم ينظم شعرا أو موالا، قاوم على مدى خمسين عاما من الاعوام العجاف ولم ينهار. ابتسمت لهذه الخواطر التي داهمتني فجأة، مازال في القنديل بعض الزيت، لكن وجه (الجدار) اصطدم بقلبي كنصل حاد.

تلمست صدره الرطب، على هذا الصدر، زهت عشرات الاوسمة والانواط، كلها تؤرخ لجيل من الناس، بطلا أعطى كل شيء، ولم يأخذ من الدنيا أي شيء.

بدأ النهار يفقد ألوانه، والغروب يزحف حثيثاً محاولاً اغتيال آخر اشعاعاته .

بدت السماء بعيدة، كأنما زلزال ضرب طبقاتها واعماقها حتى خيل للناس عند مدخل القرية ان الكون يلفظ آخر انفاسه.
قفز صبي وصرخ بملء فمه:

 هذا جثمان (حسن المسعود)، تحدى (الجدار) الذي اغتال زيتون ابائه وأجداده وأبى إلا ان يترك عليه بصمته الاخيرة.

وقف الجميع يرمقون الافق بعيون تحترق. نساء يبكين، أطفال يفرون كالارانب، رجال يبسملون، ثم يكبرون ويركعون، دموع تملأ انهاراً وغدران، صراخ كهزيم الرعد وقصف الصواعق.

بقيت وحدي أرقب ما يحدث، لكني لم أسمع ضجيجاً ودوياً من قبل كما أسمع الان.

اقترب مني رجل نحيل، متخلف عقلياً فناديته:

ـ متى حصل هذا ؟

ازداد قربه مني حتى تبينت زغب وجهه الاصهب ولون عينيه الداكن.

ـ انه عرس فرّ الى السماء، أأنت أعمى؟

ـ عرس من ؟

قهقه المعتوه ببلاهة، وطفق يحك بأظفاره لحيته، حتى بانت لي أسنانه المتآكلة.

ـ ألست من قريتنا ؟

ـ ربما

ـ اذن ماذا تفعل هنا؟ أنت منهم، أجل أنت منهم، تفووو….

سخر مني، فأشرت له بيدي على بيتنا العتيق، ظنني معتوها مثله، ابتسمت له وقلت:

ـ من أعطاك بالأمس هذا المعطف، هل نسيت؟ تذكر (أبو مرعي)، عمك الذي تحبه.. هه..

دار حول نفسه ثم واجهني:

ـ أنت، أوووه، ولكن كيف لا تعرف انهم يقيمون عرسا كبيرا؟

ـ ومن اين لي ان اعرف وقبور ابطالنا لم يجف ترابها بعد

ضحك المعتوه، وغرز نظراته في وجهي:

ـ وتقول لا اعرف؟

ـ لأنك نسيتني

هز رأسه مستغربا:

ـ لعلك لا تعلم ان (الجدار) خطف بالامس زينة فتيان القرية.

هؤلاء الغزاة يخيل اليهم ان (الجدار) سيحجب الضوء، لكن باز الصبح سيفترس غراب الليل، في يوم آت لا ريب فيه، وتلك هي الحقيقة.

تذكرت حكايا جدتنا (أم ذياب)، عن رجال ركبوا الخوف وعتمة الليل، وقتها فرت الطيور والبواشق من السماء، والفراشات من الحقول والغدران، كمم الرعاة أفواههم، وجمعوا مواويلهم في حقائب وزجاجات من جحيم لا ينطفيء حتى تعود الارض. لم يكن لذاك المساء رعشة، ولم يكن له دمعة، لكن الدموع هطلت من فتحات العيون الواسعة، وانهمر وقتها دمع أسود قرب الجسد، ذاك الجسد الذي ظل دمه يصهل على خد الافق.

شيء لن يعرفه تأريخ المطر أبداً.

سألني المعتوه:

ـ هل أنت حزين مثلي على خطف (الجدار) قريتنا؟

قطع سؤاله صوت طبل، لكني اجبته:

ـ انه الوطن.

ـ إذن ستحضر معي الاحتفال، ولكن لماذا لا ترتدي ثيابا نظيفة، وتحلق لحيتك؟ يبدو انك مثلي لم تفعل ذلك منذ زمن طويل.

مسحت حبات العرق التي غسلت وجهي رغما عني، شعرت ان الارض تميد بي، انتابني عناد طفولي، رافضاً الخجل الذي سيطر على مشاعري.

مددت كفي الخشنة الى وجهي، تحسست التجاعيد الغائرة وبكيت (الى اين يا قريتنا ؟ الى أين أيتها الصعبة الجميلة؟ غزال الحب أنت، أم غزال الموت؟ شجرة التين لم تعد تؤتي اكلها كل حين، شاخت وشحبت اوراقها ولم تعد تطرح تينا، أصبحت مثل عروة في رداء).

كانت طفولتي معلقة بتلك الشجرة، كثيراً ما غفيت في فيئها حين كان يخذلني التعب.

تمنيت أن أفتح صدري للريح، وأفر الى فضاء لا تطاله يد المحتل ولا تراه عيناه.

سنين مرت، امتزج العشب الاخضر في المراعي ربيعاً، وتهشمت الاشواك الجافة بين الصخور صيفا، ولكن لن يغتال الغروب نور قريتي.

كان المعتوه ثرثارا وكنت مثله، فسألته:

ـ ستحضر الاحتفال؟

ـ حقا إنك حمار، لماذا لا أحضر والدعوة عامة، سيكون عرسا لم تر البيادر مثيلا له.

قلت لنفسي: (لا يهم، عندما يعم الظلام، ويكتسح السهل والوادي).

لكني أحسست بكرب، كيف أحضر وأنا لم أتهيأ بعد، لا أحد يعلم بوصيتي، ربما يحفروا لي قبراً في مكان آخر، تنطبق ضفتاه على رفاتي وتحجبا عني النور والهواء.

بحدة ونزق صاح المعتوه:

 أسرع واستبدل ثيابك ونظف نفسك جيدا، انه احتفال لا نظير له.

راح الضجيج يقترب ويبتعد. بدأت أشعر به يدّوم في رأسي ويستبيح نبضي وداخلي.

اشتد الدوي وتلاحقت الانفجارات، ثم هدأ الكون وعم السكون. مرت لحظات صمت، استطعت أن أصيخ السمع خلسة. صاح المعتوه مرة أخرى، وراح يضرب الارض بقدميه، ثم رفع يديه كمن يتنكب راية أو بندقية. لمحت في كفيه زجاجة حارقة وقنبلة يدوية، صاح بي:

ـ ستحضر معي وإلا..؟

أحسست بالنشوة والفخار، رائحة من مسك تجتاح بدني المرتعش.

توسلت اليه أن يكون قبري تحت شجرة التين، صرخ بكبرياء الفرسان:

ـ وأنا معك.

أخذ المعتوه يكبر ويتضخم جسده حتى أصبح عملاقا في فمه غليون يشتعل بالزهو والنشوة، عيناه تسكبان اللظى فوق ملامحي وهيئتي، تبرقان مثل نصل حاد.

أزَّتْ من بعيد رصاصات أعقبها ضجيج دبابات وطائرات. اقترب المعتوه ولمعان الزغب الاصهب يغطي سحنته، وبريق عينيه يزداد.

ـ هل أنت جاهز؟

ـ نعم، لا بد من إزاحة (الجدار).

ـ دعنا نبحث عن نهاية لهم أعظم فتكا، وأشد رعبا.

ـ لكنك نحيل.

ـ سترى بأسي.

ـ هذا (الجدار) نهش عظامنا قبل لحمنا، حجب عنا الضوء فتشوه به وجه الأديم، لكني لم أبك مثلك.

ـ بماذا تفكر؟

ـ أفكر فيك، أنت ضعيف لا تقدر على فعل شيء.

ـ خسئت، سترى ماذا يصنع العمالقة.

طار جسد المعتوه في الفضاء، وصاح فرحا:

ـ إنهم مقبلون نحونا، سأكون في المقدمة، لا تنسى شجرة التين، مواكب العرس ستعبر فوق هامتي وأنت معي .

تطايرت أطرافه فرحا حينما التهبت النار في أول دبابة قادمة.

رفعت يديّ، وغمرت بهما وجهي، قرأت فاتحة الكتاب ورددت الشهادة.

سمعت أصداء بعيدة تقترب وتقترب، ثم تلتصق بأذني فتطغى على كل الأصوات والأصداء.

من بعيد لمحت المعتوه يعدو ويحلق في الفضاء باتجاه الضجيج حتى تحول الى نقطة سوداء، ثم ظهر على شكل هالة قطنية في السماء وقد توهج وجهه فأضاء الفراغ الرحب وامتد ظله المديد ليغمر المسافات الى الغرب من مكانه كانت اصوات من كرنفال سماوي، تجيء وتغدو، تخبو وتتلاشى وكأنها آتية من عالم آخر، أو ربما هي بقايا من حلم جميل فاجأه لون النهار.

على الأرض، تجمعت تلك الاشعة فوق جسد (حسن المسعود)، فأضاءت أزرار السترة وتفتحت ألوان الثياب. التمع الأسود وتماهى باللون الاحمر والاصفر ممتداً كالافعى.

عند القدمين استقرت صرة خبز وفأس وحزمة بصل. تدافع كلبان ابيضان وأحاطا بالجثة وأخذا يشمشمان الرأس والقدمين والثياب، ثم قعدا يلعقان الكفين والشمس تتابع احتضارها عند سيف الافق.

تسوّرت الجثة بالناس. من بعيد علا صراخ طفل:

ـ أبي ….. أبي …..

هب الجمع نحوه، صاح أحدهم:

 هل تعرفون جنازة الشهيد، لك الفخر يا بني، سندفنه تحت شجرة التين، لقد أصبحت حباتها دمعا مذهبا، تركت الاذان منذ قرون ولم تصل بعد الى مرفأ الاكتاف.

أدرت وجهي مخفيا الدمع الساكن تحت الهدب، خرج النغم من الحلق أنيناً، هتفت ملء القلب: (هنيئا لكم، فأنتم الان في حواصل طيور خضر).

انفض الجمع وبقيت وحدي مثل هودج عربي، يحفر مصيره في الابعاد وسمفونية الاصابع تحصدني، وتحطني على زيتونة فلسطينية، تسرق مني نهار أحداقي ولا تسأل، لا تراتيل ولا آهات ولا بحة صوت حزين.

شعرت برغبة الثكالى الى النحيب، لكن عينيّ مغمضتان وأنفاسي ساكنة وفمي مغلق، افتقدت الصوت والصدى، فلم أعد أسمع شيئا ورحت أبكي، ربما لأنه النصر الذي لا يضارعه أي انتصار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى