الثلاثاء ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم ظافر مقدادي

كلٌ يُغني على ليلاه..

في البحث عن قيس وليلى

وأنا ايضا أحب ليلى. وماذا ينقصني؟! فكلهم أحبَ ليلى، بل كلكم أيضا، أقصد الرجال، تحبون ليلى. تحبون ليلاكم كما أحبَ الشعراء العرب ليلاهم. وليلى التي أحُبها ليست في الأصل إمرأة بحد ذاتها، بل هي (الصورة –المثال) حسب أفلاطون إن أردتم، هي المجرد لحالة مثالية تخصني، كما هي الصور المثالية المجردة لحالات مثالية تخصكم انتم. وحسب أفلاطون أيضا، ينتج عن الصورة-المثال نُسَخ مُشخّصة، فعندما نجد في حياتنا الواقعية تلك المرأة الأقرب للصورة المثال، التي ليس شرطاً أن يكون اسمها ليلى، نكون قد وجدنا النسخة المشخصة الواقعية لتلك الـ(ليلى) المجردة المثالية التي هِمنا بحبها حيناً من الدهر الى أن وجدنا ليلانا الواقعية.

لماذا تغنى الشعراء العرب بليلى وهاموا بحبها؟ هل كان معظم أسماء الفتيات العربيات الجميلات، في ذلك الوقت، ليلى؟ ليهيموا به حباً وعشقاً وجنوناً؟ ولماذا كانت حالات الحب هذه غير سعيدة؟ لماذا لم يجمع الحب شمل الحبيبين في قصص ليلى؟ وما علاقة ذلك بالجنون؟. قيس بن الملوح (او مجنون ليلى) ليس الوحيد الذي أحب ليلى وجنّ بها، فمجانين ليلى كُثر. يخبرنا ابو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني على لسان أيوب بن عباية انه قال: (سألت بني عامرٍ بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدت أحداً يعرفه). ويروي ابو الفرج ايضا على لسان الأصمعي أنه قال (رجُلان ما عُرفا في الدنيا قط إلا بالاسم: مجنون بني عامر، وابن القرية، وإنما وضعهما الرواة). أما نسب مجنون ليلى، كما تخبرنا أمهات كتب التراث، فهو (قيسٌ، وقيل: مهدي، والصحيح أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة). ونحن لا نعرف ان اسمه كان قيساً إلا من بيت شعر منسوب الى ليلى نفسها كما يقول الرواة:

ألا ليت شعري والخطوب كثيرةٌ

متى رحل قيس مستقلٌ فراجعُ

أما نسب ليلى العامرية حسب الرواة فهو (ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة ابن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة). ويروي أبو الفرج عن ابن الكلبي قوله: (حُدثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتىً من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه). وهذا ما يؤكده أيوب بن عباية بقوله: (إن فتى من بني مروان كان يهوى امرأةً منهم فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون، وأنه عمل له أخباراً وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه). ولا يخبرنا الرواة ما هو إسم إبنة عم مجنون بني أمية هذا، هل كان إسمها ليلى؟ أم ان المجنون قد أخفى اسمها الحقيقي ايضا واستعمل اسم (ليلى) ليقصد به (ليلاه)؟. ويخبرنا الأصمعي أن الكثيرين من (بني عامر) جنّوا ايضا بليلى وقالوا الشعر فيها هياماً: (سألت أعرابياً من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعةٌ رموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟، فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى، فقال: كلهم كان يشبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون:

ألا أيها القلب الذي لج هائماً

بليلى وليداً لم تقطع تمائمه

قلت: فأنشدني لغيره منهم، فأنشدني لمعاذ بن كليبٍ المجنون:

ألا طالما لاعبت ليلى وقادني

إلى اللهو قلبٌ للحسان تبوع

قلت: فأنشدني لغير هذين ممن ذكرت، فأنشدني لمهدي بن الملوح:

لو أن لك الدنيا وما عدلت به

سواها وليلى بائنٌ عنك بينها).

ويحتار المرء بقبيلة (بني عامر) هذه، فكلهم مجانين أحبوا نفس الـ(ليلى)!، فهل كانت بها الجمال والسحر الأخّاذ؟ ألم يكن هناك غيرها من الحسناوات في (بني عامر)؟ ولماذا لم يتزوجها أحد من مجانينها؟ أو حتى العقلاء الأثرياء من قبيلتها؟ حسناً، سأحاول الآن في هذه العجالة تفسير حالة الجنون هذه في بني عامر وعلاقتها بحب ليلى، ولأجل ذلك سأمضي معكم في ثلاثة محاور: المحور الأول: إستعراض مبسط لظاهرة (التدليس والانتحال) في رواية الشعر العربي، والمحور الثاني: محاولة فهم (ليلى) و(قيس) على المستوى الميثولوجي-اللغوي، والمحور الثالث: محاولة إماطة اللثام عن اسطورة (قيس وليلى او مجنون ليلى).

يُعرّف إبن منظور، في لسان العرب، التدليس على انه مشتق من: (الدَّلَسُ ويعني الظُّلْمَة، والمُدالَسَة تعني المُخادَعَة، ومن هذا أُخذ التدليس في الإِسناد، وهو أَن يحدِّث المحدِّثُ عن الشيخ الأَكبر، وقد كان رآه، إِلا أَنه سَمِعَ ما أَسنده إِليه من غيره من دونه، وقد فعل ذلك جماعة من الثقات). وليس ابن منظور وحده الذي يخبرنا بأن التدليس في الإسناد كان ممارسة عادية عند الرواة بل حتى الثقات منهم، فلا تخلو أمهات كتب التراث من الإشارة الى التدليس. أما الإنتحال فيعرفه إبن منظور على أنه: (النِّحْلةُ: الدَّعْوَى.. وانْتَحَل فلانٌ شِعْر فلانٍ.. أَو قالَ فلانٍ إذا ادّعاه أَنه قائلُه.. وتَنَحَّلَه: ادَّعاه وهو لغيره.. ويقال: نُحِل الشاعرُ قصيدة إذا نُسِبَت إِليه وهي من قِيلِ غيره). أما في العصر الحديث فيُعتبر عميد الأدب العربي د. طه حسين أول من حاول دراسة هذه الظاهرة بخصوص الشعر الجاهلي في كتابه الأهم (في الشعر الجاهلي). يقول د. طه حسين في مقدمة الكتاب: (إني شككت في قيمة الشعر الجاهلي.. أو قل ألح عليّ الشك.. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام.. إن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين). ظاهرة التدليس والإنتحال في الشعر لا تقتصر على الشعر الجاهلي فقط، بل تتعداه الى شعر العصور اللاحقة، فمثلا لنأخذ الشعر المنسوب لقيس بن الملوح في قصيدته الأشهر:

وخبرتماني أن تيماءَ منزلٌ
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنّا قد انقضت
فما للنوى ترمي بليلى المراميا

ولكننا نجد في كتب التراث من ينسب هذين البيتين للشاعر جميل بثينة: (أنشدت أيوب بن عباية هذين البيتين وسألته عن قائلهما، فقال: جميلٌ، فقلت له: إن الناس يروونهما للمجنون، فقال: ومن هو المجنون؟ فأخبرته، فقال: ما لهذا حقيقةٌ ولا سمعت به.. وسألت أبا بكر العدوي عن هذين البيتين فقال: هما لجميل، ولم يعرف المجنون). والغريب في الأمر أن من ذهبت بعقل جميل هي بثينة وليست ليلى الواردة في البيتين. وما يزيد الطين بلة أن (تيماء) الواردة في البيت الأول هي من منازل (عذرة) التي ينتمي اليها جميل بن معمر بن عذرة وليس قيس بن الملوح. وأيضا يخبرنا ابن خلكان، في كتاب (وفيات الأعيان) أن القصيدة لجميل، وفيها البيت التالي:

وما زلتم يا بثين حتى لو انني

من الشوق استبكي الحمام بكى ليا

فهل القصيدة لجميل أم لمجنون ليلى؟ يقول الجاحظ، حسب ما نسبه اليه البغدادي في كتاب (خزانة الأدب): (وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعراً مجهولاً لقائل فيه ذكر ليلى إلاّ نسبوه إلى المجنون، ولا فيه لبنى إلاّ نسبوه لقيس بن ذريح.. وفي الأغاني: اختلف في وجوده: فذهب قومٌ إلى أنه مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب).

تُرى من أين جاءت هذه الاسطورة، ان صح تسميتها بالاسطورة؟ وما هو اصلها؟. لنمضي الآن في المحور الثاني الميثولوجي-اللغوي. لغويا، وحسب ابن منظور، قيس معناه (الشدة، ومنه امرؤ القيس أي رجل الشدة، والقيس: الذكر). أما ليلى فهي من (ليلة ليلاء وهي اشد ليالي الظلمة، وبه سميت المرأَة ليلى.. وأُمُّ لَيْلى: الخمرُ السَّوْداء.. وليلى هي النَّشْوَةُ). وفي اللغات السامية (ليليت) تعني الليل والظلمة والعتمة، وليليت إلهة أنثى عُبدت في الشرق الأوسط القديم، وورد ذكرها لاحقاً في التوراة والأدبيات اليهودية على انها إمرأة (آدم) الأولى قبل (حواء)، هربت من آدم ومن الجنة لرفضها الخضوع لآدم، واستقرت على سواحل البحر الاحمر. وذهبت ليليت كرمز مقدس لإمرأة الليل والحب والخصب في كثير من الموروثات الشعبية، وإقترنت كرمز بإمرأة الغواية والمرأة (الجنية). أما قيس، الذكر، فيحيله د. سيد محمود القمني في كتاب (الاسطورة والتراث) الى (تيس) بالإقلاب اللغوي بين اللهجات السامية (بقلب التاء الى قاف). والتيس هو (الذكر من المعز.. وتاسَ الجدي: صار تيساً). والتيس هو رمز إله الخصب عند الأقدمين، وصوّروه، كما نرى في النقوش الآثارية، على شكل إنسان له قرنين صغيرين وحافرين (بدل القدمين). فهل كان الأصل علاقة (خصب مقدس) بين التيس (إله الخصب المذكر) وليليت (إلهة الخصب المؤنثة)؟ وهل كانت القصائد الأصلية الأولى عبارة عن صلوات لهذين الإلهين لحث الطبيعة على العطاء، كما هو الحال في ملحمة (البعل وأنات) الكنعانية؟ التي لا يخفى تأثيرها على سفر الأناشيد، الذي لسليمان، في العهد القديم، حيث أن الغزل العذري بين سليمان وشولميت (يمكن ترجمتها الى سلمى) أقرب ما يكون الى الصلوات الكنعانية المكتشفة في (أوغاريت).

في مرحلة (التوحيد) تختفي الآلهة، ويبقى وجه الله ذو الجلال والإكرام، ولكنه من الصعب نفيها تماما من ثقافات الشعوب، فيتم خفض (مراتبها) الى أصول أدنى من الله عز وأجل وارقى من الإنسان، فتصبح مخلوقات غير مادية غير بشرية. لننظر الى صور (الجن) ونقارنها ببعض ما وصلنا من المنحوتات القديمة عن صور الآلهة، فنرى أن الجن ليس لها أقدام، بل حوافر، والجن لها قرون صغيرة على رؤوسها. هل جاءت هذه الصور من فراغ؟. ولننظر الى نسب قيس بن الملوح الى (بني عامر)، والعامر هو (الجن ايضا) في لسان العرب: (دارٌ مَعْمورة يسكنها الجن، وعُمَّارُ البيوت: سُكّانُها من الجن). وتخبرنا كتب التراث أن (بلقيس) جاءت من أب من الإنس ومن أم من الجان. وبلقيس حسب الموروث الشعبي هي زوجة سليمان، فهل بلقيس عبارة عن تنويعة على (شولميت)؟ وإذا ما أخذنا برأي د. القمني أيضا نجد أن بلقيس هي (بلتيس) وهي لفظة مركبة لكلمتي (بعلة التيس)، أي إلهة خصب أنثوي؟.

يبدو لي أن العرب بعد ظهور الإسلام إحتفظوا بتراثهم القديم بطريقة غير مباشرة، فإله الخصب الذكر (التيس) تحول الى (جان)، والجان هو العامر، و(بني عامر) قبيلة تلبي، على المستوى اللغوي، التطابق بين إله الخصب الذكر وبين الجان (الذي هو العامر)، ولم يبقَ سوى إكتشاف (التيس) في شخص (قيس) و(ليليت) في شخص (ليلى)، لتكتمل عناصر الأسطورة القديمة، فتم سحب الصلوات القديمة لهذين الإلهين وتحويلها الى قصائد شعرية غزلية، ثم البناء عليها بأشعار تم نسبها الى قيس بن الملوح. ليليت، كأي إلهة حب وخصب قديمة لا تتزوج وتبقى عذراء، ألهذا لم تتزوج ليلى من قيس ولا من غيره؟ و(المجنون) هو من يركبه الجن، فهل لهذا السبب كان كل شعراء بني عامر مجانين؟ وكل من أحب ليلى صار مجنوناً؟. هل أصبحت أسطورة الحب والخصب القديمة بمثابة (الصورة-المثال) الأفلاطونية، التي لا بد لكل من هام بحب حبيبته أن (يستنسخ) صورة واقعية عنها ويواري اسم حبيبته تحت اسم ليلى ويصبح هو من المجانين وتصبح هي بمثابة المعبودة؟ ربما؟ وربما أكون قد أخطأت في كل هذه العجالة.

في البحث عن قيس وليلى

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى