الأحد ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم سهير فوزات شنان

أصداء لوحة

سمعَتْ هسهسة المفاتيح في الباب ،فلم تكترث وتابعت مشاهدة التلفاز بتثاقل، حين دخل هو كعادته متأخراً في الوقت مسدلا ً على روحه ستار الامتعاض.

ألقى تحية فاترة ثم توجه نحو غرفة نوم طفليهما. شقَّ الباب بهدوء. تقدم من سرير طفله الأكبر وأطلق لنفسه متعة تأمل القسمات الملائكية التي تهيم في عرض وجهه، قبّله وراقب طفله الأصغر يبتسم من بين أحلامه بهدوء.. قطعتان منه أو من إلهٍ نورانيٍّ ما تستلقيان هنا ،وتتركانه يتخبط في قيود حارقة.

بعدها ذهب إلى غرفة النوم ليغير ثيابه.
ليسا متخاصمين، ولكن..هذا حالهما لأكثرَ من شهر مضى.
في ذلك اليوم بعد عدة أشهر من تركه عملَه المسائي، قررا الخروج ليشاهدا فيلماً سينمائياً بعد فترة السبات الشتوي وسنين السبات الروحي الذي فرضته عليهما ظروف الحياة الصعبة.

كان فيلماً مبتذلاً.. حين هبطا الدرج من قاعة السينما كان لابدَّ أن يمرا بصالة العرض الخاصة بالمركز نظرا إلى بعضهما و ابتسما فهما لم يشاهدا معرضا فنيا منذ أيام خطوبتهما منذ أكثر من ثماني سنوات، حين كانا يتذرعان بأية حجة للخروج معاً تحت وطأة مزاج الطقس وانفعالاته..كانا يسبحان بين قطرات المطر. يستمتعان بالبرد.. يركضان أحيانا.. ويضحكان كثيراً.. يأكلان الذرة ويقبضان روح كل لحظة قبل حلول موعد الالتحام مجدداً في طيات النسيج الاجتماعي.

مرَّا على اللوحات مرَّ السحاب الخريفي ..
هي لم ترَ اللوحة يوماً أكثر من قطعة أثاث منسجمة ومريحة للنظر ,كانت تحبُّ لوحات الطبيعة بكل أشكالها ،ولم يكن هذا الفنان الذي قلب حياتها من النوع الذي يروقها من عالم الفن ..

أمَّا هو فكان يتمنى دوماً أن يصعقه عمل فني في العمق ،كان يطمر في داخله ألغاما قديمة تنتظر من يلمسها بإبداع مميز.
فجأة توقفا أمام لوحة كبيرة سمع لها دوي أعماقه ،أما هي فلم تدر ما الذي جذبها كمغناطيس في لوحة بعيدة عن هواها .
كانت اللوحة أقرب ما يكون للتجريد مع إيحاء خفيف لرجل و امرأة يهيمان في ضبابٍ لوني رائع..متناغم كسيمفونية.بعد أكثر من خمس دقائق من التأمل قال :

 كم تعبق هذه المرأة بالأنوثة .
وقعت تلك الكلمات في هدوء سمعها كقرقعة صاعقة مباغتة ثم رأت صورتها في بلّور مكسور ظهر فيه جسدها المترهل وقد زاده انكسار الزجاج حدَّة ً. قالت :

 انظر كم يحتضنها بحنان
هزّهُ تعليقها ، ولفت نظره إلى إيحاء الحركة اللولبية التصاعدي بين الجسدين وشدَّة ِ تداخلهما..
في طريق العودة ،بينما اهتزاز السيَّارة يخدر أعصابها فكرت في سبب ألمها..هل هي الآن تغار من امرأة في لوحة كم الأمر سخيف وصعب ،راحت تقلب كلمة (أنوثة ) وتغوص فيها،وكلما أمعنت ..اكتشفت عجزها وجهلها.

كانت الكلمة في موروثها مرتبطة بالضعف والتبعية والعيب ،ولكن كيف تكون ضعفاً وهي القادرة على إحداث سلسلة زلازل في عالم الرجل..قلبِه وإعادة ترتيبه .
هل الأنوثة جسد ؟!.. لم يكن في اللوحة جسد بالمعنى الحقيقي ـ لم يلغ هذا اشمئزازها من جسدها المهمل ـ
هل أحس تلك الأنوثة في ملامح الوجه التي أكدها الفنان بلمسات ضوئية اللون .
إن أصعب على المرأة من عبوديتها ... الطعن بوجودها الأنثوي.

ما الربط بين الأمومة والأنوثة ..
وما الأنوثة سوى خصوصية المرأة لحظة التحامها مع الرجل في عباب الحياة .
فكرت أيضا بحنانه القديم الذي تلاشى يوماً ما في الزمن دون أن ينتبها ..هل الحنان أيضاً ينضب ،أم أنها في غمرة عنايتها بطفليها لم تعد تكترث به .
اكتشفت فجأة أن وجوده في عالمها ليس أكثر من جدار اجتماعي تحتمي بظله من لسعات الألسن والعيون .
تمنت لو تصارحه بهواجسها ..ولكنها فضلت الصمت .
أما هو ..فقد كانت سهوب أفكاره تمتد بعيداً ..فكر في الحركة اللولبية وألوهيتها ،وخيل إليه أن حياتهما نقطة ثابتة في الزمن أو ربما شعاع أفقي عبثي ، وسيطر عليه غثيان اللاجدوى...
فكر في الالتحام العميق لروحين وتساءل بشغف هل عاش تلك الحالة يوماً وهل يعقل أن ما كان بينهما من صخب عاطفي وهْم ٌ تلاشى حين استقرا ..
فكَّر في تعليقها (يحتضنها بحنان ) كم مضى من الوقت دون أن يتعانقا ..بحنان ،وهل ما تزال هي تشتاق لحنانه.. منذ متى فقد إحساسه بحنانها ... ؟!!
قد ينقشعُ الضبابُ فجأةً عن أشياءَ بديهيةٍ نعيشها و تحيط بنا ونكتشف كم كنّا مخطئين في رؤيتنا لها ....
أحيانا ً نتمنى لو نعود عميانا ً بضباب أوهامنا.

دخلا المنزل ،فركض الطفلان لاستقبالهما، عانقاهما قبلتهما بشوق تمناه له،بدأ يمسك بعض خيوط أساه..
دخلت معهما إلى غرفتهما ليحدثاها عن عالمهما، كانت تشعُّ سعادة كطفلة معهما .
فكر وهو يراقب المشهد كيف أن المرأة بعد الولادة تتحول إلى كائن آخر ،تماماً مثلما تشق اليرقة شرنقتها لتحلق بأجنحة كبيرة في عالم جديد .عندها انتبه أنه فقدها منذ سبع سنوات عندما أنجبت طفلهما الأول .

ما احتمالات تكوين المرأة التي تستطيع التوفيق بين أمومتها و عالمها الذاتي دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
بعد أن عادت إليه و قد جلس على الكرسي في غرفة النوم غارقاً في تأملاته دون أن يخلع حتى حذائه،اشتعلت شرارة الحديث بينهما،عاتبها،لامته،ارتفع الصراخ ..بكت هي..بينما غادر هو المنزل غاضباً..
بعد تلك الحادثة انكسر شيء في داخلهما ..

هل مرَّ في خاطر ذلك الفنَّان و هو يرسم لوحته، أنه قد يثقب قارباً متهادياً بسكينة و يبعثر أفراده.
بعد ذلك أصبحت حوارا تهما كاجتياز حقل ألغام،مقتضبة ..حذرة ..غامضة.

الآن بعد أكثر من شهر من هروبه اليومي مساءً..وانعتاقه من رتابة كادت تخنقه ..واسترخاء أعصابها في غيابه،قررت أن تصارحه بخواطرها ..دخلت خلفه غرفة النوم و بدأت حديثها بهدوء و تماسك ،بدا كلامها شديد التفكك بين نوافذ أفكاره المشرعة ،وجملها كهذيان على فراش احتضار.
حاورها كأم ..ككائن منفصل عنه..تحدثا عن وجودهما الاجتماعي .. عن طفليهما ..

بدت فكرة انفصالهما ضرباً من الجنون.. وكل باب أمل يفضي إلى متاهة ..وبين هراء الحلم، وخناجر الواقع،اتفقا..
سيزور المنزل كل يوم على الغداء،ويقضي مع طفليه ساعتين أو ثلاثا ًثم ينطلق كل منهما إلى حياة تحققه ..
وهل يملكان سوى عمر واحد ليبذلاه في هموم ٍ وارتباطات وهمية مقدسة .

نهض ليغادر الغرفة، وقف بتردد عصفور فُتِحَ باب قفصه الذي اعتاده ،وقفت مودعة .. تعانقا بود فسرت في جسديهما رعشة رقيقة كذكرى ،ثمّ َخرج تاركاً خلفه ظلال امرأة أنفاسُها زهورٌ مبعثرة..و شظايا ذكريات.. تحزم زوادة التفاني لأيامها القادمة.

القصة حازت على المرتبة الثانية في مهرجان المزرعة للإبداع الفني و الأد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى