الخميس ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
قصة قصيرة
بقلم علي القاسمي

الكاتب الكبير

بشعور من البهجة والانشراح وبكثير من الرضا والارتياح، اطّلع معالي المدير العام للشركة الوطنيّة للإنتاج والتصدير والاستيراد على صورته المفضّلة منشورةً في بعض الصحف هذا الصباح، وهي تتوسط تصريحه المطوّل بمناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية. وسرّه أنَّ تلك الصحف أغدقت عليه ألقاباً جديدة عديدة مثل " الكاتب الكبير" و " المفكِّر الشهير" و " المُنظِّر الخطير".

وقد يبدو لأوّل وهلة للقارئ الغافل (وليس المُغفَّل) أن لا علاقة بين شركة تجارية وبين محو الأُميّة. ولكن عند قراءة مقال معاليه الذي ينصبُّ (بتشديد الباء من الانصباب، وليس بتخفيفها من النَّصْب) على أثر محو الأُميّة الإيجابي في التنمية الإنسانية الشاملة، يتبيّن للقارئ النبيه ولكلّ ذي عقل سليم أن محوَ أميّةِ العمّال والزرّاع والتجّار يساعد على رفع إنتاجيتهم ومضاعفة مردوديتهم مرات عديدة، ما يُسفر عنه زيادة التصدير وتخفيض الاستيراد، وتعديل ميزان المدفوعات في صالح البلاد، وتحسين الدخل الفردي للعباد. وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع القدرة الشرائية لدى المواطنين وترقية حياتهم ورفاهيتهم. فمفهوم محو الأُميّة، في رؤية معاليه، لا يقتصر على مسألة القراءة والكتابة وإنما يتعداها إلى القضايا الثقافية والمهنية، وتحديث معلومات الفرد، وتنمية مهاراته التقنيّة، وإطلاق طاقاته الإبداعيّة الذاتيّة. إنه محو الأُميّة الوظيفيّ ( أو كما يسمّيه معاليه "محو الأُميّة الحضاريّ").

ويشكّل مفهوم محو الأُميّة الحضاريّ محوراً من محاور نظرية معاليه الذائعة الصيت الموسومة بـ " نظرية بناء الإنسان العربي وتشييد قدراته الذاتية "؛ وهي نظرية تَطاولَ بناؤها الشامخ حتّى أخذت نظرية كارل ماركس الاشتراكية كما تضمّنها كتابه " رأس المال " ونظرية آدم سميث الرأسمالية كما فصَّلها مؤلَّفُه " ثروة الأمم" وغيرها من النظريات الاقتصادية العالمية، تبدو كأنها مجرد أكواخ قميئة بالمقارنة معها. لقد عَلَتْ نظريةُ معاليه وارتفعتْ وتطاولتْ حتى ناطحت السماء وليس السحاب ( لاحِظْ أن مصطلح " ناطحات السحاب" مقتبس في الأصل من عبارة وردت في مقال صحفي كان قد وصف معاليه بالبَنّاء الأكبر الذي يناطح السحاب". ولا أدلّ على متانة نظرية معاليه وتماسكها من إقبال بعض الدوريّات على نشر المقالات التي تُـشِـيد بها وتدعمها ( ولا يظنن القارئ أن تلك الدوريّات قد نشرت هذه المقالات بوصفها إعلانات مدفوعة الثمن ـ دون أن تذكر ذلك طبعاً ـ مع تلقّي عدد من صحفييها لهدايا "رمزية"، فذلك ظنّ يشوبه سوء النية ننزّه القارئ الكريم عنه، لأن بعض الظنِّ إثم، كما هو معلوم).

وبعد أن اطّلع معاليه لأول مرّة على تصريحه الصحفي بمناسبة اليوم العالمي لمحو الأُميّة، داخَلَهُ إعجابٌ عميق بالأفكار الباذخة التي تضمّنها التصريح، وبالأسلوب الفخم الذي كُتب به، وبالكلمات المرصوفة التي تألَّفَ منها وكأنها لَبِنات في بناءٍ عالٍ. ثم خطر له أن نعْت الكلمات بلفظ " المرصوفة " فيه شيء من تقليل شأنها، وأن الوصف المناسب لها هو الكلمات " الرنّانة " أو " الطنّانة " التي تخلّف دويًّا تعجز المدافع الثقيلة عن إحداثه. وعند ذلك شعر بالامتنان لمُساعِده الصحفي " الأستاذ عبد المقتدر العجيزي" الذي يدبِّج هذه التصريحات وغيرها من المقالات الرنّاة الطنّانة في مختلف المناسبات، ويبعث بها إلى الصحف التي اتفق معها على النشر، ويسدّد الثمن بطريقة مستورة، وما على معاليه إلا الاطلاع عليها في الصحف، التي يجمعها الأستاذ عبد المقتدر حال صدورها كلّ صباح، ويؤشر عليها بقلم فسفوري أصفر عريض ، ويبعث بها إلى منزل معاليه قبل أن يستيقظ، لتكون أمامه على مائدة الفطور، لتفتح شهيته وعينيه.

شعر معاليه أن الله سبحانه وتعالى وفّقه في تلك الصفقة، صفقة تعيين الأستاذ عبد المقتدر في الشركة ( فكل عمل هو صفقة في مفهوم معاليه التجاري). فعلى الرغم من أن " الأستاذ عبد المقتدر" لا يملك أية شهادة ( ما عدا شهادة لا إله إلا الله )، فإن ملَكَته اللغوية أهّلته للعمل مُصحِّحاً في جريدة مدة عشر سنوات. وفي دهاليز العمل الصحفي، تعرّف على أسرع الطرق في نشر أية مادة في الصحف، وتدرّب على الكتابة بحيث صار له قلم سيّال يستطيع أن يدبِّج به عشرات المقالات في الأسبوع الواحد، وإنْ كان الحسّاد والأعداء يصِمون كتابته بالضحالة والخواء الفكري. الشهادات المدرسية ليست مُهمّة، كما يعلم القاصي والداني. فوليم شكسبير أكبر كاتب مسرحيّ في تاريخ الأدب الإنجليزي لم يحصل على أية شهادة مدرسية. وبعد هذا وذاك، كم من حملة شهادة الدكتوراه هم في عداد العاطلين عن العمل؟ المهم الكفاءة وليست الشهادة، على الرغم من أن بعض الفاشلين يقول إن المهم هو العلاقة والوساطة وليست الكفاءة. أما في مفهوم معاليه فالمهم هو الإخلاص له وليس الكفاءة أو الشهادة.

وفكّر معاليه أن الصفقة ناجحة، فقد وضعت الرجل المناسب في المكان المناسب. وهذا هو المُهمّ. إن عبد المقتدر العجيزي يستحق لقب " الإسمنتي أو الكونكريتي" بدلاً من "العجيزي". فهو قادر حقاً على تدبيج ونشر تصريحات معاليه في المناسبات الوطنية والعالمية وما أكثرها، ولهذا كان مضطراً لمواصلة العمل في منزله بعد ساعات العمل المكتبية لتغطية متطلبات تلك المناسبات العديدة. لا يَعْدَمُ يومٌ من أيام السنة أن يكون يوماً عالمياً لشخص ما أو لشيء من الأشياء: يوم محو الأمية العالمي، يوم المرأة العالمي، يوم الأم العالمي، يوم الطفل العالمي، يوم المسنين العالمي، يوم الرجل العالمي، يوم الأب العالمي، يوم الأخ العالمي، يوم ابن العم العالمي، يوم الحب العالمي، يوم الكتاب العالمي، يوم المجلة العالمي، يوم الجريدة العالمي، وهكذا دواليك، ومعاليه في سفر عالمي معظم أيام السنة (أي أنه مسافر في طول العالم وعرضه على حساب الشركة ولحسابها أو لغير حسابها)، ولا وقت لديه حتّى للقراءة فما بالك بالكتابة؟

في تلك اللحظة، خالج معاليه إحساس بالزهو والافتخار، إذ تذكّر أنّ الأستاذ عبد المقتدر سينتهي قريباً من إعداد كتابه ( الضمير هنا يعود على الاسم الأبعد "معاليه"، وليس على الاسم الأقرب "عبد المقتدر" ، خلافاً للقاعدة النحوية القديمة البالية). وسيكون عنوان الكتاب " المنهاج الذهبي في بناء الإنسان العربي" الذي أطنبت الصحف الصديقة في الترويج له، وتبشير القرّاء الكرام بقرب صدور هذا العمل الجبّار. ويُتوقع أن تظهر، لأوّل مرّة، في هذا السِّفر العظيم حلولاً مبتكرة تقضي على مشكلات الوطن العربي من محيطه إلى خليجه في الحال، مثلما يقضي معقِّم جافيل على الجراثيم في دورة المياه. وسيبني هذا المنهاجُ الفريدُ الإنسانَ العربي المحظوظ بذراعين من الإسمنت المسلَّح وبساقين من الفولاذ الصلد بدلاً من ساقية الكارتونيتين اللتين يتعثر بهما الآن ولا تساعدانه على السير بسرعة ترضي معاليه. وستقوم مصلحة الترجمة في الشركة بترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والروسية، وستصدر طبعة من الكتاب في كل لغة باسم معاليه دون ذكر اسم المترجِم طبعاً، وتوزَّع هذه الطبعات على المسئولين العرب وأعضاء مجلس الإدارة في الشركة (وليس على الناطقين بتلك اللغات)، ما يعطي الانطباع بأن معاليه يُجيد تلك اللغات ويؤلِّف بها. وقد وضع خبراء الشركة الوطنية للإنتاج والتصدير والاستيراد برنامجاً حافلاً باللقاءات والمؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية والموائد المستديرة التي ستُعقَد في مختلف البلدان المتعاملة مع الشركة، وذلك لتدارس أفكار هذا الكتاب الفذّ ومساعدة الجماهير العربية على استيعابها (أي التهامها أو ابتلاعها بسرعة) وهضمها وتمثّلها، لتفعل تلك الأفكار فعلها في البناء الداخلي الذاتي لكل قارئ ومستمع. وبإيجاز مُخلّ، إن صدور هذا الكتاب سيُحدث بدوره دويّاً جديداً ينضاف إلى أدواء معاليه السابقة (أدواء هنا، جمع تكسير استثنائي للفظ "دويّ"، وليس جمع "داء" بمعنى مرض). ويصبّ كل ذلك في حملة التمهيد لعقد دورة المجلس الإداري للشركة الذي سينتخب المدير العام الجديد، أو بالأحرى سيجدِّد لمعاليه لثلاث دورات دفعة واحدة مقدَّماً، وهي طريقة مبتكرة لم ينتبه إليها حتى الرؤساء المساكين الذين يُجدَّد لهم لدورة واحدة فقط في كل مرة.

وبينما كان معاليه سارحاً في تصوّراته السارّة والصحف بين يديه وطعام الفطور على المائدة أمامه، دخل عليه مرافقه الشخصي عبد الجبار (ولا يُقال له حارسه، فمعاليه لا يخشى أولئك الموظفين الحاقدين الذين فصلهم عن العمل لعدم كفاءتهم). وعبد الجبار شاب قوي البنية مفتول العضلات كان في السابق بطلاً من أبطال الكراتيه حائزاً على الحزام الأسود، وتمّ توظيفه في الشركة الوطنية في منصب "خبير تصدير". ولا يدخل عبد الجبار على سيّده عادة إلا في أمر ذي بال. وبعد أداء التحية، قال عبد الجبار:
 هناك رجل عند الباب يريد مقابلتكم؟
 ولماذا يأتي إلى المنزل؟ وماذا يريد؟
 يرفض التحدّث إلا مع معاليكم، في أمر يخص كتابكم " المنهاج الذهبي".
 هل هو وحده؟ هل فتشتَه؟
 نعم، فتشتُه. وهو رجل طاعن في السن، هزيل الجسم، ضعيف البنية. (يبدو أنه لم يهضم نظرية معاليه في بناء الإنسان العربي).
 فليدخل.
_ خرج عبد الجبار، وبعد دقيقتين أو ثلاث عاد وهو يقتاد الرجل، ويحدِجه بنظرات حادة محدِّدة.
سلَّمَ الرجلُ باحترام على معاليه وقال:
 يؤسفني، يا سيدي، أن أنهي إليكم خبراً محزناً...
 ماذا حدث؟
 لقد تُوفّي مساعدكم الأستاذ عبد المقتدر العجيزي الليلة البارحة. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
 تُوفّي؟ عبد المقتدر؟ كيف؟
 بأزمة قلبية.

أحسّ معاليه بنوع من القلق. كيف يُتوفّى عبد المقتدر في هذا الوقت الحرج بالذات؟ قبيل إنهاء أهم كتبه (للتذكير: الضمير يعود على معاليه). فعبد المقتدر يتمتع ببنية قوية جداً. صحيحٌ أن السمنة تغلب عليه، ولكنه ليس متقدِّماً في العمر، في أوائل الخمسينات فقط. الأزمات القلبيّة تصيب الكبار في السنّ عادة. وتساءل معاليه في نفسه عن مصير الكتاب. وكيف يمكنه العثور عليه؟ ومَن سيتولى إتمامه؟ وماذا لو تأخر عن الموعد المقرر لصدوره. وهنا سمع الرجل يقول:

 ولكن لا تقلقوا، يا معالي المدير العام. فالمرحوم الأستاذ عبد المقتدر كان جاري وصديقي الحميم. وكان يكلّفني بتدبيج كثير من مقالاتكم الرفيعة، ويدفع لي مكافأتي في كلّ مرّة. وقد كلّفني بتأليف كتابكم القيم " المنهاج الذهبي في بناء الإنسان العربي". وأنا حالياً أضع اللمسات الأخيرة عليه وسأنتهي منه خلال أسبوع أو أسبوعين. ولكنه ـ رحمه الله ـ لم يدفع لي مكافأتي مقابل هذا العمل بعد. ولهذا مَثُلتُ بين يديكم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى