السبت ١ أيار (مايو) ٢٠٠٤

معلمة رغم الحصار

فايق مزيد ـ قلقيلية فلسطين

اسمي محمود ، محمود القنديل هكذا تناقلت عائلتي اسمها جيلاً بعد جيل . والقنديل الاسم غير المتحول في قافلة الأسماء الرباعية كما تقتضي متطلبات الهوية .

في الصف العاشر الأساسي بعد أيام أكمل السادسة عشرة من عمري وكما تقول جدتي سأقطع هوية .

هوية ؟ ما لونها ؟؟؟ سألت أختي الصغيرة .

قالت جدتي العجوز – وقد جاوزت الثمانين من عمرها - : واسمحوا لي هنا أن أضع بين شرطتين جملة معترضة للتوضيح ليس إلا – جدتي لا تحمل شهادة ميلاد "كوشان" ولا عقد زواج ولا جواز سفر - . هوية زرقاء فقط تعود إلى عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين عندما أقنعها أبي بحجة أن من لا يحمل الهوية سيعتبر اليهود أرضه أملاك غائب ومن ثم تتم المصادرة . هكذا اقتنعت ، وإلى هذا اليوم ما زالت جدتي تحمل هوية زرقاء لم تتغير ولم تجدد، تئن منذ عقود في أسفل صندوقها الخشبي وكما تقول " حفظاً لها من كل مكروه وحتى لا يشكل ضياعها حجة لدى اليهود المحتلين لمصادرة الأرض .

قالت وقد سمعت من أختي ما لونها : لا يهم زرقاء حمراء خضراء وحتى ممغنطة وعجب كل السامعين من قولها أعرف أن لها بين الفترة والأخرى ومضات وإشراقات فلسفية ولكن ما الذي عرفها بكل ألوان الهويات وحتى الممغنطة منها والتي لا تصدر إلا من "كدوميم"
وأكثر عجباً من هذا ما تلا ذلك من أقوال : هوية أي هوية ليس فيها فلسطينيتك إنسانيتك ليس فيها مذاق حريتك زائفة ليست هوية .
أمي معلمة ، مضى عليها في سلك التربية والتعليم عشرون عاماً بالتمام ، لي من الأخوة والأخوات شقيق أكبره بثلاثة أعوام ولا أنكر في هذا المقام أني استثمر هذا الفارق في ممارسة لعبة المسؤول … وأختان كلتاهما أيضاً أصغر مني سناً .

ومعنا في البيت جدتي العجوز وأكثر ما تعرفه هذه الأيام مصلاها وسبحة طويلة من ذات الحبات التسعة والتسعين وهمهمات لا يدرك سرها ونجواها بعد الله غير أمي .

لم أستأذن أمي بعد في أن أسرد على مسامعكم وأنقش على صفحات قلوبكم قصتها مع أنها أوصتني بمثل هذا ، ذلك حتى لا أضيف إلى قائمة عذاباتها خنجراً جديداً .

معلمة ككل المعلمات صباحاً تذهب إلى المدرسة وعند الظهيرة تعود تعد لنا الطعام وتسعد المقام وتشعرنا أنها تنام مع من ينام لم تكن تنهض من فراشها بعد العاشرة ليلاً إلا أن طرق بابنا زائر أو سمعت جدتي تطلب عصاها إيذانا بالرغبة في قضاء حاجتها .

قد تسألون ما بالك تغفل ذكر أبيك … أبي … ذهب منذ سنين في عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين قالوا : "أنه استنشق الغاز المسيل للدموع وكان مريضاً بذات الرئة فأسرع ذلك في انقضاء الأجل أمي تقول بافتخار : إنه شهيد، وكان زين الشباب ، أما جدتي فتتزاحم كل مساء في تجاعيد وجهها آهات على من راح .

رحمة الله- وحدها الرحمة مطلوبة على من فات - لو كان يدري بما هو آت لآثر البقاء إن كان يملك … لو رأى أمي أمس ، كيف عضت على وسادتها وهي تختنق وتكتم الدموع .

في بداية الأربعين من عمرها قالت عمتي "ابتسام" يوماً ممازحة : أتدرون لماذا اختار أخي رحمه الله أمكم …؟ لأنها كانت مضرب المثل في الخلق والجمال ، لقد قال رحمه الله يوماً : إنها أجمل من "جورجينا رزق" لم يسأل أحد من تكون "جورجينا رزق" واكتفينا بأن عرفنا أنها كانت مضرب المثل في الجمال والدلال .

أمس عادت أمي "زينب" هذا هو اسمها من مدرستها في "خربة حانونا" والتي لا تبعد عن قلقيلية غير ثلاثة أميال وقد انتفخت عيناها وتورمت قدماها وعشرات الخدوش الصغيرة والكبيرة تناثرت فوق كفيها والساعدين .

كعادتها وضعت حقيبتها وأسرعت إلى المطبخ قبل أن تجيب على سؤال جدتي : لماذا تأخرت يا "زينب"؟ .

قالت دون أن تستدير : لا شيء … لا شيء ، يا عمتي الحواجز … كانت النبرات على غير المعتاد مليئة بالحزن .

زينب … زينب … ما الأمر ؟

لا شيء .. لا شيء ، وهرعت إلى غرفتها المجاورة وهي لا تدري أن العجوز ابنة الثمانين عاماً رغم ضعف بصرها ، أبصرت كل الخدوش أبصرت انتفاخ العينين ونهضت لم تطلب مساعدة أحد ولحقت بأمي "زينب" .

فتحت الباب لتجدها وقد ضاع وجهها في الوسادة التي اعتادت على هذا الوجه الجميل … "زينب"… - لقد فزع الأولاد ؟؟ ما بالك ؟؟؟؟ .
لا شيء … بعد دقائق سأرتاح وسأحضر لكم الطعام .

الطعام – ملعون أبو الطعام لا نريد طعاماً ولا شراباً حلفتك بالله أن تقولي .

وراتنا وقد تحلقنا حول سريرها قصت علينا بعض ما جرى وصار : لقد ضربوا علينا قنابل غاز مما اضطرني إلى أن نحبو بعض الأمتار … وعادت تستنجد بالوسادة لنحميها من تساؤلاتنا .

وما كان من جدتي العجوز غير المقتنعة بهذا الموجز من الأخبار إلا أن ذهبت إلى المطبخ وأخذت تبحث عما يمكنها ان تطبخه بعد أن مضى عليها أكثر من عشرين عاماً لم تفعل ذلك .

لم تمض دقائق حتى حضرت عمتي … كان حضورها دائماً بالوقت المطلوب وكان يشيع الفرح والابتسام كاسمها كانت مرحة صاحبة طرفة وذاكرة قوية خاصة الذكريات التي تتناول خطوبة أبي وأمي .

تمزقت ابتسامتها تحطمت وتلاشت حين وقع نظرها على أمي .. "زينب" ما الذي فعل بك ذلك ؟! سأحضر الطبيب في الحال . لا لا أرجوك ، أنا بخير ، ما هي إلا كدمات ستزول وتوالت الكمادات والتي أخذت عمتي تضعها على وجه أمي واحدة تلو الأخرى ، بعد أن تغمسها في الماء البارد . وما هي إلا ساعات حتى آن الأوان لتعود أمي إلى وسادتها وتسبل جفنيها ويخلو المكان إلا من تسابيح جدتي وهمهمات مكبوتة تنطلق من ثنايا وسادة ضمتها أمي لتروي لها وله ما حدث .
وما قصته أمي لوسادتها . قصته لي في اليوم التالي وقد أباحت لنفسها أن تأخذ إجازة مرضية ليوم واحد عدت فيه من المدرسة مبكراً رأيتها وما زالت الخذوش تخط على ظاهر كفيها والمعصمين أجمل الوشمات والنمنمات .

لماذ عدت مبكراً يا محمود ؟

قلت فرحاً : لقد طلبوا منا إعداد كل ما يلزم لاستصدار هوية بعد أيام يا أمي ، سأحمل هوية ، سأصبح رجلاً ، سأصبح رجلاً .
وضمتني إلى صدرها وتناثرت دموعها فوق صفحات وجهي وذهبت عيناها تداعب خصلات من شعري وأخراها تلملم عن خدي وردات الحياء .
محمود ، كل ما أريده منك يا ولدي ، أن تسمع قصتي ، وما حدث لي يوم أمس اكتبه يا محمود في دفتر مذكراتك ، أخبر به أخوتك وأخواتك ، حدث به جدتك وعمتك ، قصة على كل الناس ولا تنس يا محمود أن تحدث به أباك ، اذهب إلى قبره اقرئه مني السلام وقل له "زينب" مضرب الجمال-في اليوم التاسع من العام الثالث بعد الألفين عادت من مدرستها من "خربة حانونا" مع زميلاتها وبعض من اضطرتهم الأحوال ، عادت لتقطع ذات المسافة بين البيارات والطرق الشائكة الوعرة بعيداً عن أعين جند الاحتلال في هذا اليوم ، قبل أن تصل إلى مسامعها أنباء نكبة بغداد ، رآنا الجنود في موقع المراقبة القريب ، وأرادوا أن يحتفلوا بهذا الحدث بطريقتهم المعهودة في شتى المناسبات المؤلمة لنا ، شددوا الحصار ، أطبقوا على الطرقات الخناق ، أكثروا من تسيير الدوريات وبينما نحن في منتصف الطريق الشائكة الوعرة بين البيارات أطلقوا لقنابلهم الصوتية والغازية العنان فقال أحد المارين : رصاص … رصاص … .

انبطحوا ، انبطحنا على صدورنا ، ازحفوا ، زحفنا وكأني بالأشواك كانت حليفتهم وتسابقت على إحداث الجروح والخدوش .

"أبو ذان" وحدث ظل خلفي يزحف ببطء ، طلبت منه بصريح العبارة أن يسبقني لم يجب ، إلا أنه ظل ورائي يزحف ويزحف ومعه تزحف شهواته الملوثة ، وكان يرى ما لا يجب أن يرى .

نهضت ، وقفت على قدمي لأحمي جسدي من نظراته إلا أن أحدهم صاح بي انبطحي ، ازحفي وإلا رأونا هزمت أمام هذا الأمر وهزمت أمام نظرات "أبي ذان" .

"أبو ذان" ، الأشواك ، الحجارة ، أغصان الأشجار الجافة وطلقات رصاص ، كلها شددت الخناق أما الغاز فقد فعل ما فعل ، وها أنت ترى ما أحدث من آثار. وما أن أدركنا الطريق حتى أسرع "أبو ذان " ليعلن انتصاره وليقول لأول من صادفه أنه رأى ورأى . إلا من أُجبر على الاستماع داهمة بلطمة قوية جداً جداً لم يملك معها "أبو ذان" إلا أن يهرب وهي يكيل لهذا الشاب الشهم كل صنوف الشتيمة والسباب .

محمود لا تخير أباك بما فعل "أبو ذان" سيغضب وربما حلف بالطلاق أن لا أعود إلى العمل مرة أخرى.

قل له يا محمود أن أمي بألف ألف خير وإنها معلمة ناجحة تربي الأجيال . محمود لا تخير أني لم أعد اهتم بتسريحة شعري والضفائر ، كان أبوك يحب الضفائر المجدولة يحب تسريحات الشعر الجميلة كان يطلب مني أن أفعل ذلك أسبوعياً وكان يفرحه أن يفكها بيديه حتى أمامكم وأنتم صغار .

إذهب يا محمود ، إذهب يا ولدي إلى المصور تصور حتى تذهب غداً إلى دائرة الأحوال المدنية فقد أصبحت رجلاً أصبحت رجلاً يا محمود .

أما محمود فانتظر الليل حيث لم يعد يسمع إلا طقطقات مسبحة العجوز ذات الثمانين عاماً وصهيل أحزان "زينب" وهي تغرق وسادتها دمعاً وآهات ، تسلل حيث أمه تسيل العينين الجميلتين وحيث الوجه الرائع يغوص فيا لوسادة ليقول وهو واثق أنها تسمع أمي أمي ، وقبل أن تجيب يكمل محمود لقد أصبحت رجلاً وأدرك يا أمي سر ما تهمسين به لهذه الوسادة تصبحين على خير … .

وفي اليوم التالي وعند السادسة صباحاً خرجت "زينب من بيتها بعد أن بدلت وسادتها ومضت إلى مدرستها تحمل حقيبتها وتحت غطاء رأسها تسريحة جميلة جميلة وفستان جميل لبست تحته بنطالاً جميلاً حتى لا يتسنى "لأبي ذان" إن زحفت مرة أخرى أن يرى ما لا يجب أن يرى .

فايق مزيد ـ قلقيلية فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى