الاثنين ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
بقلم أشرف شهاب

اغتراب الأزواج أو الزواج بالمراسلة

انقلبت أحوال الأسر المصرية، مع تردى الأحوال الاقتصادية. وأدت عمليات البحث عن المال إلى سفر الأزواج إلى مناطق، وبلاد بعيدة عن زوجاتهم، وأسرهم. سافر الرجال فى رحلات طويلة بحثا عن المال، الذى أصبح بموجب القيم الجديدة المنتشرة فى المجتمع سيدا بلا منازع. وهكذا راحت بعض الأسر تنهار، وصارت الزوجات يشتكين مرارة الوحدة والانتظار للحوائط والجدران.. وتبع ذلك ما كان من حوادث وانحراف، وضياع وفساد.. وما إلى ذلك من مظاهر سلبية على حياة الأبناء.

"فلسطين" تابعت هذه الظاهرة وكتب مراسلها فى القاهرة أشرف محمود التحقيق التالى:

تحكى السيدة منال السيد (مدرسة) حكايتها بالقول: "أنا أم لأربعة أطفال ، تزوجت من جارى الموظف. وبعد فترة من زواجنا سافر زوجى المدرس للعمل بالخارج. والحق يقال أنه كان لا يقصر فى تلبية متطلباتنا، وإرسال أى شىء نحتاجه من الخارج. ولكن بعد فترة كبر الأبناء، وأصبحوا فى سن المراهقة. وأصبحت تربيتهم تشكل عبئا كبيرا على كاهلى. وتعرض أحد أبنائى لحالة نفسية سيئة. وعندما أدركت خطورة الموقف، طلبت من زوجى إنهاء أعماله، والعودة إلى مصر. ولكنى وجدته يماطل فى العودة، ناشدته بحق أبنائنا أن يعود، وان يواصل تربية أبنائه، لكنه كان فى كل مرة يؤجل قرار العودة طمعا فى الحصول على أموال أكثر. وهكذا تطورت الأمور حتى وصلت إلى حد إدمان أحد أبنائى للمخدرات. وأنا الآن فى حيرة شديدة، وقلبى ممزق على ولدى".

ربما كانت الأحوال الاقتصادية السيئة التى يعانى منها الشعب المصرى سببا رئيسيا فى حدوث ظاهرة اغتراب الأزواج عن زوجاتهم وأطفالهم. وربما كان الطمع فى المزيد من المال هو الحافز الأكبر الذى يدفعهم إلى المزيد من الاستمرار فى الغربة، ومقاومة مصاعب الحياة فى بلاد أجنبية. ولكن الواقع دائما أغرب من الخيال. وتروى السيدة ن.س (ربة منزل) حكايتها مع الحياة فتقول: "أنا أم لثلاثة أطفال. سافر زوجى منذ فترة طويلة للعمل خارج البلاد. وعندما كان يحضر فى إجازاته السنوية القصيرة، كنت أحس أنه مجرد ضيف ثقيل، غريب عن المنزل. وهكذا تعودت الحياة بمفردى مع أطفالى، وشعرت بالجمود نحو زوجى، وأصبحت أعيش كأننى غير متزوجة. وأدت هذه النظرة إلى اختلاف معاملتى لزوجى، الذى شعر بما أكنه له من مشاعر وأحاسيس فبدأ يفتعل المشاجرات معى. وزاد الطين بلة أن الأطفال كانوا يتعاطفون معى لأنهم شعروا أيضا بالغربة تجاه أبيهم. وهكذا أصبحت أنا و الأطفال ننتظر سفر الزوج على أحر من الجمر، ونتمنى عدم عودته فى الإجازات حتى لا تتكرر المشاجرات. و أنا الآن لا أريد من زوجى شىء سوى الأموال التى يرسلها إلينا للإنفاق على الأولاد وعلى المنزل". و تواصل القول: "لا تتعجبوا منى أنا والأولاد. فنحن نريد أن نحيا حياة كريمة. وكنا فى الماضى ننتظر إجازات الزوج بفارغ الصبر، لكن بعد مرور فترة من الزمن أحسست أننى ضيعت كل عمرى وشبابى على تربية أطفالى دون مشاركة منه. وأنا لا أريد منه أن يأتى فى النهاية لكى يقضى على كل ما بذلته من سنوات الجد والاجتهاد فى تربية أطفالى أحسن تربية".

وبالطبع، يمكن أن يكون غياب الزوج لفترات طويلة عن المنزل مفتاحا لمفاسد أكبر، وشرور أخطر بكثير من مجرد فقدان المشاعر أو فتورها. وهو ما نلاحظه فى قصة السيدة ج.ى (موظفة) حيث تقول: "تزوجت بعد قصة حب عنيفة. ورغم محدودية إمكانياتنا ألا أننا كنا نعيش فى سعادة. وبعد سفر زوجى للعمل فى الخارج كان حريصا على الاتصال بنا عدة مرات فى الأسبوع الواحد. لكن مكالماته قلت بعدها، وأصبحت تقل حتى لم يعد يتصل للاطمئنان علينا سوى مرة واحدة أو مرتين فى السنة. وهكذا نسى أن له أولادا وزوجة، يحتاجون إلى رعايته واهتمامه". وتواصل ج.ى بجرأة: "وأصبحت تراودنى أفكار شيطانية.. ولكن خوفى من الله والتزامى بتعاليم دينى يمنعاننى من ذلك". وعندما سألنا سماح.ن (طالبة بالسنة النهائية بالجامعة) حول رأيها فى قضية سفر الزوج للخارج، وتركه لأسرته روت لنا حكاية إحدى قريباتها قائلة: "تزوجت إحدى قريباتى من مهندس شاب يعمل بإحدى الدول العربية. وتم الزواج أثناء إجازة الزوج السنوية. وبعد الزواج بأسبوعين تركها وعاد إلى عمله. وهى الآن تعيش وحيدة منذ شهور. وتنتابها فى أحيان كثيرة مشاعر الإحباط، وتتساءل عن مصيرها بعد سفر زوجها، وابتعاده عنها لفترة طويلة، وهى ما زالت شابة متزوجة حديثا، وتحتاج إلى تواجد زوجها بجوارها". وترى سماح أن الحل يكمن فى ضرورة سفر الزوجة مع زوجها إلى الخارج، والإقامة الدائمة معه. خصوصا وأن بعض الأسر يكون لديها أطفال يحتاجون إلى رعاية من الأب والأم. وأن الأم لا يمكنها وحدها تحمل العبء فى تربية الأبناء. كما أن من الممكن أن يهتم الأب بمتابعة أبنائه وأسرته ومحاولة التواجد معهم أطول وقت ممكن، وليس مرة واحدة فقط من خلال الإجازة السنوية.

القصة التالية يمكن أن تكشف أحد الجوانب الخطيرة لعملية غياب الأزواج عن أسرهم لفترات طويلة. ويرويها لنا المحامى محمود عبد العال قائلا: "شهد قسم عين شمس قصة مأساوية، حيث كان الزوج مسافرا. وخلال أيام، وفى أثناء زيارة أخوه الأصغر للأسرة لعب الشيطان برأسه، وجعله يرتكب الخطيئة مع زوجة أخيه. وأثناء اتصالات أخيه المسافر بالأسرة أخبرته زوجته بأنها أصبحت حامل. وفرح الزوج المخدوع بالخبر. وكان سعيدا جدا بولادة الطفل. ولكن لم تمض أيام قليلة حتى قام أخوه الخائن باختطاف الطفل وقتله، لأنه لم يستطع أن يقاوم إحساسه بخيانته لأخيه". ويطالب محمود عبد العال بوضع حلول وضوابط عملية لعمليات سفر الأزواج واغترابهم للحصول على الأموال دون اكتراث بالقيم والأخلاقيات التى تلزمهم بضرورة رعاية أسرهم. وللأسف يعتقد البعض أن مجرد توفير الأموال للأسرة يعنى أنه قام بالتزاماته على الوجه الأكمل. ولكن الموضوع ليس الأموال، لأن وجود الأب بجوار أبنائه يوفر لهم جانبا معنويا، ويسهم فى تقويم سلوكيات الأبناء وتنشئتهم النشأة السليمة.
أما د.عزة كريم أستاذة الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية فتقول" إن من طبيعة الأسرة المصرية عدم التفكك. ولكن منذ فترة السبعينيات ظهرت أعراض جديدة على المجتمع المصرى، سواء فى الريف أو المدينة، حيث تسبب الانفتاح الاقتصادى، وموجة الهجرة إلى دول الخليج فى زيادة إغراء المال وبريقه. وتفوقت المادة على الترابط الأسرى، فسافر الفلاح البسيط، وسافر الأستاذ الجامعى والعامل والمهندس، مما يدل على أن موجة السفر والاغتراب طالت كافة قطاعات المجتمع. وكان لهذا التغير ثمنا باهظا دفعته الأسرة المصرية من حساب ارتباطها وتلاحمها. فكلما زادت تطلعات الأسرة إلى الثراء زادت حدة التفكك الأسرى. فبعد أن كان الأب يسافر لمجرد الحصول على شقة مثلا، زاد من مدة اغترابه لكى يقوم بتجهيز تلك الشقة بالأجهزة المنزلية الحديثة، ثم يستمر المسلسل بفكرة الحصول على شقق للأبناء، ثم جمع بعض الأموال لتزويجهم، ثم جمع بعض الأموال لوضعها كرصيد بالبنك، وهكذا استمر المسلسل فى حلقات لا تنتهى من الدوران حول النفس. ومع سفر الأزواج أصبحت هناك فجوات داخل الأسرة. وأصبحت الأم تحاول أن تلعب دورا مزدوجا لتعويض غياب الأب. وفى نفس الوقت تعانى هذه الأم من غياب زوجها عنها لتلبية احتياجاتها الشخصية.

وتحول الزوج إلى مجرد بنك، وفقد الأبناء إحساسهم بوجود أبيهم أو أهميته فى حياتهم. وتحول إلى ضيف ثقيل ينزل عليهم فى فترات الإجازات كضيف متنقل، يأتى ليغير أسلوب حياتهم الذى تعودوا عليه طوال العام. وحدث نوع من الفتور العاطفى بين الزوجين. وتقول د.عزة أن الشريعة الإسلامية أمرت بعد البعد بين الزوجين لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، حتى لا تشعر الزوجة بأن أموال الزوج أهم منه، وحتى لا تشعر بالاحتياج إلى من يسد الفراغ الذى تركه الزوج. وهذا يعد مدخلا للكثير من المشاكل والجرائم التى نشاهدها فى المجتمع. حيث فى معظم الأحوال الزوج مسافر، والزوجة ضعيفة أمام مغريات الحياة. والغريب أن كثير من الحالات التى يسافر فيها الزوج إلى الخارج وبعد عودته إلى البلاد تحدث الكثير من حالات الطلاق.

ومن جانبها ترى د. سامية خضر أستاذة الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس أن هناك سلبيات كثيرة من سفر الأزواج إلى الخارج، وابتعادهم عن زوجاتهم وأطفالهم. ومع غياب الأب لفترات طويلة تنهار العلاقات مع الأبناء، وتحدث حالات كثيرة من الانحرافات الأخلاقية بين الأبناء بسبب غياب الرقابة الأبوية. ويكون الأولاد الذكور أكثر عرضة للانحراف لعدم قدرة الأم على السيطرة عليهم، وتوافر الأموال معهم، ويصبحون عرضة لأصدقاء السوء، ومروجى السموم. وتتراوح الانحرافات بين شرب السجائر إلى معاكسة الفتيات، وتصل إلى حد الإدمان على المخدرات، وقد تصل فى بعض الأحيان إلى ارتكاب أولئك الأبناء لجرائم قتل. وتقول د.سامية أن غياب الأزواج يعنى انعدام الرقابة على البناء، ويشعر الابن بأنه لا توجد قوة يمكنها أن تقف فى وجه نزواته. وأنه يستطيع فعل أى شىء دون خوف من حسيب أو رقيب.

ومع طول سنوات غربة الأب، تظهر مشكلات أخرى من بينها شعور الزوجة بأنها وحيدة، ليس معها من يشاركها المسئولية. وأنها مسئولة عن إدارة أمور المنزل من الألف إلى الياء، ومراقبة سلوكيات الأبناء داخل وخارج المنزل. ومن المعروف أن المرأة المصرية تتحمل الكثير ولا تتوقف عن تحمل المسئوليات. ولكن الكثير من ضعاف النفوس يجدون الفرصة سانحة لهم لمحاولة تبرير الممارسات غير الأخلاقية. وأحيان تتواجد الكثير من المبررات للوقوع فى أحضان الزميل أو الجار أو الصديق، وهذه كلها مشكلات نابعة عن الإحساس بالوحدة. وتنصح د.سامية الزوجين بالاتفاق على أنها إذا كان لا بد من سفر الزوج أن تسافر معه الأسرة، أو أن يتم الاتفاق على ألا تزيد مدة السفر عن عامين، فالعلاقة الزوجية أساسها المودة والرحمة والتواصل والحب والمشاركة والمصالحة وليس المال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى