الخميس ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم عمار بولحبال

الانتظار

في محطة الحافلات تجلس عجوزغزا شعرها الأبيض وأتى الدهر على جمالها الذي مازالت تنبعث تقاسيمه بين تجاعيد وجهها الكئيب ...لا تثنيها الأعاصير ولا الأمطار ... ولا تغلبها حرارة القيظ الصيفي ... مرت الايام والشهور و المرأة في نفس مكانها ... وفي يوم شتوي ماطر , قررت الإبحار إلى عالمها والدخول إلى كهفها حتى أتمكن من فك طلاسم حياتها .. قررت المغامرة برغم أن فرائسي كانت ترتعد , و أنا أقترب منها رويدا رويدا أحس أن قدمي تتعثران وأن دقات قلبي تتسارع .. وما إن دنوت منها حتىبادرتها:
 لماذا لا تغيرين مكانك وتحتمين من المطر ؟
نظرت إلي مليا نظرة أحسست من خلالها أن سهما ينطلق من عينيها حاملا شذرات الألم والخوف ...ثم أدارت عني رأسها ... وكررت السؤال ..ألححت عليها ... فاستدارت نحوي وقالت:
 دعني ياولدي و امضي لحالك ..
 أرجوك, تحدثي وأزيحي ستار الألم عن قلبك
 لا ...لا ...دعني ...دعني ...أرجوك ...

ولم أتحرك من مكاني , بل استخرجت كل الكلمات الرقيقة من قاموسي ... وأخيرا رأيت شفتيها تنفرجان وقالت :
 إنك عنيد ... ثم انطلقت تسرد حكايتها :
حين استشهد زوجي لم يبق لي إلا ولد حاولت أن أعطيه كل شبابي وقوتي , كان الضوء الذي ينير لي الطريق والهواء الذي أتنفسه , كنت أراه قمرا تتآكل أمامه كل النجوم ... إن طلب شيئا أقوله له " شبيك لبيك هاهي حاجتك بين يديك " . ومرت السنوات و أنا أنتقل بين الإدارات والبيوت اجد وأكد لتوفير متطلبات دراسته ...رفضت إعادة الزواج لأجله ...كلما كبر اتسعت دائرة الحياة بين عيني.. أرى فيه تباشير الصبح وهي تعانق السماء فتحملني في أريج الحياة لأستنشق الفرح ..كنت أراه مهندسا كبيرا أفاخر به النسوة والمجتمع... وتحقق الحلم ولكن ..؟ !
وفجأة سكتت العجوز .وتدحرجت من عينيها دمعتان تعلنان تمردهما ...وأقرأ عبرهما أن السماء أطبقت على الأرض وأن الجبال ارتطمت ببعضها البعض ... وألح عليها ولكن ماذا ؟! تنظرإلي نظرة رجاء , ثم تمد يديها لتمسح دموعها وتقول لي :
 أرجوك يا ولدي اذهب لحالك ودعني ..
 بل أتوسل إليك أن تكملي – أرد عليها –
 هل أنت بائع كلمات أو حكواتي ؟ تسألني ..
 بل في قلبي جرح كبير...
 كل إنسان في قلبه جرح.... وتستمر قائلة :
 بعد أن أنهى دراسته وأصبح مهندسا, لم تمر على توظيفه ثلاثة شهور حتى تزوج ورحل إلى مدينة أخرى ...رجوته أن يبقيا معي , أو أذهب معهما ... لكن قلبه الذي سكنه الحجر لم يتحرك ولم يسمع كلامي.. قال لي : لا أريد البقاء مع عجوز خادمةفي البيوت ...أنك رمز العار الذي يلاحقني ...وتواصل بحرقة:
 زوجي سقط شهيدا في ساحة الوغى, رفاقه تنكروا له , وابني فلذة كبدي يتنكر لي ... فعندما خرج من الكوخ القصديري قاصدا هذه المحطة , ركضت وراءه , التصقت به ولكن الشيطان أعمى بصيرته ... وحين انطلقت الحافلة به من هنا قلت له : سأبقى انتظر عودتك ... وتمضي الأيام متثاقلة وأنا أعيش الانكسار ....الانهيار ....الضياع ... ولن ابرح هذا المكان حتى يعود ...سابقى هنا حتى يقتلني الإنتظار...الإنتظار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى