الخميس ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤
بقلم نجمة خليل حبيب

بقع فوق افكار نعمان

نعمان لا يحب أزيز الطائراتالراعد. عندما كان صغيرا كان يهرع مختبئا بثياب أمه كلما مرت دراجة نارية مقرقعة,وكان أوّل من يتكوم في زاوية آمنة عندما يداهم حيهم قصف مفاجئ

نعمان لا يحب ان يموت، ليس لأنه يحب الحياة فقط، بل لأن موته سيحزن أمه كثيرا. عندما خطف أبوه ولم يعد، ظلت لسنوات تبكي. تسربلت بالسواد. وضعت منديلا أسود فوق رأسها وبدأت تهرم بسرعة، حتىأنها لم تعد تحبهم. لم تعد تدلله كما من قبل ولم تعد تصنع له الاطباق التي يحبها.صارت مثل خادمة ام بشير تطبخ وتضع الاكل على الطاولة دون تعليق , دون ان ترجوه اوترجو عامر ليزيد. ظلت لسنوات لا تأكل حبة حلو, وحرمت صنع الكاتو والكنافة في البيت.صحيح انه كان يشتري كنافة وكاتو من عند العريسي ولكن ما تصنعه أمه أطيب. اكثر منمرة خبأ قالب الكاتوه عندما يزورهم احد على غفلة لكي لا تقوم امه بتقديمه للضيوف.

عزّة ايضا ستحزن. ولكن حزنهالن يكون بمثل حزن أمه. ستندم على كلالمشاجرات التي كانت تفتعلها معه. ستندم لانها ظلمته يوم اشتكته لعامر وقالت نعمانيدخن. كان عامر قاسيا معه يومها. قطع عنه المصروف. بقي لأسابيع يأكل سندويشته ناشفةولا شفة ببسي. عزّة تغيرت كثيرا بعد ان تهجروا من بيتهم الريفي شرقي بيروت وسكنوافي برج البراجنة. صارت تصرخ كلما دخل عليها غرفتها" إطلع بره". صارت تقضي وقتهابقراءة مجلات تخفيها تحت الفراش عندما تدخل أمها الغرفة فجأة. يوم رمى لها المجلاتعن الشرفة الى الشارع قالت له: "إنشالله تموت" (ستتذكر هذا وتبكي)

لا يستطيع ان يتصور مدى حزنرنده ولكنها حتما ستندم لأنها كانت دائما تتباهى عليه بتفوقها في الدراسة ولا تكفعن ترديد: "طالع حمار لا تنفع لأي شيء. . . روح كب حالك بالبحر" صحيح أنه كانيكرهها لذلك ولكنه كان يتباهى بها كلما سأله معلم جديد عن قرابته برنده. كان يقولبالفم الملآن رنده اختي. ولكن رنده مغرورة دائما تهزئه وتقول انها تخجل ان يكون لهاأخ كسلان مثله. ستندم على كل كلمة جارحة قالتها في حقه.

قد لا يحزن عامر كثيرا, موتهسيخفف بعض الحمل عنه. عامر هذا عواطفه جامدة. . . في هذه السن وليس له حبيبة اوخطيبة. لا يعرف إلا الواجب. يعمل مثل الالة. يصرف على البيت منذ استشهاد والدهولكنه يعيش في صومعته بعيدا عن همومهم الاخرى. لم يسأله مرة عن أحواله الغرامية ولاعلمه, كما يفعل الاخوة الكبار عادة، كيف يتعامل مع حاجاته الجنسية،.وهو لا يعرف عنأحلامه وطموحاته شيئا. لم يغضب يوم قال أنه تطوع مع الشباب وأنه ذاهب معهم الى حيالسلم ولم يشد على يده مشجعا. وقف مثل "ابو الهول"

هل ستبوح إبتسام بما كانبينهما؟ ! ! . . هل ستحضر جنازته ؟! . هل ستجلس الى جانب أمه ورندة وعزّة تتقبلالتعازي في موته ؟ ! . . . لا يظن ذلك. إبتسام تخاف من اخيها عليّ . كثيرا ما كانتتقول له مازحة كلما جاء يضمها ويقبلها "عليّ فوق الشجرة"

سوف يصّلون عليه في كنيسة ماربطرس وبولس في الحمرا. وسيقول أبو ماهر كلمات جميلة في تأبينه. عند كل وقفة لهستجهش أمه بالبكاء ولكنهم سيدفنونه في مقبرة الشهداء. أبو عمار قال كل الشهداءيدفنون في مقبرة الشهداء, إسلام ومسيحية. هو لم يأبه لانتقادات رجال الدين. قال لهمهؤلاء صاروا إسلام بالشهادة . هو يحب ابو عمار ولكنه يسكت عندما ينتقده ويشتمهكوادر الجبهة الشعبية كي لا يبدو ساذجا لا يفهم بالسياسة

سيلف النعش بعلم فلسطينوسيطلق رفاقه الرصاص تحية للشهيد البطل. ستكون الكنيسة مليئة برفاقه المسلمين الذينسيسخرون من هذه الكلمات التي تقال بلغة لا يعرفون ما هي. قد يتضايق بعضهم من رائحةالبخور القوية ويترك الكنيسة بسبب تلك الرائحة . . . قد يسخر عماد ورسمي من هذه الشموع الصفراء الكبيرة المضاءة في عزالنهار ويقول: مثل هذه الشموع تكفي مؤونة الاضاءة لمدة شهر.
عندما سيقومون بحمل النعشستزداد الشهقات وسيرتفع النحيب : ستصرخ أمه: مع السلامة يا حبيبي يا نعمان, سلم علىأبوك. وربما تغيب عن الوعي. قد تطلق أم جميل زغرودة مفاجئة كما تفعل دائما وقديتبعها بعض الرفاق بانشودة "يا ام الشهيد زغردي كل الاولاد اولادكي . . . "
كم هو جميل ومحزن موت الشهيد! . كم هي جميلة كلمات التأبين!. كم هي جميلة اللوحة الرخامية البيضاء المكتوبعليها اسمه وتاريخ ميلاده وعبارة استشهد دفاعا عن بيروت المقاومة بتاريخ . . . 1982

أحس انه على حافة البكاء، لابسبب ما سيصير اليه بل بسبب هذا الشجن الجميل والحزين كالموسيقى.
تساءل:
لو أنهم علموا ان ما يجول في فكره من خواطر بينالحين والاخر هل كانوا سيظلون يعتبرنه شهيدا؟!. لو علموا انه في بعض الاحيان يندم على هذا التطوع, وعندما يشتد الخطر يتمنىان تنتهي الحرب حتى وان لم تنتصر الثورة . لو علموا انه تظاهر بالمرض ليلة البارحةحتى لا يشارك بالهجوم على مثلث خلده الذي قام بالنيابة عنه رفيقه هاني واستشهدخلاله. لو علموا انه كان يحب ان يتفرج على صور النساء العاريات ويقرأ النكاتالجنسية اكثر مما يحب قراءة كتب ابو ابراهيم. لو علموا انه كان يبخل عن شراء مجلةالهدف حتى يوفر ثمنها ويشتري مجلة بلاي بوي. . . سرّ نعمان لان الافكار ليستكالثياب فهي لا تظهر البقع القذرة التي تلطخها.
. .. .
عندما جاء ابو مجاهد وبرفقتهثلاثة من رفاق نعمان بثياب مرقطة, لم تقم ام عامر متلهفة لترحب او تسأل عن نعمان بلقالت وعيناها مطرقتان الى الارض:
ـلا ضرورة للكلام. . . لقد زارني ليلة البارحة وقال لي وداعا يا ام عامر. وصّانيان لا أحزن ولا ألبس السواد ولا أتوقف عنخبز الكنافة. قال، إن حزني سيحزنه كثيرا ويجعل موته حقيقيا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى