الاثنين ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم محمد صباح الحواصلي

سبع الدحداح

أسمع عن سبع الدحداح منذ أن وعيت حارتي وأصبحت أسير بأزقتها بمفردي. ومن يومها وأنا مشغول بمعرفته, تائق لرؤيته, أسأل نفسي دائماً: من هو سبع الدحداح؟ وأين هو؟ وكيف لي أن أراه وأشهد خوارقه وقواه؟

يشك أهل حارة (تحت المئذنة) بحي العقيبة, عقب كل واقعة تشهدها مقبرة الدحداح في جوف الليل (بقبضاي) له من صفات البطولة وغرابة الأطوار ما يجعلهم يزعمون أنه سبع الدحداح. إلا أن هذه الشكوك سرعان ما تتبدد وتنهار أمام قدرة ذلك البطل المغوار, وتبقى الحيرة تضرم نار الفضول دون أن يقدر أحد على معرفة هذا البطل المجهول.. ترى ما حكاية سبع الدحداح؟
أهو حقيقة أم من نسج الخيال؟
هاتف بداخلي ما فتيء يؤكد لي أن سبع الدحداح حقيقة لا يرقى إليها الشك, وأنه من حينا, ويسكن بيننا في واحد من هذه البيوت الطينية العتيقة التي تشكل سوراً يفصل بين الحي والمقبرة.

في المدرسة, وخلال تجمعاتنا في الحارة قرب حنفية السبيل, نتناقل – نحن صبية الحي – ما وصل إلينا من أخبار بطولاته, ونعيد ذكر أمجاده القديمة بثوب جديد دون أن تفتر رغبتنا من تكرارها بل نثير أحياناً متعمدين حدثاً قديماً له لنضرم شوق الفضول في أعماقنا, فترى العيون تتقفى الأحداث برعب وذهول, وترهف القلوب المرتابة أسماعها علها تعثر في تضاعيف الكلام على ما يفضي بها إلى معرفة هذا البطل المجهول.

ومن عجب, أنه كان يلذ لنا ذكر سبع الدحداح عندما يحل الظلام ويسود الصمت, وكأننا بذلك نلبي شعوراً بالحاجة إلى الخوف والمجهول. فعند المساء, تكون الحارة قد خلت من السابلة والباعة المتجولين, وركنت إلى الصمت, وبدت من خلال أضواء المصابيح الباهتة وكأنها بين الحلم والواقع. كان يجمعنا, نحن الصبية, همٌّ واحد.. أن نعرف من هو سبع الدحداح, وأن نشهد قدرته التي لا يعجزها شيء على وجه البسيطة.

ولعل أكثر ما كان يشوق نفوسنا الغضة ويشغلها هو تساؤلنا الذي لم يبرح أفواهنا:
ترى هل سبع الدحداح حقيقة أم من نسج الخيال؟

وتباغتني ذات مساء إجابة جريئة من أحد الصبية. إجابة واثقة غير هيابة ألقى بها الصبي في بحيرة أعماقي الساكنة المطمئنة, فماجت مياهها واضطربت, وانداحت التساؤلات دوائر لا نهائية. قال بلكنة مشحونة بالتمرد:
"لقد جعلتم من سبع الدحداح اسطورة.. اسمعوها مني.. سبع الدحداح لا وجود له, وكل ما تلوكونه عن خوارقه وقواه هو من صنع خيالكم الضعيف الذي يعجز عن البطولة ويتوق إليها."

لست أدري أكان الخوف وحده الذي جعلني أنسحب من جمعهم, أم شعور اليقين الذي ما برح يؤكد لي أن سبع الدحداح حقيقة لا يرقى إليها الشك؟ كنت أنسحب من جمعهم مذهولا وأنا أصرخ في وجه الصبي:
"سيأتي يوم ترى فيه سبع الدحداح.."
وكأنها صرخة انفجرت في عالم الغيب لتصنع صنيعاً أذهل الجميع. ففي تلك الأثناء أفزع الأسماع صراخ ولد يركض في الأزقة المعتمة كالملتاث:

"السبع في التربة.. السبع في التربة.."

تبعثر جمعنا وهربت بقايا الخلق إلى بيوتها ولم يبقَ إلا قليل دفعهم الفضول إلى المقبرة. فهناك, بين القبور وهدأة الأبد سيلبون صدى فضولهم برؤية السبع المغوار. كنت بينهم صبياً يسعى وجل الفؤاد وفي عينيه شوق لا يخبو لرؤية سبع الدحداح. سعيت بين الأرجل والأتربة المثارة, أزحم الأقدام دون خوف. فهناك, في المقبرة المترامية الأطراف, التي تطوي في تضاعيف صمتها أسرار الأموات والأحياء على السواء, سأرى سبع الدحداح, سأشهد إحدى مواقعه الخارقة, سأغرز ناظري في أعماق الظلمة باحثاً عما رسمته في مخيلتي عن سبع الدحداح.. عن عينيه الصقريتين, وشاربيه اللذين يغطيان نصف وجهه, وعن جسده العملاق وهو يتنقل على أديم الأرض بانسياب وخفة.

عبرت مع العابرين الزقاق الضيق الذي يفصل بين حي العقيبة ومقبرة الدحداح. هناك, في الساحة المتربة المحاطة بالقبور, احتميت خلف شجرة كينا ضخمة. كان الجمع غفيراً, أشباح تكر وتفر, امتزجت بالغبار والخوف. كنت أبحث بعيني عن ضالتي, عن سبع الدحداح.. أنقب عنه بين الأشباح.

بيد أنني لم ألقه, لأنني في لحظة غير معلومة غبت عن وعيي. ربما أصاب رأسي حجر فشجني. أو علها ضربة عصا طالتني من وسط الظلام. المهم أنني لم أصل إلى بغيتي. ولم يترك ذلك اليوم إلا أثر لشج على جبهتي.

وتمضي الأيام وتتبعها السنون. يمضي منها ثلاثون سنة أو أكثر بقليل. وذات صباح, فيما أنا جالس على كرسي الحلاقة في الصالون الذي يشرف على بوابة المقبرة, يرفع الحلاق يده محيياً بصوت ممتليء:
 "أهلا سبع.. تفضل."
ثم يضحك الحلاق وبعض الزبائن بالجالسين في الصالون. يعلق أحدهم:
 "لقد ترهل الرجل وشاب."
 "وقال آخر:
"كانت له أيام.."
 وقال الحلاق:
"سقى الله ذلك الزمان.. كنا نخافه حقاً."

تثير تعليقاتهم باطن الذكريات في أعماقي. تثير زمناً كثيراً ما أعود إليه بشوق كبير. وعلى حين غرة, تومض ذكرى في رأسي لتعيدني إلى أيام بعينها, إلى الحارة بعيد الغروب, إلى خلواتنا قرب حنفية السبيل, إلى ذلك اللفيف من الصبية وهم يتناقلون أخباره. أرى نفسي بينهم ساعياً إلى معرفة ذاك البطل المجهول.

أنظر إلى وجه الحلاق من خلال المرآة, وأجدني – وقد امتلأت غبطة – ألفظ لقبه:
 "سبع الدحداح!!"
يجيبني الحلاق:
 "هو بعينه, سبع الدحداح, ألا تذكره يا أستاذ؟"
يتأجج الفضول بداخلي. أنزع المريلة البيضاء من حول رقبتي وصدري وأقفز من على كرسي الحلاقة كالملدوغ. يلحقني صوت الحلاق:
 "يا أستاذ!!"

وأغوص في الدرب العتيق باحثاً عن سبع الدحداح. كان الدرب خالياً من السابلة عندما لمحت ظهر رجل يلج دخلة تفضي إلى المقبرة. قلت في سري لا بد من أن يكون هو فالطريق خال من الناس. وعلى الرغم من أنني لم ألمحه إلا لثوان قليلة فقد أذهلني ما رأيت. رأيت رجلاً ذا بسطة في الجسم, عريض المنكبين, رزين الخطا, أشهب الشعر, في حين كنت أحسب أنني ملاق بعد هذه السنين الطويلة رجلاً هماً أعوجت قناته, وثقلت خطاه, واشتعل الشيب في راسه.

أسرعت صوب الدخلة. ولم أتمالك نفسي فصرخت: "سبع.." ولجت الدخلة الضيقة فلم أجد أثراً لمخلوق. في تلك الأثناء شعرت بيأس مرير. تمنيت لو أنني لم ألمح منه شيئاً.. لو أنني لم أدخل صالون الحلاق وأسمع عنه بعد هذه السنين الطويلة.

غذذت السير في الحواري العتيقة آملاً أن أجده حتى انتهيت إلى شجرة الكينا الضخمة في ساحة المقبرة. تلمست مكان الشج في جبهتي, وأدبرت خائباً بعدما رميت صمت القبور بنظرة جوفاء.

الآخرون قليلاً ما يتحدثون عن سبع الدحداح, أما أنا فما أزال حريصاً على أن أراه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى