الخميس ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

نادين... وآخر ابتسامة

كان جالسا على الكنبة يحدق في شاشة التلفاز. عندما مرت من أمامه تمشي مشيتها المتمايلة تلك التي جذبته وسحرته كما فعلت بالكثيرين غيره. بلغت باب الشرفة دون أن تلتفت اليه بنظرة، وكأنها لا تشعر بوجوده مطلقا، فتحت باب الشرفة وعبرته الى الخارج حيث وقفت تنحني إلى الأمام مرتفقة حافة الشرفة بعد أن ردت الباب خلفها.

نظر اليها عبر زجاج الباب نظرة عابسة، كانت تبدو بفستانها الاحمر القصير كوردة تفوح عبيرا، وهذا ما زاد في حنقه وسخطه عليها. تطلق حنجرتها ضحكة فتبلغ أذنيه رنانة، وتثير في نفسه مشاعر حانقة، وكأنها تتقصد العزف على أوتار عذابه ومعاناته. يتنهد بصوت مسموع يزفر زفرة ملؤها الحرقة.. يراها تأتي بحركة رشيقة بيدها البيضاء البضة التي طالما توسدتها قبلاته الحارة النهمة.. لمن عساها تشير بيدها؟ ربما هي جارتها؟! لكنه يزداد حنقا ويزداد جنونا. بالأمس وهو في مكتب عمله يصارع الملل ويقلب إحدى الجرائد المهجرية يلفته عنوان: إمرأة كندية من أصل هنجاري تتقدم بدعوى فصل بحق زوجها، فتظفر بحضانة ولديها وتزج بزوجها المفصول في السجن لشهر كامل! إبتسم للخبر وزاد حقده على قانون يعتبره جائرا. وإذ يضيق صدره بحمله يشكو أمره لزميله في المكتب، والذي كان صديقا شخصيا له، فيتأسف لحاله لكنه ينصحه بالحكمة والتروي ويذكره بأن القانون دائما إلى جانب المرأة في هذا البلد. فتدوي في داخله صرخة احتجاج.. هل يبقى القانون في صف المرأة حتى وإن كانت تمارس الخيانة بحق زوجها؟! إن كان الأمر كذلك، فما في يده من حيلة، سيعتصم بالصبر ويحاول ردها إلى السبيل القويم، ولعل الله يهديها! لكنه مرة أخرة ينوء بحمل صدره الثقيل وتلاحق ذاته العليلة ذئاب ضارية تبحث عن جيف وخبائث، فيشعر أنها تفر خارج جسده حينها يخيل له أنه يراها رأي العين يراها كما هي عارية من أي زيف. فلا يملك إلا أن يقر بالحقيقة المرة.. فليس القانون ما يردك عنها.. ليس القانون بمانعك من محاسبتها. إنما هو العجز، ذلك العجز الذي يستولي عليك حين تنظر في العينين المشعتين بسحرها الطاغي، وهمساتها الخافتة الرهيفة التي تنفذ الى دهاليز نفسك فتذيبك على نار الشهوة المتأججة.. لمسة واحدة من أناملها الناعمة تكفي لشل أعصابك وارتخاء مفاصلك..!

فأي قانون تتذرع بجوره؟!

ما يزال ينظر إليها من مجلسه على الكنبة. وهي تبدو بعيدة عنه، ألهاها عنه عالمها المليء بالضحكات والإيماءات. فغاب عنها ما يعانيه من عذاب وضياع واحتراق بنار ذاته المستعرة.

وبغتة تطلق ضحكة رنانة مجلجلة ذات أصداء.. فتضرب عنيفا على وتر جنونه ويبلغ به الغليان حدا قصيا، يصر بأسنانه ويكور قبضته.. وهي لا تزداد إلا بعدا عنه وانغماسا في عالمها وحركاتها الباعثة على الجنون.. .

فجأة ينتصب واقفا يقول متمتما وهو يحدق إلى ظهرها الذي كشف الفستان عن مساحة كبيرة منه:

ـ ما الذي يبقيني صامتا حتى الآن؟ ليس لدي أولاد أخشى من ضياعهم.. ونار الغربة التي تكويني طعمها سواء في شتى الأحوال! فما الذي يمسكني عن التصرف؟!

قادته قدماه إلى غرفة نومه، غاب فيها برهة ثم عاد يهرول نحو الشرفة، حيث مازالت تقف. فتح الباب بحركة عصبية، يبدو أنها لم تسمع صرير الباب أو أنهالا تريد الالتفات إليه.. ناداها بصوت متهدج، ناداها باسمها كما كان يناديها لاي أمر كان:

ـ نادين.. !

فالتفتت إليه بحركة سريعة، تشع في وجههاـ الذي ألفاه أية في الجمال ـ ابتسامة. وما كادت تلحظ وجود المسدس في يهده حتى انطلقت منه رصاصة مجنونة حانقة لتقرع صدرها الشبه عاري. فخبت ابتسامتها ورمته بنظرة تمتلئ بالمعاني رغم صمتها.. وما لبثت أن هوت على أرض الشرفة الضيقة صريعة.. !

لبث يحدق ببلاهة إلى صدرها الذي تفجرت منه الدماء لتخضب جسدها وتلطخ أرض الشرفة وحافتها.. ثم تمتمت شفتاه بكلمات مبهمة.. وقد أفلتت من عينيه التائهتين دمعتين كثيفتين.. ورفع المسدس نحو جبينه.. .

ولقد أكد فيما بعد أكثر من شخص أنه سمع دوي رصاصتين.. ثم هوى من عل جسد غظيم ضخم ليرتطم بالرصيف بقسوة طاحنة.

و رب سائل يسأل:ترى ما الذي دفعه بعد أن أطلق رصاصة في رأسه إلى الانتحار مرة ثانية بقفزه من الشرفة؟ !

ـ تمت ـ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى