الاثنين ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم مصطفى نصر

المسحراتى

ما أدهشنى – عندما تذكرت ذلك – أن الحارة كانت مظلمة ، رغم أن ما حدث كان فى شهر رمضان الذى يسهر فيه سكان الحى كله حتى صباح اليوم التالى .

أحاول أن أتذكر سبب ذلك ، فالمارة كانوا قلة ،حتى الكلاب انزوت داخل البيوت وكفت عن النباح الذى كانت تبدأه منذ أول الليل لغاية آخره ؛ وتتجمع فى أول الحارة وكأنها تقصد حراستها. قد يكون سبب ذلك برودة الجو الشديدة .
كنت استذكر دروسى – ليلتها – فى بيت حسن ابن خالى ، وأنا أخفى يدى اليسرى بين ساقى – كعادتى وقت البرد – بينما يغطى حسن ظهره ببطانية ويرتدى " جاكيت " قديما فوق " البيجامة ".

استأذنت قبل موعد السحور بقليل للذهاب إلى بيتى القريب . هبطت درجات السلم ، رأيتها تقف داخل باب البيت ، تلف وجهها بشال أحمر قديم ، وتمد رأسها إلى الحارة المظلمة فى قلق ، قلت كالعادة : " مساء الخير " . لم تكمل الرد ، وقبل أن أتخطى عتبة الدار قالت : " لو سمحت " توقفت ، ظننتها ستمازحنى ككل مرة تقابلنى فيها ، لكن حالتها لم تسمح لها بالمزاح :

  أرجو أن تستدعى " المسحراتى " لأحدثه .
وصلتنى طبلة المسحراتى المميزة ، وصوته المبحوح آتيا من البيت المقابل ، اقتربت من الصوت ، كان يذكر أطفالا – أعرفهم جيدا – يمتدحهم . ما الذى تريده من المسحراتى ؟ أتريد أن تعطيه شيئا ؟ ربما . لكنها تقف قلقة ، وفى جو شديد البرودة ، وتخفى جسدها خلف ضلفة الباب المغلق ، فتنظر من خلال حديد الباب المتشابك ، ومن فتحات زجاجه الملون المكسور ( الذى كسره الأطفال وهم يلعبون ) وصلت إلى البيت المقابل ، كان المسحراتى نحيفا ، يلف وجهه بكوفية ، ومعه شاب يحمل مصباحا وبيده الأخرى دفتر يمليه منه الأسماء : أحمد ، رضوى ، إحسان . والمسحراتى ينشد لكل اسم أبياتا من الشعر ودعاء. قلت مرتبكا :
  امرأة فى البيت المقابل تريدك .
كف عن دق طبلته ، ووقفت الكلمات فوق شفتى مساعده . ابتسم المسحراتى قائلا:
  انتظر، سآتى معك .
لاشك هو يظنها تريده لكى تعطيه مالا، أو كعكا أو شيئا آخر .
ووقفت خارج البيت حرجا ؛ والهواء البارد يجعلنى أتكتك . الرجل يريدنى أن انتظره حتى أدله على بيت المرأة التى تريده ، يخشى أن يتوه عن البيت فتضيع منه الهبة المنشودة .
أخرجت رأسها ثانية لكى تتأكد من أننى أحدثه فعلا .
أذكر جيدا يوم أن جاءت إلى ذلك البيت ، كنت صغيرا ، وكانت جدتى تعيش فى البيت، وأنا وأخوتى نقضى معظم الوقت معها . لقد سافرت جدتى بعد ذلك إلى الصعيد ، وتركت الحجرة التى كانت تعيش فيها إلى شقيقها الأصغر – الذى أناديه بخالى – فجعلها سكنا لابنه حسن ، والتى نستذكر دروسنا فيها الآن . سمعت وقتها أن الحجرتين المطلتين على الشارع فى الدور الأرضى ؛ ستسكنهما عروس جديدة . والعريس هو " حامد فهيم " الذى يسكن البيت المجاور لبيت جدتى ، مع أبيه وأمه البلهاء .
كان حامد فهيم يعمل زبالا مثل العديد من سكان الحى . أراه عائدا من عمله عابسا ، يسب أمه ويضرب شقيقه الأصغر ، أو شقيقته الصغيرة ، فيجرون منه خائفين . وأبوه هادئ لا يتدخل فى شيء. بعد العصر تقريبا ، يغتسل ويرتدى ملابس نظيفة ، أنيقة . ويذهب إلى دكان "على سمنة " الخياط الذى يحيك له بدله وبدل معظم شبان الحى . يجتمع حامد مع أصدقائه ، يدخنون أحيانا ، أو يذهبون لحضور حفل زفاف صديق، أو قريب لأحدهم ، فيدخنون ويشربون البيرة فى الحفل .

حضرت حفل زفاف حامد ، وسرت مع حسن ابن خالى إلى " الكوشة " لكى نطمئن على العروس التى ستسكن بيتنا ، كانت مبتسمة ، كاشفة عن أسنانها ، وعن مدى اتساع فمها . لكن وجهها كان أسمر ، يميل للاحمرار ، فبدت جميلة فى نظرينا .عدنا إلى البيت مع من عادوا سيرا على الأقدام . فقد كان الحفل فى مسرح قريب من البيت . وذهب حامد فهيم وعروسه وبعض أصدقاء العائلتين فى تاكسيات؛ ليطوفوا حول مسجدى أبى العباس، وسيدى جابر سبع لفات .
وقفت أم العروس ومعها بناتها الكثيرات ، كلهن أصغر من العروس ، وأم حامد – البلهاء – وأخته وبعض النسوة ، وانضمت إليهن زوجة خالى وجدتى ، امتلأت دخلة البيت بهن. همست زوجة خالى لامرأة تقف بجوارها ، فابتسمت المرأة ثم ضحكت خجلة وهزت جسدها كله هزات عديدة . ثم جاءت العروس ، كانت مبتسمة فى خجل ، وحامد عابس – كعادته – أسرعا إلى الحجرتين ، بينما انطلقت الزغاريد ، ورشت أم العروس الملح فوقنا ، وابتسمت أم حامد البلهاء ، لكن لم يسمحن لها بدخول الحجرتين مع من دخلن ، فظلت واقفة أمام الباب المغلق عابسة ، تحدث نفسها فى غضب ، ثم سمعنا جلبة فى الداخل ، فقد كان عدد الداخلات كثيرا جدا على الحجرتين الصغيرتين .
زغردت أخت العروس الصغرى ، كانت طويلة وسمراء مثل أختها . قال حسن ابن خالى :
 أختها جميلة .
خرجت بعد لحظات أم العروس ومعها عدد كبير من النسوة ، واغلقت الباب خلفها ، وأبعدونى مع حسن وباقى الأطفال عن الباب ، ثم التصقت النسوة بالبابين . فقد كان لكل حجرة باب من ضلفتين على الطرقة الضيقة .
أخذت النسوة يدققن البابين فى عنف ويغنين أى أغان ، ويقلن أى قول بصوت مرتفع ، المهم أحداث ضجة . شعرت بالخوف والدهشة معا ، فما الذى يحدثنه هؤلاء البلهاوات ؟!
كاد البابان أن يتحطما من شدة الدق عليهما ، ثم كفت النسوة بعد أن احمرت أيديهن من الدق . سألت جدتى عما يفعلن فلم تجبنى . لكن زوجة خالى قالت فى خجل :
  عندما تكبر ستفهم .
خرجت امرأتان كانتا فى الداخل مع العريس والعروس، أحدهما أخت حامد فهيم المتزوجة والتى تسكن بعيدا عن الحى . أما الأخرى فلم أرها من قبل ، وعلمت بعد ذلك أنها عمة العروس .

ردد المسحراتى كلماته المعتادة وأنا واقف مكانى ، يلفحنى الهواء البارد . سكان البيت الذى ينشد فيه نائمين وهو لا يريد أن ينتهى . وهى كلما لسعتها برودة الجو ؛ دخلت البيت وتوارت خلف الضلفة المغلقة .
كان التعارض واضحا بين هانم - العروس- ( التى عرفت اسمها بعد ذلك ) وبين زوجها حامد فهيم ، فهى أكثر طولا وعرضا ، دائمة الابتسام ، ميالة إلى الضحك والمزاح ، بينما هو شديد النحافة ، إذا سار تحس أن به عرجا خيفا ، كما أنه لا يطيق المزاح ، لقد بكى فى حفل زفافه لأن أقاربه لم يعاونونه كما كان ينتظر . فأبوه – كعادته – لا يتدخل فى شيء ، وأمه بلهاء لا تعرف كيف تتحدث .
انشغلت أنا وحسن بالعروس الجديدة وأسرتها ، تحدثنا عنهم طويلا ،عرفنا أن أختها الطويلة السمراء اسمها " سردينة " . تقرب حسن منها وحدثها ، كانت أكبر منه سنا ، لكن حسن أحس بأنها استجابت له .
عند ظهر كل يم تمتلئ الجدران بالشمس والذباب يغطيها تماما . كنت أنا وحسن – ابن خالى – نفض الذباب ونصعد الحائط ، ننظر من خلال النافذة المواربة إلى الحجرتين ، رأينا هانم نائمة فوق الأرض برداء عار ،وحامد مستلق بعيدا عنها ؛ فوق الأرض أيضا . كان مشهدهما غريبا علينا ، فكأنهما ماتا وهما يحاولان الفرار من شيء ما ؛ فارتميا على الأرض فى مكانهما الذى رأيناهما فيه .

تردد فى البيت بعد ذلك ، أن حامدا أضعف من هانم ، وأنه لا يذهب إلى عمله إذا باشرها فى المساء ، فينام مريضا ، وتزوره أخته التى تسكن بعيدا عن الحى ، وتأتيه أمه حاملة طبيخها ، فيأخذه منها ويسبها ، ويطردها من الحجرتين ، غاضبا لأى شيء ، فكل تصرفات أمه تضايقه .

وشاع فى البيت – أيضا – ما تفعله هانم بحامد ، إذ تمازحه كثيرا ، وهو يضيق بها ويثور عليها ، لكنها لا تكف أبدا عن مزاحها معه . يحاول أن يضربها ، لكنه لا يستطيع ، فهى أطول منه وأقوى . تراوغه وتهرب . يعلو صوته حتى يسمعه كل من فى البيت . وتأتى أمها- أحيانا – لفض المشاكل بينهما .
وتغيرت أنا وحسن – ابن خالى - ، كبرنا وأصبحت اهتماماتنا أكبر . تأتى هانم – وهى صديقة لزوجة خالى –0 تجدنى أكتب دروسى ، واضعا يدى اليسرى بين ساقى من شدة البرد، فتسألنى :"أين يدك اليسرى ؟ " أو تسألنى عن القرش الأحمر الكبير الذى بلعته وأنا صغير ، أيام كانت جدتى تسكن البيت هل نزل من أمعائى أم لا ؟
ورأيتها وأنا خارج من باب البيت فى المساء ، تشد ثوبها حول ساقيها ، فتكشف عن أعلاهما ، وتسير أمامى وهى تنظر إلى من وقت لآخر مبتسمة ، لكننى كنت خجولا ، فلم أبتسم لها أو أحدثها ، لكن حسن – ابن خالى – تجاوب معها لدرجة أنه ضربها فوق مؤخرتها ، فقالت لأمه ضاحكة : " ابنك يريد أن يتزوج " وفهمت زوجة خالى مقصدها ، فثارت على ابنها – أمامى - مما جعلنى أخجل منها .

ابتسم لى المسحراتى ، وضع يده فوق كتفى :
  معذرة ، كان لابد ن الانتهاء .
كانت عيناى تدمعان من شدة البرد ، سرت معه إلى البيت . قال المسحراتى لهانم :
  تحت أمرك .
نظرت حولها قلقة ، ثم قالت :
  أدخل .
أسرع الرجل إلى المدخل وتبعته ، بينما مساعده ظل فى الخارج حاملا مصباحه . أخرجت من صدرها مبلغا من المال ، دسته فى يده ، قبله الرجل فرحا ، فقد كان أكبر من المتوقع . قالت :
  ذهب زوجى ليأتى بأمى ، وسيسألانك إن كنت أمليت اسمه مع أطفال البيت لتمتدحه ، أم لا.
  اسم زوجك ؟
بدا الرجل حائرا ، لا يدرى ما الذى حدث، قالت موضحة :
  لقد كتبت اسم زوجى مع أطفال البيت ، ولقد مدحته - أنت – منذ قليل وكأنه طفل صغير .
ضحك الرجل وقال :
  فهمت كل شيء .
قلت لها :
  تريدين شيئا منى ؟
قالت : شكرا .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى