الجمعة ٩ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم أسامة جودة

أبو لمعه

أمام المقهى العريق وسط البلد عند تقاطع الطرق وحيث الميدان الشهير يقبع كل صباح مطرق الرأس شاخصاً بصره لصندوقه وزجاجاته وفرشه, إن رأيته من بعيد حسبته جوال ملقى على الأرض من أثر عمامته وجلبابه وتكوره على نفسه.
( لمعه .... لمعه .... لمعه يا بيه )
تلك هى أشهر كلماته التى يرددها طوال النهار وفى الليل أحيانا .
( أبو لمعه ) :اكتنى بها من وجهين ظاهر وباطن فأما الظاهر فهو عمله فى تلميع الأحذية وأما الباطن هو الذى لا يعرفه إلا من صادفه الحظ وتعامل معه من قريب وهو التشابه الكبير بين شخصيته وشخصيتة ( أبو لمعه) الشهيرة التى زاع سيطها ولمع نجمها فى البرنامج الإذاعى الشهير : [ ساعه لقلبك ] والتى كان أبرز ملامحها هى القدرة الفائقة على الكذب وزاد عليه بقدرته على إطلاق الشائعات والتى عادة ما تكون ساخرة من أحوالنا السياسية والاجتماعية فمثلا كانت آخر إشاعاته حين كنا فى أواخر ليالى رمضان المنقضى التى كانت السعودية قد تقدمت على مصر بيوم فى صيامه حين جاء ( أبو لمعه ) ليشيع خبر أن السعودية أعلنت اعترافها بخطأها فى تحديد موعد الصيام لأنها صامت على رؤية كوكب عطارد ولذلك ستكمل صيام الشهر بصيام اليوم الواحد والثلاثون وتعجبنا أول الأمر وتساءلنا متى تتوحد رؤية الهلال فى الدول العربية ؟ ! وترددت الإشاعة بقوة بعد ذلك حتى تفاجئنا بيوم العيد يسبق مثله عندنا وتأكدنا من كونها فقط إشاعة .
أما أشهر إشاعاته كانت هى التى سبقت مؤتمر الحزب الحاكم حين قال أن المفاجأة التى أعلن عنها الحزب هى تنحى الرئيس عن الحكم وتنازله عن العرش !! وأقنعنا بالإشاعة قائلا : ( علشان يدخل إبنه مكانه بشكل كويس, ويبقى ده على حياة عينه ) وفعلا انتشرت الإشاعة بشكل واسع وفى كل الأوساط حتى جاء المؤتمر وكانت مفاجأته هى ( مشروع الطاقة النووية ) ذلك المشروع الميت الذى بعثه الله حيا يرزق وجعله خلقا جديدا .

نسيت أن أخبركم أن اختيار ( أبو لمعه ) لكذباته وإشاعاته لم يكن اختيارا عشوائياً بل اختيار دقيق نابع من خلفية ثقافية وسياسية واسعة فهو شاب متعلم وحاصل على مؤهل جامعى نزح من مدينته النيلية الصغيرة القابعة فى أقصى غرب الدلتا عندما ضاق به رزقه الذى كان يأتيه من عمله مع والده وإخوته فى بناء القوارب الصغيرة وقصد العاصمة طمعاً فى سعة الرزق وأخذ يبحث عن عمل مناسب وفى آخر الأمر لم يجد سوى العمل كنادل فى مقهى بسيط فى منطقة السيده زينب , مع الوقت ألهمه نفاذ بصره الانتباه لمكاسب ماسح الأحذية القابع على باب المقهى والتى تغنى عن السفر لبلاد الخليج واتخذ قراره بسرعة وفى الصباح حمل الصندوق والأدوات وركن لهذا المقهى الفاخر وسط المدينة حيث الرواد من الدرجة الأولى فى الدفع والمعاملة , ليسوا كهؤلاء الصعاليك قاطنى المناطق العشوائية الشعبية , ولم يتأتى له الأمر بسهولة دون مقابل بل دفع لصاحب المقهى يومية ثمن الأرضية وذلك جعله يشعر بالاستقرار فبعث بخطاب لأبيه يخبره أنه عثر على عمل فى إحدى الشركات وبراتب كبير .

من مكانه هذا عند باب المقهى حيث طوفان من البشر يروح عليه ويجئ كل يوم بالإضافة للمذاق الخاص لرواد المقهى أثرى ( أبو لمعه) تجربة حياته بالعديد من التجارب والخبرات التى لم يكن يكتسبها لولا مكانه هذا ؟ فهنا استرجع دهشته الأولى من الزحام ومن فخامة البنايات والمحلات عندما كان يرى تلك النظرات فى عيون القرويين البسطاء الزائرين للعاصمة لأول مرة , وهنا رأى لأول مرة على الطبيعة لقاءات العشاق على أبواب السينما الشهيرة فى الميدان حيث نشوة الفرح وأشواق اللقاء ونبض القلوب وأوج المشاعر المتدفقة , ورأى المحرومين من أمثاله ممن يتسكعون فى الطرقات ويلهثون من متعة النظر إلى الحسناوات الكاسيات العاريات , ورأى المتسولين من عمال النظافة الذين انقطع نفسهم من العمل بأدوات منقرضة منذ زمن ولا ينسى منظر أحدهم الذى كاد يلعق رصيف أحد المحلات بلسانه ليتعطف عليه صاحب المحل بعطيه , ورأى هنا السائحين وكاميراتهم تضيء كالبرق لتلتقط صورا ( للعربة الكارو ) التى جنح حمارها أسفل تمثال الزعيم الشهيد وسط الميدان .

أول يوم له فى العمل كماسح للأحذية شعر ( أبو لمعه ) بدونية وذل وانكسار عندما كان ينحنى أمام أقدام الزبائن لينظفها ويحسن منظرها لكنه لتفتح عقله سرعان ما استعاد ثقته بنفسه عندما تأكد من أن هذا الذى ينحنى تحت قدميه ينحنى هو الآخر لشخص ما يملك غاية يطمع فى نيلها فالكل عبيد للطمع .
* لا تأتى الساعة التاسعة مساءا إلا ويكون ( أبو لمعه ) اختفى من موقعه ولم يعد له أثر حيث يروح لحجرته التى استأجرها بجوار المقهى القديم فى حى السيدة وذلك بعد أن كان ينام مجانا فى المقهى الشعبى طوال عمله به , وكعادته وبسرعة البرق يخلع عن نفسه وجه الانكسار العبوس حين يرفع عنه ثيابه البالية الرثة ويضع يديه المصبوغتين بالسواد فى إناء خلط فيه مساحيق التنظيف مع الكلور حتى يتمكن من إزالة ألوان يديه ثم يدهنها بكريم مرطب بعدها ينعم ذقنه بماكينة كهر بائية اقتناها حديثا ثم يرتدى ملابسه الأنيقة وحذاءه اللامع ويتعطر ثم يتسلل بالخروج .
أول الليل يستقر به المقام فى مطعم الوجبات السريعة ذى العلامة التجارية الأمريكية الشهيرة القابع فى نفس الميدان , وإن رأيته وقتها ستتذكر الثعبان الذى يغير جلده والحرباء التى تغير ألوانها بحسب مكانها فلن تستطيع أن تصدق أن هذا الشاب الأنيق الوسيم هو نفسه ماسح الأحذية اليائس البسيط ,حتى من نبرة الصوت !.

يترك المطعم بعد أن ينتهى من التهام وجبته المفضلة وبعد أن تفشل كل محاولاته للتعرف على أن فاتنة من رواد المطعم فينتقل بعدها للمقهى الشهير الذى يجلس أمامه طوال النهار ولكنه الآن شخصية أخرى , أحد أبرز رواد المقهى الجدد والذى استطاع فى فترة قصيرة أن يوطد علاقته برواد المقهى القدامى الدائمين على اختلاف ثقافاتهم واتجاهاتهم , ودائما يفتح معهم أبواب الحديث فى كافة المجالات يبدأ بالرياضة وغلاء الأسعار وينتهى بالسياسة والدين ويستغل دائما حواراته لتأكيد إشاعاته وإشعال نيران الحديث حيث إشتهر بآراءه الصادمة الحادة المتطرفة كثيرا , يقضى فى المقهى حوالى الساعتين ينصرف بعدها معتذرا بمشاغله الكثيرة وعندما يرجع لحجرته وقبل أن يسكن لمرقده يخرج بعض الأوراق ويدون بها جمل قصيرة ثم يهنئ بنوم عميق .

الآن وبعد مرور عامين على إقامة ( أبو لمعه ) فى العاصمة أصابه الحنين للأهل والأصحاب فقرر أن يتخذ فرصة أيام عيد الأضحى المقترب ليزور بلده ويقضى مع أهله أيامه لكن عليه أولا أن يذهب لمديرية أمن العاصمة ليقدم التقرير الذى يكتبه أسبوعيا للضابط الذى جنده مرشدا للأمن .

أخيرا :أحذر مرتادى وسط البلد وضواحيها من التحدث فى السياسة لأن المرشدون فى كل مكان .

25 /1 / 2007


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى