الخميس ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٤
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ الحلقة 8 من 18

كتبت ريم الى والدها التطورات الاخيرة حكت له عن جو الجـــامعة و الزميلات و الزملاء و الأساتذة ، و بالطبع عن شرط بقائها في الجامعة ، و أرسل الأب بدوره رسالة جميلة تحدث فيها مع أسرته عن سعادته بكل ما عرف و عزمه على وصل الليل بالنهار من أجل تدبير المبلغ الذي يحتاجونه ، مشيرا في معرض حديثه عن رغبته في أن تلحق به الأسرة في السعودية بعد انتهاء دراسة ريم ، موصيا إياها في الوقت ذاته بتقوى الله و الالتفات الدائم إلى دروسها لكي تثلج صدره بالتفوق الذي لن يرضى عنه بديلا ، و رد ت عليه ريم بأنها ستحرص دوما أن تكون عند حسن ظنه بها ، و عندما أرادت أن تكتب له عن أحوال أعمامها توقف القلم في يدها ، برهة تردد و قلق عليه ، ثم تغلبت على ترددها و كتبت ، حكت كل شيء و قالت لأبيها :

 لن أعزيك في فقد عمي محمد ، فهو لم يمت إنه عند الله من الأحياء إن شاء الله ، لكنني سأرسل لك مع هذا الخطاب كل مشاعري و أحاسيسي التي شربت مشاعرك و أحاسيسك علها تقف بجوارك و تقدم وعدها لك خالصا بأننا سنعود ، و إن الشمل سيجتمع مرة أخرى مهما طال الزمن و حرمتنا الغربة من بعض الغوالي ••

و كتبت سميحة إلى زوجها رسالة أرفقتها برسالة ريم قالت فيها :" أخيرا يا أبا العيال تحقق الحلم ، أخيرا أثمر طـــريق الشوك عن فـجر جــديد ، ثــمرة العــمر كله بدأت تيــنع و تزهر و تسفر عن أمل يا جهاد ••

لا أدري ماذا أقول لك أيها الغالي ، ســوى أنني عندما حـــسبت ســنين العمر التي مضت و حذفتها من لحظة الفرحة الكبرى بثبوت ريم في الجامعة وجدت أن تلك اللحــظة فاضت و زادت حتى غطت على كل سنين الشقاء •• أتحسبني نسيت يا أبا العيال ؟ أتحسبني نسيت ليالي سهادك و أيام جهادك ، أتحسبني لم أكن أسمع الزفرات الحرى تخرج من قلبك فتحرق قلبي ، أم تحسبني لم أكن أسمع في الليالي الطويلة التي تقاسمنا الفراش فيها وجيب قلبك و هو ينادي الفرج و يسأل الله سؤال المضطرين ، لقد سمعت وشاهدت و عشت و أحسست و اليوم معك أحصد و إليك أهدي و بك تستمر المسيرة ••

أبو العيال من أجل خاطر سميحة اهتم بنفسك و عد إلينا سريعا فالليالي بطيئة بدونك و الصبر طعمه مر ، أولادنا في العيون و في حبة القلب ، و ريم كما علمت أما قاسم فهو في الصف الثاني ثانوي يمضي قدما بدوره نحو الهدف ماشاء الله شبيه أبيه ، يحمل عني كل الهموم و يقف بجانبنا في كل الأمور و أصبح يلاطف ســمر فترة أطول كل يوم و يحضر لها الحلوى و اللعب ، و قد اختار القسم العلمي كما تمنيت ، أسأل الله أن يقدرك على مصاريف تعليمهم أنه على كل شيء قدير ••

وضعت ريم الخطابين في مظروف واحد و مضت لتلقي الخطاب في صندوق البريد المجاور •• و في طريق العودة لمحت سعيد يسير باتجاهها و كان في شكله شيء غريب

بعد اليوم الذي مازحت فيه ريم سعيد ، لم يرها أبدا ، حتى ابتسامة المساء التي عودته عليها اختفت بدورها ، لم تعد تخرج إلى نافذتها و أصبحت نظراته المعلقة كل ليلة على نافذتها تتمنى رؤية الضوء المنبعث من الخصاص على الأقل ، و كان يحلو له أن يتخيل ما تصنع الآن قبل أن تطفىء النور و تنام ، كان يتخيلها تارة ترسم و تارة تبدل ملابسها ، و كان خياله في كل مرة يجرفه إلى يوم المنظمة ، هكذا أطلق عليه ، و كان كلما تذكر عبارتها يضحك و تعتريه رعشة لذيذة تلف أوصاله و يتذكر كيف لمس دون أن تدري أطراف شعرها بينما كانت تقف تملأ بيانات الاستمارة الخاصة بهم ، كانت منهمكة جدا في الكتابة ، و الجو خانق إلا من مروحة عابثة كانت تتجول فوق الوجوه دون أن تخلف بردا ، و كان شعرها الكستنائي الطويل يتطاير كلما وصل هواء المروحة إليه ثم يعود ليستكين إذا غادرته ، و ظل هو فترة يراقب هذا المنظر في حين كانت الأم مع ابنتها تحددان اجاباتهما و تضعان وصف أوضاعهم في الأوراق أمامهم ، اقترب خطوة فلم يفطنوا كثيرا إلى تغير مكانه ، و أصبح شعر ريم المتناثر قيد أنملة منه ، كان جميلا جدا ، مثيرا جدا ، أو هكذا رآه ، نازعته نفسه إلى لمس الخصلات المتناثرة ، شعر كأن كل من في البهو وقتها يعرف ما يدور برأسه ، اعتراه خجل غريب لم يشعر به من قبل ، إلا أن فضوله و رغبته في لمس هذه الزوائد الكستنائية الطائرة غلبه ، مد يده قليلا فلاحظ ارتعاشتها ، تطلع حوله و أخرج منديله و طفق يمسح به عرقه الذي خرج غزيرا ، عاود المحاولة مرة اخرى ، و اقترب كثيرا هذه المرة بأصابعة حتى أن الشعر المتطاير في هذه اللحظة دغدغ أصابعه ، تراجع بسرعة خوف أن تضبطه ريم بالجرم المشهود ، و عاد فابتسم عندما وجدها تسأل أمها امرا فتجيب الأم و تعودان للكتابة بانهماك ، مد يده بجرأة أكبر هذه المرة و لمس الزوائد بهدوء و بخفة ، فشعر بأنه ملك الدنيا ، استقرت أصابعه لحظة على أطراف شعرها قبل أن تعاود المروحة ممارسة لعبتها المفضلة في بعثرة شعرها •• تراجع خطوة فعاد إلى مكانه ، لكنه كان يضع يده في جيبه كشيء غالي يريد أن يحتفظ به ما استطاع ، كان يتحسس أصبعه بأصبعه في جيبه و إحساس بالنشوة لم يفارقه لا في تلك اللحظة و لا في أية لحظة أخرى مرت به بعد ذلك اليوم ، و رغم أن ريم هجرت النافذة إلا أنه لم يعتريه غضب ، لم يكن يريد أكثر مما أخذ زادا للأيام المقبلة ، كان وقوفه في شرفته يطالع النافذة يمده بالكثير من الأفكار و الأخيلة التي تجعل الابتسامة لا تفارق وجهه و كأنه يراها أو أنه يرى ابتسامتها ••
ذلك المـــساء فرك يــده و هو يتذكر ملمــس شعرها على أصابعه و يطالع نافذتها المغلقة ، و فجأة هاجمه شوق لا منتهي لرؤية ريم ، تذكر فجأة أنه لم يرها منذ أسبوعين و تعجب كثيرا لأن هذه الايــام مــرت دون أن يراها و دون أن يشعر بمرورها و تساءل بصوت سمعه :
 إلى هذا الحد غيبتني هذه المخلوقة الأثيرة عن نفسي ؟
وقع السؤال في أذنه كان غريبا ، كان مستفزا ، فتح بعده الباب لعشرات الأسئلة و كان أهمها على الأطلاق هو :

 و لماذا لا أبادر إليها ، ما المانع ؟
وجده سؤالا بديهيا و غريبا في آن واحد ، ما الذي دفعه إلى الأحجام عن التعبير عن مشاعره طيلة هذا الوقت ، لماذا اعتبر أن التعبير خطأ لن تغفره ريم ، من أين جاءه هذا اليقين ؟
أسئلة كثيرة قلبت ابتسامته تجهما و تطلع للنافذة و صاح فجأة :
 لماذا لا تخرجين ؟
و عندما أيقن أنها لن تخرج كان قد قرر أمرا و أصر عليه ، سيراها غدا و يحادثها ما استطاع و يخبرها أيضا بما يشعر به عل في هذه المصارحة ما يخفف وطأة التغرب عن الذات الذي بات يشعر به مؤخرا ••

كان سعيد يقترب من ريم و على وجهه مسحة تجهم ، أو شيء من هذا القبيل ، كان يبدو أنه لم يحلق ذقنه منذ أيام ، و كانت الهالات السوداء تحيط بعينيه فتكسبهما عمقا غريبا ، عندما اقترب منها بادرته على الفور :
 أستاذ سعيد ما بك تبدو مريضا ؟
تسمر في مكانه ، حاول الكلام ، لم يستطع ، فتح فمه و عاد فأغلقه ، ماذا لو فقدتها إلى الأبد ، ماذا لو غضبت و ملأت الدنيا ضجيجا حوله ، ماذا لو اعتبرت أن حديثه أثر من ماضيه اللعين الذي تعرف عنـه الشيء الكثيــر ، سامحك الله يا مريم ماذا أخبرت ريم عني ؟

عادت ريم تسأله فقال بعد تردد :
 أنا بخير ، ما أخبارك أنت ؟
فقالت مبتسمة براحة :
 الحمد لله ، لقد نجحت فكرتك نجاحا منقطع النظير و ها أنا الآن أداوم في الجامعة كأي طالبة منتظمة ، و أصبحت لي شلتي أيضا ، أتعـرف لقد ضموني إلى شلة الشغب الجامعي ••
كانت تبتسم ابتسامتها الأثيرة و كان يطالع هذه الابتسامة بعيون سكنها جنون الرغبة في الاحتواء ، الرغبة في امتلاك هذا الكائن ، كان يريد أن يطلب إليها أن تصمت ، إلا من ابتسامتها و تمضي معه إلى حيث لا أرض و لا جدران و لا نوافذ ، لكنها لم تشعر بكل ما فيه ، و انهت حديثها سريعا و هي تمضي قائلة :

 لابد أن أمضي الآن ، ليتك تأتي الجامعة لأعرفك على زملائي الجدد ••
و مضت •• راقبها و هي تبتعد ، وقف طويلا بعد اختفائها ، كانت شعراتها مازالت تدغدغ أصابعه و ابتسامتها مازالت تدغدغ قلبه ، كانت صورتها مازالت ماثلة رغم اختفائها عن عيونه ، نبرة صوتها ، حماسها و عيونها اللامعة •• و انتبه •• لقد دعته ليزورها في الجامعة ، و لكن متى و كيف و أين سيراها ، لقد تركته دون إجابة و مضت ، مد يده ليستوقف طيفها فيسألها ، لكنها لم تكن هناك ، طوى يده في جيبه و مضى بدوره ••

اعتادت ريم على الذهاب للجامعة صباحا برفقة سوسن ، كانتا لا تتوقفان عن الكلام حتى تصلان إليها و عندها تنفــصلان فتذهب سوسن إلى شــلتها التي عرفتها أثناء غياب ريم و تنضم ريم إلى شلة الشغب الجامعي و يمضي الجميع إلى المحاضرات ، كان أحمد يتعمد دوما أن يجلس بجوارريم ، ووجد نفسه يبادر دائما ليجيب عن أسئلتها و يلاحظ كل صغيرة و كبيرة تقوم بها ، حتى عندما برزت ريم كطالبة فنانة و لاحظ الجميع اهتمام معظم الأساتذة بها كان أحمد أول من لاحظ اهتماما غير طبيعي نحوها من الدكتور محمد المتجهم دوما ، إنها الوحيدة التي يوجه لها الأسئلة الخاصة على الملأ ، و لا يتردد أبدا في توجيه عبارات مدح خفيفة إليها رغم أنها كانت نادرة ، ذات يوم انتبهت ريم لأحمد و هو يتأملها و عندما قالت :
  لماذا تنظر إلي هكذا ؟ هل سكبت العصير على ثيابي؟

ابتسم بمرح و قال ببساطة و كانا وحدهما تقريبا :
 لا ألومهم ••
فقالت متعجبة :
 من هم يا أحمد ؟
فقال بلامبالاة :
 الأساتذة ، و الزملاء و كل إنسان يعرفك ••
فقالت بهدوء :
 علام لا تلومهم إذن ؟
فقال :
 لا ألومهم على شغفهم الشديد بك ••
فقالت على الفور و بحدة انتبه لها من حولها في الاستراحة :
 ماذا تقول ؟
التفت حوله و قال بسرعة :
 ريم ، إنك ترفعين صوتك ••
هزت كتفيها و قالت :
  و لم لا •• أنت تتحدث بما لا يقال ••
 
تنهد بسرعة ثم مد يده عبر الطاولة فلمس أناملها و قال بسرعة :
  ريم أنا أحبك ••
 
سحبت يدها فورا و لملمت أغراضها و قالت :
 يبدو أنك مريض اليوم ، سأتركك لتراجع نفسك ••
سارت بسرعة دون أن تلتفت إليه فهز كتفيه و قال و هو يستريح في مقعده :
  أنا فعلا أحبها ••
 
قابلت هدى و سمر و هما قادمتان و عندما رأينها تغادر بادرت سمر بالسؤال :
 إلى أين ؟
 سأتمشى قليلا حتى موعد المحاضرة القادمة ••
 إذن خذيني معك ، أما أنت ياهـــدى فيبدو أن أحــمد بمفرده ، هل تحبين مرافقتنا أم الجلوس معه ؟
فقالت هدى على الفور :
 بل سأجلس مع أحمد
أمسكت سمر بذراع ريم و خرجتا و هي تقول :
 كنت أعرف أنها ستفضل ذلك ••
فقالت ريم باهتمام :
  و لم ؟
 
فقالت بسرعة و كأنها كانت تنتظر السؤال :

 لأنها متعلقة به ، إنه ابن الجــيران الذي كـــبرا معا و بينهــما ذـكريـات كثيرة مشتركة و دائما يقصانها علينا و يتندران بها ••
 و أحمد هل يحبها ؟
 لا أدري ، إنه يتشاجر كثيرا من أجلها ، و يحرص كثيرا على ألا تتصرف أي تصرف بعيدا عنه و يصر دائما علي معرفة مكانها إذا غابت ، لكن يحبها ؟ •• لست أدري ••
***
لم يشغل ريم كثيرا ما قاله أحمد خاصة لأنها كانت في هذا اليوم على موعد مع مواجهة كبرى في حياتها و موقف لم تنساه أبدا فيما بعد فقد كانت في طريقها إلى المحاضرة مع سمر عندما استوقفها سعيد •• اتســعت عيناها دهــشة لمرآه و خــاصة أن مــلامح الغضب و الانفعال كانت تكسو وجهه ، نظر إليها و قال متهكما :
 أخيرا ؟
همست :
 أستاذ سعيد ما بك ؟
فقال بسرعة و بصوت عال :
 ليس بي شيء ، أنا بخير •• أم تحسبينني مجنونا لا ينام الليل من أجلك ؟
صاحت :
 استاذ سعيد ، ماذا تقول ؟
شدها من يدها فآلمها و قال بصوت عال :
 أبحث عنك منذ أسبوع على الأقل ، في كل يوم آتي إلى الكلية و أبحث عنك في أرجائها و لا أجد لك أثرا ، أين كنت ؟
انتزعت نفسها منه بقوة و قالت لسمر بحزم :
 سمر اذهبي أنت أنا سأتحدث قليلا مع الأستاذ سعيد ثم آتي إلى المحاضرة ••
وجدت سمر تنظر إليها دهشة مما يجري فقالت بسرعة :
 الأستاذ سعيد جارنا و صديق العائلة ••
هزت سمر رأسها و همست و هي تبتسم :
 جاركم ؟ •• حسنا سأذهب لانادي الجميع ، لا تنسي نحن بانتظارك
 حسنا ••
مضت سمر فنظرت ريم إلى سعيد بغضب و قالت :
 هل يمكنني أن أعرف سر هذا التصرف الغريب منك ؟
نكس سعيد رأسه و قال بصوت هاديء :
 آسف لقد جن جنوني عندما بحثت عنك طيلة الأسبوع الماضي و لم أجدك ، لا تنسي أنت طلبت إلي الحضور ••
 أنا ؟
هز رأسه فتنهدت و قالت :
 لا بأس ، و ها قد وجدتني ماذا تريد ؟
 أريد أن أحادثك ••
زفرت و قالت :
 كما سمعت لدي محاضرة ••
صاح مجددا :
 اتركيها ، لن تطير الدنيا إذا لم تحضريها ••
نظرت إليه و العجب و الغضب يملؤها :
 أستاذ سعيد ••!!
 تعالي ••
مرة اخرى أمسكها من ذراعها فيما يشبه الجذب و سار بها مبتعدا إلى حيث الساحة المشجرة و أجلسها على الأريكة الخشبية المظللة و جلس بجوارها •• ظل صامتا لبعض الوقت فيما بقيت هي تنظر إليه محتارة فيما يجري غير مصدقة له و عندما همت بالكلام قال بهدوء دون أن ينظر إليها :
 ريم •• منذ متى أعرفك ؟
تطلع اليها •• هزت كتفيها و لم تجب فقال :
 منذ ستة أشهر و ثلاثةأيام بالضبط •• هل تعرفين معنى هذا ؟
و للمرة الثانية هزت ريم رأسها نفيا ، لم تكن تريد الإجابة ، لم تكن تريد ترسيخ إجابة تقرؤها في عيونه وفي تصرفاته معها منذ جاء •• قال و قد أطرق أرضا :

 إنه يعني أنني منذ ستة شهور أتقلب في نار من نوع خاص ، نار لم أكن أعتقد يوما انني سأعيش فيها •• ربما يدهشك هذا ، لكنني منذ اليوم الأول الذي اصطدمت فيه بوجهك الغاضب و كلماتك الجريئة عن كوني لا أصلح زوجا ، منذ ذلك اليوم و أنت ترافقيني في صحوي و منامي ، تبا ••• كم يبدو كلامي هذا مستهلكا ، كم يبدو غريبا تافها •• لكنها الحقيقة ، هكذا فجأة و بدون استئذان أو ترتيب مسبق اقتحمت حياتي ، احتللت قلبي و عقلي ، و صرت الآمرة الناهية فيه •• نوع غريب من الحب ، يملك علي حواسي ، يفقدني السيطرة على ذاتي ، حب يشبه أن ترشف الكأس حتى الثمالة ، أن تشرب الضوء حتى الاحتراق ، أن تعيش حتى الموت ، و مع ذلك لا أجد فيه غضاضة ، لا أرى فيه عجبا ، لا أحس فيه مستحيلا •• هل تفهمين ؟
نظر إليها و كانت تنظر إليه •• لم يكن ما قاله مجهولا لديها •• كانت تعرفه و تستطيع إن أرادت أن تصفه بأفضل مما وصف ، إنه حقا كما قال حب تسليم الإرادة طوعا لمن تحب •• هذا ما شعرت به و ما عرفته منذ أن عرفت سعيد ، في رصدها الدائم لخدماته و تحركاته و تفانيه في العمل من أجلــها بالفكر و الحـــركة و السؤال و التنفــيذ ، لقد عرفت كل هذا و أكثر و توقعت كل هذا و أكثر •• لكن تظل المفاجأة قائمة فقد كانت مواجهة مبكرة جاءت أسرع مما توقعت ••

هزت رأسها تفهما ، فأخرج زفرة ارتياح و عاد بظـــهره إلى الخـــلف و تطـلع إلى السماء و قال و هو يأخذ نفسا عميقا :

 ياه ه ه ه •••• !!!
ظلت صامتة لبعض الوقت تتنازعها رغبة قوية في قول كل ما تريد قوله ، في وصف ما تشعر به ، تريد أن يعرف ما تعرفه لترتاح ، لكنها لم تجرؤ على الكلام و سمعته يهمس :
 هذا ما كنت أريد •• هذا ما كنت أريد حقا ••

عندما صارحت ريم أمها بكل ما حدث معها هذا اليوم ، كانت تهدف إلى أمرين أولهما أن تتخفف من كل ما سمعت ، اعتراف أحـــمد اللامبالي بالحـــب كأنه يتحدث عــن الطقــس و اعتراف سعيد الممزق بالحب ، و الأمر الثاني هو أن تفضي لها بمشاعر لم تستطع أن توصلها لكليهما و خاصة سعيد •• سمعت الأم كل ما قالته ريم ، كان عقلها يعمل بسرعة ، استشعرت قلــقا مفـاجئا على ابنتها البكر هاهي تدخـــل معترك حيــاة جديدة لم تألـــفها و يتحدث معها الرجال عن الحب و كأن الجامعة مكان لتلقي العلم و الحب سألتها بحذر :

 هل كان لابد أن يحدث ما حدث يا ريم في النصف الأول لدراستك في الجامعة ، إنك لم تكملي شهرين بعد فيها ، أين تذهبين ؟ ••• جامعة أم منتزه عام ؟
ابتسمت ريم لأمها مطمئنة و قالت بهدوء :
 هذه الأمور تحدث دائما و بالنظر إلى علاقة سعيد بنا منذ ستة أشهر فهو أمر متوقع نسبيا ، أما أحمد فربما لأنه شاب طائش لا يحسن التعبير إلا بالمباشرة ، أو لأن المباشرة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يعبر لي بها عن مشاعرألفة سرعان ما أحسها تجاهي فسرها بالحب و هي أبعد ما تكون عنه ، كما أنني لا يعنيني أحمد هذا في شيء
 و يعنيك سعيد ؟

خفق قلب ريم اضطرابا بعد سؤال أمها المباغت ، على أنها ابتسمت مجددا و قالت بهدوء:
 سعيد يا أمي حالة خاصة ، حالة لا أستطيع وصفها ، منذ عرفته و أنا متأكدة أن هناك رباطا جمعنا ، غير أنه ليس رباط الحب ، أو ربما هو الحب من جانبه ، أما من جانبي فهو شيء مختلف ، مختلف لكنه عظيم ، إنه الإحساس به كرجل الحل الأخير ، الإحساس به كأنسان المهمات الصعبة ، الرجل الذي يملك مفتاحا لكل أزمة و يملك القيادة بكل اقتدار ، إنه بالنسبة لي نموذج لشيء لابد أن أتعلق به ، مثلما يتعلق الغريق بلوح طافي على وجه الماء ، هل تعتقدين أن هذا الغريق سيحب هذا اللوح رغم أنه المنقذ ؟ سيرتبط به ارتباطا آخر ارتباط استمرارية الحياة ، أو فلنقل ارتباط حتمي من أجل أن تستمر الحياة •• هل تعتقدين أن جدارا يحمي الرأس من العاصفة و الامطار يمكن أن يعيش قصة حب مع من احتمى به ؟

  سعيد ليس لوحا من خشب أو جدارا من حجر ، إنه إنسان ، لحم و دم و هو يحبك فكيف تصفينه هذه الأوصاف ، أصابك الغرور يا ابنة جهاد ؟

ردت ريم بسرعة :
 لا يا أمي ، أنا لم أصف سعيد بهذه الاوصاف للتقليل من شأنه ، و إنما أردت أن أقرب لك الصورة التي أراه عليها ، خانني التعبير ، إلاأنني بالفعل أعتبره شيئا عظيما في حياتي ، عظيم و أبعد من مجرد رجل و امرأة و قصة حب ، لا أريد أن تختفي هذه المعاني و المشاعر لتحل محلها مشاعر أخرى و معان أخرى تبعدني عنه و تبعده عني ••
 لا أفهم سوى أن هذا الرجل يحبك و ما أعرفه أن الحب بداية ارتباط و ما أنا متأكدة منه أنه ارتباط مرفوض كليا و جزئيا ، ليس مني فقط و إنما من أبيك و من كل ذي عقل ، لذا لابد أن يبتعد عنا ••
 و لكن أمي ؟
 هيا يا ابنتي ، بدلي ملابسك و صلي العصر و انتبهي لدراستك و ما حدث اليوم ينبغي ألا يتكرر و عليك بإيقاف هذا الطالب المستهتر عند حده و بمنتهى الحزم ، فهو مازال طفلا و المشوار أمامه طويل ••
***
انتهزت الأم فـــرصة غياب ريم عـــند ســوسن و أرسلت في طلـــب سعيد مع ابنها قاسم ، و عندما أجابها و حضر سريعا طلبت إلى قاسم أن يتركها معه وحدهما لانها تريده في أمر هام ، خرج قاسم و بقي سعيد يتطلع إلى الأم باهتمام و يتساءل عن سر هذه الدعوة الغريبة و لم تتأخر عليه الأم و بدأت حديثها فورا قائلة :
  أستاذ سعيد ، لقد دخلت حياتنا منذ فترة قصيرة ، لكنك أثبت لنا خلالها أنك نعم الأخ و الصديق و كنت في أحيان كثيرة أفضل من أقرب الاقرباء ••

ابتسم سعيد مضطربا و تمتم :
 ماذا حدث ؟
أكملت الأم :
 اخبرتني ريم بما دار بينكما مؤخرا في الجامعة ••
نهض سعيد منزعجا و صاح :
 أخبرتك ؟
فردت الأم بهدوء:
 نعم يا أستاذ سعيد ريم لا تخفي عني شيئا •• اجلس لو تكرمت ••
جلس سعيد مضطربا و سمع الأم تقول :
 لقد شعرت بأحاسيسك و هي تنمو باتجاه ريم ، و هو أمر متوقع نظرا لقربك الشديد منها في أشد الأوقات التي مرت بنا صــعوبة ، اقترابك مــن حاجــاتنا جعلــك فــردا منا و هذا هو ما دفعك لاعتقاد أن ما تشعر به حبا ، أليس كذلك ؟
أجاب سعيد بسرعة :
 لا •• ليس مجرد اقترابي منكم ، إنني أحبها و أشعر أن حبي لها كان معي منذ اليوم الأول لوجودي في الحياة ، هكذا أشعر بها ، إن ريم تملك علي كل مشاعري و حواسي ، إنني أحبها يا خالتي ، أحبها حقا ••
قالت الأم بحدة :
 لكن ريم صغيرة ••• يا أستاذ سعيد
فقال بسرعة :
 أنا لم أغوها ، أنا لا أريد بها شرا ، أنا لا أريد أن تتحول عما هي فيه ، أنا أحبها كما هي ، ولا أطمع في أكثر من أن تعرف هذا ، تعرفه فقط ، و لن أطلب أن تحبني هي بدورها •• صدقيني ••
لان صوت الأم قليلا و قالت بهدوء :
 و لكن ياأستاذ سعيد ، لا يوجد حب بلا هدف ، لا يوجد حب لمجرد الحب ، الفطرة السليمة تأبى هذا ••
فقال سعيد :
 إذا كان ما تعنيه هو خطبة ريم ، فهذا أمر أتمناه و أرغب فيه جدا و ليتكم توافقون ••
تلعثمت الأم و جلست و هي تقول :
 أستاذ سعيد ، يجب أن أكون صريحة معك ، لدي ألف سبب يدعوني إلى الوقوف في وجه تطور هذا الشعور عندك ، ليس آخرها أنك رب أسرة و لديك ثلاثة أطفال يحتاجونك و إن انفصلت عن أمهم ، و ليس بسبب ما سمعته عنك و ما عرفناه عن ماضيك الذي هو كفيل بإخافة كل فتاة ترتبط بها ، إذ سيظل مصير الأولى بأطفالها الثلاث ماثلا أمام العيون و قد ينغص على زوجتك الجديدة حياتها •• و لكن ريم فلسطينية و هي ابنتنا الأولى ، ثمرة كفاحنا و جني العمر كله ، وضعنا فيها أحلامنا ، و من خلالها نريد تحقيق هذه الأحلام ، نريد أن نحقق ما لم نستطع تحقيقه لأنفسنا ، نريد أن نراها في أفضل المراكز العلمية و العملية ، وحين تتزوج نحلم أن يكون زوجها خالصا لها ليس لديه أسرة كبيرة العدد من لحمه و دمه بانتظار اقتسامه معها •• اعذرني يا بني ، لكنها الحقيقة •• أنت لا تصلح لريم ، و ريم لا تصلح لك ••
همس سعيد متألما :
 و لكنني أحبها ••
فقالت الأم برفق :
 و المحب الحقيقي يبحث دوما عن سعادة من يحبها و يعتــبر أن سعادتها سعادة له حتى لو لم تكن معه ، فهل حبك من هذا النوع ؟
فقال سعيد بعد أن رفع عيونا لامعة مغسولة إلى الأم :
 بل هو أكثر بكثير مما تتخيلينه ••
ابتسمت الأم أبتسامة رضا و قالت بحزم :
 إذن اقطع علاقتك بها ، و لا تحــاول رؤيتها مجددا حتى لا تلهها عن حلمها و حلمنا الكبير ••
بضعف قال :
 و لكن ••
بقوة قالت و هي تتطلع اليه :
 أريد وعدا بذلك الآن ••
ظلت ترنو إليه فترة و هو يصارع نفسه ، يصارع رغبة عارمة في أن يقف أمام هذا القرار الظالم و يمنعه بكل ما أوتي من قوة ، رغبة في أن يصيح طالبا منها أن تكف عن تعذيبه و مطالبــته بما لا يطيق ، لكنه عوضـــا عن ذلــك وقف متخاذلا و لم ينظر إلى الأم و مضى قدما نحو باب الخروج فنادته الأم :
 أستاذ سعيد ••
التفت إليها و همس بصوت سمعته :
 أعدك ••
أغلق الباب خلفه فتنهدت الأم ارتياحا و حمدت الله ••
***
لم يعد أحمد إلى الكلام عن الحب لريم أو لغيرها ، إلا أنه بات يتعامل مع ريم كأنها تخصه وحده و لاحظ الجميع ما اعترى أحمد من فتور تجاه هدى و ما جد عليه من أمور تخص ريم ، و ريم لاحظت بدورها ، لكنها كانت تتعمد تجاهل الأمر برمته ، و تعتبر أن ما تفوه به ذات يوم إنما كان من قبيل المزح الذي تجيده هذه الشلة عموما ، و في هذه الاثناء توطدت أكثر علاقتها بالدكتور محمد الذي طلب إليها أن توافيه في مكتبه ليكمل لوحة رسمها لوجهها ، و كم فوجئت عندما رأت تلك اللوحة الصغيرة و عليها وجها يشبه وجهها و لكن تلك الملامح كانت تحمل تحديا لا تدري من أين جاء به الدكتور محمد ، و عندما سألت الدكتور ماذا تفعل ليستطيع هو أن يكمل رسمه قال لها ببساطة :
 لا شيء تحدثي فقط ••
و سألته عما تتحدث بشأنه ، فلم يعين أمرا قال لها :
 قولي كل ما ترغبين في قوله •• يهمني جدا أن تتحدثي
و لعل في هذا الطلب تحديدا يكمن سر اقتراب ريم من الدكتور محمد اقترابا كبيرا فقد كان هو الوحيد الذي عرف عنها كل شيء بمنتهى الدقة و التفصيل ، كانت تستغرقها الحكايات حتى التصريح بكل شيء ، و عندما اكتملت اللوحة ملونة و جميلة كانت تنطق بالجمال و التحدي الأعزل و الكرامة ، مزيج غريب لا يملك من يرى اللوحة إلا أن يرى كل هذا فيها و عندما رأتها في شكلها النهائي صاحت :
 ما أجملها •• إنك فنان بحق يا دكتور •• ليتني أستطيع أن احتفظ بها ••
قال الدكتور محمد و هو يعيدها إلى مكانها بحرص :
 لا يمكن •• سوف تكون ضمن لوحات المعرض السنوي الذي تقيمه الكلية آخر العام ، يمكنك فقط أخذ صورة عنا عندما ننتهي من صنع الملصقات الخاصة بالمعرض ••
قالت ريم بتردد :
 و هل لها اسم ؟
أجاب الدكتور بغموض و هو يعطيها ظهره إيذانا بانتهاء المقابلة :
 لاجئة ••
خرجت من الغرفة تتعثر في كلمة الدكتور ، لاجئة ، هل استسلمت طيلة المدة السابقة ليرسمها فنان كل هدفه ترسيخ ضياعها ، هل قصد الدكتور بهذه اللوحة أن يطلعها على حقيقة ذاتها ، أن يفضح تلك الذات ، أن يكرس اللجوء و الانكسار مجددا فيها ••
كانت شلة الشغب الجامعي بانتظارها ، و في عيونهم نظرات غير مرحة اطلاقا ، قالت هدى فور وصولها :
 غريبة لم تطل جلستك لدى الدكتور محمد اليوم ••
نظرت إليها و لما أوشكت على الرد قال فؤاد :
 من عادته أن يمل سريعا ••
نظرت اليه بدهشة ممزوجة بالغضب و قبل أن ترد كانت لكمة من أحمد على وجهه هي الرد الذي وصله بالفعل ، تعالت صيحات الاستنكار من الباقيين و صاحت ريم :
 لماذا ضربته ؟
فقال أحمد و هو يشدها من يدها :
 فؤاد لم يكن مخطئا ، أنت من أعطيته الفرصة ليقول و أعطيتي الفرصة لعشرات غيره ليقولوا ••
نزعت يدها بعنف من يده و صاحت :
 يقولون ؟ يا لكم من تافهين ، هل تعتقدون أن كل علاقة إنسانية يمكن أن تنشأ بين اثنين هي بالضرورة علاقة حب ؟
رد أحمد بغضب :
 إذا كانت بين طالبة جميلة و أستاذ يمر بمراهقة متأخرة ، نعم لا اسم آخر لها ••
قالت ريم محاولة التوضيح :
 لكنكم تعرفون أنه يرسم وجهي ••
قال فؤاد و هو يفرك فكه :
 أنت هنا طالبة و لست موديلا للرسامين ، و هذه سابقة هي الأولى من نوعها هنا حسب علمي ، فهل أعطاك أجرا على الرسم ؟
في هذه المرة اتقى فؤاد لكمة أخرى كادت تصيبه من أحمد و ركض مبتعدا و هو يقول :
 إذا كنت بهذا الحرص عليها فنبئها بما يقال عنها ، هذه الوافدة الثرية المدللة ••
تطلع أحمد إلى ريم فوجد سحابة دمع تترقرق داخل عيونها أطرق قليلا و قال :
 ريم ، لوضعك بيننا خصوصية معينة ينبغي أن تنتبهي لها ، فلقد صحب دخولك الجامعة ضجة لفتت الأنظار ، و كان لظهورك متأخرة في المحاضرات أثر في لفت إنتباه كل دكتور أو أستاذ يدخل إلينا وإن وجها جديدا عانى من أزمة مع العميد ، و كانت الأسئلة الموجهه إليك في كل مرة تدير رؤوس الطلبة إليك ، فإذا أضفت على كل هذا جاذبية خاصة تتمتعين بها ونظرة خاصة ينظر بها المجتمع إلى الوافدات من فلسطين تحديدا و إلى الذين يعمل أهلوهم في الخارج ، رأيت مدى خصوصية وضعك و عرفت أنك تحت المجهر دائما ، ناهيك عن أن الدكتور محمد له وضع خاص فهو رجل عرف بالتجهم الدائم و القسوة في تعامله مع الجميع فلماذا يعاملك بهذه الطريقة ؟
نظرت ريم إليه و سيل الدموع يتراكض على خدها و نظرت للباقين أيضا فرأت مصداق حديث أحمد ، فأدارت ظهرها لهم و ابتعدت ••
عبارة واحدة كانت تــتردد في ذهــنها و تسقط أرضا مع دموعها ، عبــارة بللت سكيــنتها و هدمت بكل قوة صرح أمانها :" لو كان لي وطن •• لو كان لي وطن ••"
***
فلسطين أرض باعها أبناؤها •• عبارة وقفت طويلا أمام فلسطيني اللجوء ، يسمعونها من كل شخص يريد أن يقدم تبريرا لقسوته معهم ، تبريرا لضميره قبل أن تكون تبريرا للفلسطيني ، عبارة سمعتها ريم كثيرا و حارت في أمر الإجابة عليها ، كانت ترفض التهمة لكنها لا تملك براهين تثبت بها أنهم كاذبون ••و استطاع الإعلام أن يرسخ هذه الصورة أكثر عندما كان يحدث ما يعكر العلاقات بين الفلسطنيين و المصريين على المستوى الرسمي ، إذ كانت الصحف تنبري لتحويل الفلسطنيين إلى شعب من الخائنين باعوا أرضهم أو هجروها طوعا فاحتلها الصهاينة ••و أصبحت الصورة الموجودة بقوة في أذهان الأجيال الجديدة من العرب عن فلسطيني اللجوء هي أنهم أشخاص مترفون متخمون ، أموالهم بالملايين و بأسهم بينهم شديد •• و كان على ريم و من على شاكلتها مجابهة كل هذا بدون سلاح ، حتى المعرفة كان نبعها نفس المورد الذي يغترف منه الآخرون ، إعلامهم ، و درجة الرضا أو الغضب منهم ، لذا لم تكن تستطيع الرد ، و جاء عمل أبيها في السعودية لكي يلصق بها نفس الصفات ، و أصبحت في قرارة نفوس معظم زملاء الجامعة فلسطينية من أولئك الثريات اللواتي فقدن مع غياب الأب أي رادع لهن عن فعل الخطأ ، أو أن هذا على الأقل ما تبينته ريم من حديث زملائها إليها و من صيحة فؤاد عن الوافدة المدللة الثرية •• استطاعت في هدأة الليل أن ترى الصورة كاملة ، الصورة التي يراها فيها معظم الناس ، تألمت كثيرا ، شعرت أن بونا شاسعا يفصلها عن مجتمع تعيش فيه ، تريد أن تنخرط فيه و تنتمي إليه فيرفضها و يضعها داخل بوتقة خيالية يغذيها بالأكاذيب ، إن حكما مسبقا ينفذ عليها لم يتنازل أحدهم يوما ليقدم لها حيثياته ، و تذكرت حين بكى قاسم من عبارات قالها زميله عن أنهم آووه و حموه من الضياع •• وتذكرت ابن عمــها تامر ، أمسكت أوراقها و قلمها و بدأت في الكتابة اليه فورا :
ابن عمي العزيز / تامر
فرق كبير بين إحساسي عندما كتبت لكم الرسالة الأولى و بين إحساسي الآن و أنا أكتب الثانية ، رغم أن ما يفصل بينهما لا يتعدى الشهور القليلة ، صدقني يا ابن عمي لو كنت أعرف ما عرفت خلال هذه الشهور ما أمسكت قلمي لأكتب إليكم في محاولة بلهاء لإحياء إنتماء أسري فقد مع مرور الزمن قيمته و معناه ، إذ ما معنى أن نتواصل كتابة ، ما معنى أن أحدثك بآلامي و تحدثني بآلامك دون أن يستطيع أحدنا أن يحطم آلام الآخر •• صدقني يا ابن عمي إنني أرى في كل ما نفعله هراء و مضيعة للوقت و الجهد ، لن تغير كثيرا من واقع يسيطر علينا و يطحننا و يشكلنا عجينة طرية ، واقع يعطينا أسماء غير أسمائنا ، و ملامح لا تشبهنا و صفات لا علاقة لنا بها •• أتصدق يا ابن عمي أنني في نظر زملاء الجامعة مدللة ثرية وافدة ، باع أهلها أرضهم و أكل شعبها بعضهم ••
أنني أتألم •• ممزقة ، ساخطة •• رافضة •• أريد أن أحطم شيئا ما أريد أن أقتلع مذياعا يديننا و صحيفة تثبت علينا حكم الخيانة ، و رجل شارع يقول عنا زورا و بهتانا ، لكنني لا أستطيع ، ليس لدي الحجة ، تعلمت في مدارسهم و تربيت على وسائل إعلامهم ، و لولا أنني فلسطينية •• صدقني يا ابن عمي •• لصدقتهم ••
هذه رسالة ثانية و أخيرة ، لا أريد أن أعرف عنكم المزيد و لا أريد أن أعيشكم كائنات ضبــابية بلا ملامــح ، و لا أريــد أن أتعــذب بكم أنتــم أيضا يكفيني عذاباتي •• حيرتي •• و قسوة الناس علينا
ريم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى