الأحد ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم خالد خميس السحاتي

شواطئ الغربة

وحده كان يجلس مشتتا منكسرا في غرفة الضيوف بينما زوجته وطفليه في الغرفة المجاورة يتناولون طعام الغداء .. بدت الغرفة في حالة يرثى لها .. أوراق مكومة هنا .. وسجائر مرمية هناك .. وفوضى عارمة لم يشهد المكان لها مثيلا من قبل .. بح صوت الزوجة وهي تناديه ليتناول طعامه دون جدوى .. فقد أنساه ذاك الهم المنغص الذي ينوء بحمله طعم الراحة والأكل وحتى النوم .. امسك القلم القرمزي القديم .. تأمله بعناية وأعاد حساباته من جديد .. قلب صفحات ذاكرته المهترأة .. بحث في أوراقه المبعثرة .. غرق في بحور الوحشة الممتدة إلى ما لا نهاية ..

تأبط ذراع الوهم المرتعش .. علق في دائرة مغلقة لا مخرج منها .. بدا وحيدا ككائن تائه في كواكب النسيان البعيدة.. تساءل عن جدوى هذه اللحظات الباقية وعن قيمة الحياة كلها دون رفيق يخفف عنه وعثاء السفر .. بعد أن تشتت شمل صحبه عند أول محطة توقف فيها قطار الزمن ..ضاعت التذاكر وبطاقات الحجز والهوية في شواطئ الغربة ..وتبددت أحلام الصبا والشباب في مستنقع الضياع .. عندما قطع عنها إكسير الحياة .. وتركت مرمية هناك عند مفترق الطرق لا يأبه احد بها .. ولا يكلف نفسه حتى بإلقاء نظرة عليها .. أو إسدال تراب الخيبة على رفاتها .. ذهبت وعود الأصدقاء وأصواتهم ونكاتهم وأمنياتهم أدراج الرياح ..ولم يعد احد يسأل عن احد..تسربت صور الماضي الباهتة إلى نوافذ ذاكرته التي نسي أن يغلقها قبل أن يطل عليها الليل بظلامه الحالك .. تشابكت خواطره المشوشة .. وتراشقت بحبات الوهم القاتل .. فاختلط الحابل بالنابل .. دخلت زوجته إلى الغرفة هالها ما آلت إليه .. صرخت في وجهه :ما الذي فعلته ؟ منذ الصباح الباكر وأنا ارتب البيت .. إلى متى لا تبالي بتعبي وتتجاهله بدم بارد ؟

بعد لحظات قليلة هدأت تلك الزوبعة التي أثارتها .. وعاد الجو إلى صفائه .. جلست بجانبه .. رمقته بنظرة عابرة .. ندمت .. تلعثمت .. تضاءلت حتى التماهي.. بحثت لنفسها عن مخرج .. تذكرت شيئا ثم قالت في هدوء : كفاك طرقا لأبواب الماضي ! عندها امسك الأوراق وتعمد أن يصرف بصره عنها..
ودون سابق إنذار شتت شملها وقطع أوصالها .. هربت الحروف والكلمات والأرقام من النافذة .. وخر دفئها مغشيا عليه .. بدا القلم القرمزي وجلا .. فكسره بحنق شديد .. وقام مسرعا دون أن ينطق ببنت شفة.. وخرج باحثا عن جزيرة نائية يرسو مركبه المحطم عليها .. فما لبثت شطئان الغربة تدعوه لسبر أغوارها من جديد ..توقف برهة تذكر طفليه اللذين عبق أريج حبهما في قلبه فجأة كزهرتين تفتحتا لتوهما في خربة عتيقة ملطخة بلون الرماد .. ابتسم بألم ثم غادر إلى هناك حيث لا تعبث أمواج التشظي بقوارب الكادحين .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى