الثلاثاء ٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
على ضوء نظرية التلقي
بقلم جميل حمداوي

المسرح الأمازيغي المغربي بمنطقة الريف

تمهيــــــد

من المعروف أن النقد البيوغرافي قد ركز كثيرا على المبدع والكاتب قصد فهم أعماله عبر استقراء شخصية المؤلف شعوريا أولاشعوريا أو استعراض أعماله من خلال ربطها ببيئته ووسطه الاجتماعي والتاريخي والاقتصادي والسياسي. كما عملت المناهج النصية بما فيها البنيوية والسيميائيات أن تتعامل مع النص الأدبي باعتباره علامات سمعية وبصرية قصد تحديد الثوابت البنيوية العميقة للنص وعلمنته تفكيكا وتركيبا ضمن مقاربة وصفية تهتم بشكلنة النص وتحليله بنيويا في إطار وحدة الخطاب اللساني. لكن سينتقل النقد الأدبي مع جمالية التلقي ومدرسة كونستانس CONSTANCEالألمانية (أيزرIZER ويوص JAUSS) من الاهتمام بالمؤلف و النص إلى العناية بالقراءة والقارئ قصد تبيان عملية التواصل والتفاعل الموجود بين كل من المتقبل والنص الإبداعي أو المتلقي والنص الوصفي لتقعيد عملية القراءة وفهم مكوناتها وآلياتها النصية والتأويلية.

وسنحاول في هذه الدراسة أن نستعين بجمالية القراءة بنوع من المرونة المنهجية لمعرفة ردود القراء والنقاد والجمهور أثناء تلقيهم لبعض العروض التي تحسب على المسرح الأمازيغي المغربي في منطقة الريف.

1- المســــرح والمتلقي:

يمكن أن نتنازل في المسرح عن كل المكونات التقنية والعناصر السينوغرافية والإكسسوارات ومناظر الديكور والماكياج والأقنعة والإضاءة، لكن لا يمكن لنا بتاتا الاستغناء عن ركنين أساسيين وهما: الممثل والجمهور، فلا مسرح بدونهما ولا وجود لفرجة درامية في غياب المرسل الركحي والمتلقي الشاهد ، ولا مسرح بممثل دون جمهور والعكس صحيح أيضا.

أ‌- المسرح اليونانـــي:

بدأت علاقة المسرح بالجمهور مع المسرح الإغريقي عندما كان المسرج طقسا احتفاليا يشارك فيه كل المواطنين اليونانيين من أجل تقديم قرابين الولاء والمحبة والطاعة لإله ديونيسوس إله الخمر. وما نظرية التطهير الأرسطية التي تستهدف التأثير على نفسية المتلقي سوى دليل قاطع على جدلية الفرجة والمتقبل. فالمسرح كما ينظر له أرسطو بإيقاعه التراجيدي لابد أن يؤدي وظيفة التطهير عن طريق إثارة الخوف والشفقة في المشاهد المحتفل لكي يتمثل القيم الفاضلة في التراجيديا ويتجنب الشر وما يتعلق به من قيم منحطة. وغالبا ما كان التواصل بين الممثل والمتلقي يتم بين الراوي le Chœur والجمهور الذي كان يجلس إما في مدرجات المسرح (ثياترون) المفتوح أو يتحلق حول الخشبة حيث الجوقة ( الأوركسترا) ومصطبة الممثلين. وكان فضاء المسرح يتخذ عدة أشكال هندسية ومن أبرزها نصف الدائرة ويمثله مسرح ديونيزوس.

وقد سجلت كتب تاريخ الفن مدى الإقبال الكبير على المسرح اليوناني إذ كان يحضره كل المواطنين الأحرار سواء أكانوا أغنياء أم فقراء. وكان الناس يستيقظون مبكرين مع الفجر لمشاهدة الفرجة التي كانت تبدأ مع الصباح حاملين معهم سلال الطعام والشراب قصد تتبع كل المسرحيات المعروضة التي قد تمتد حتى غروب الشمس، والتي كانت تعبر عن همومهم الذاتية وقضاياهم الواقعية ومشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويكفي أن نشير أن مسرح ديونيزوس كان يسع لما بين 15و17 ألف متفرج ولاسيما في عهد بريكليس الذي أنشأ الدولة- المدينة على أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومساواة المواطنين اليونانيين أمام القانون والعدالة. وهذا يؤكد مدى ازدهار المسرح اليوناني في العهد الكلاسيكي أيما ازدهار، والدليل على ذلك تسلح الممثلين بالسخرية والهجاء في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية بكل جرأة وشجاعة كما يتجلى ذلك في مسرحية "الضفادع" لأرستوفانوس.

ب‌- المسرح الروماني:

وبعد أن كان المسرح اليوناني له وظيفة تربوية وأخلاقية ووطنية، فقد أصبح المسرح في عهد الرومان لايؤدي سوى وظيفة الترفيه والتسلية وإثارة الجمهور بفخامة الديكور وعظمة المعمار المادي والسنوغرافيا الفخمة مع إبهار الجمهور المتفرج بتقنيات عالية في تشغيل الفرجة كاستخدام الطيور والحيوانات وتنفيذ مشاهد حريق حقيقية وإضرام النار في الديكور؛ مما كان لهذا المسرح تأثير سيء على الجمهور وذوقه.

ج- المسرح في العصور الوسطى:

اضمحل المسرح في العصور الوسطى وأصيب بوقفة قلبية مع هيمنة الكنيسة على شؤون الحياة ودواليب الثقافة ،لأنها حرمت ممارسة المسرح واستهجنت كل من يمارس التمثيل. وعلى الرغم من ذلك، فقد ارتبط المسرح بما هو ديني وأخروي، وتم تغييب أسس الدراما اليونانية والرومانية والانسلاخ عنهما لربط كل ماهو تشخيصي ولعبي بالكنيسة والقداس المسيحي.

وفي المقابل، كانت هناك بعض النصوص الكوميدية الهزلية التي تناقش بعض المواضيع في إطار رؤية أخلاقية دينية. ويعني هذا أن المسرح في العصور الوسطى كان له تأثير ديني وأخلاقي وروحي على الجمهور ليس إلا.

د- المسرح في عصر النهضة:

توجه المسرح إبان عصر النهضة إلى الجمهور المثقف العالم أو النخبة الأرستقراطية المثقفة ، وكان عدد أفرادها محدودا وخاصة في إيطاليا التي عرفت ببناء المسارح الضخمة بعمارتها الباروكية الرائعة وزخارفها الموحية بالجمال والفن الجذاب. وقد شكل المسرح الإيطالي فضاء ركحيا دراميا قائما على هندسة الجدران الأربعة، وأصبح ذلك المنظور الهندسي فضاء للمسرح الغربي إلى يومنا هذا وسمي بالعلبة الإيطالية.

ومن جهة أخرى كان الجمهور الشعبي متعطشا إلى مسرح من نوع آخر قريب من الفئات الشعبية وهو مسرح الكوميديا المرتجلة أو الكوميديا دي لارتي (Commedia dell’arte).

وقد كان للكتاب الإسبانيين الدراميين كفيليكس لوبي دي فيـﮕا (Felex Lope de Vega )(1562-1635)، وبيدرو كالديرون دي لاباركا Pedro Calderon de la Barca ) (1571-1648) ، وتيرسو دي مولينا (Tirso de Molina) (1571-1648) تأثير كبير على الجمهور الإسباني وخاصة إبان العصر الذهبي الذي انتعش فيه الأدب الإسباني على جميع الأصعدة.

هذا، وتتأسس دراما القلنسوة والسيف لدى لوبي دي فـيـﮕا على صراع الحب والشرف والعمل على تحقيق التوتر والإثارة والتهذيب الأخلاقي بفضل قصصه الرومانسية ذات الطابع الفروسي ، وهذا ينطبق كذلك على مسرح تيرسو دي مولينا وبيدروكالدرون.

وعمدت مسرحيات شكسبير إبان المسرح الإليزابيثي إلى التأثير على جمهور التراجيديا الإنجليزي بفعل قوة كتابة شكسبير الأدبية والفنية وإقبال الجمهور على مسرحه الذي حقق شهرة كبيرة وروعة جمالية مازالت تترك وقعها الفني الرائع على القراء والمعجبين بقاعات المسرح والفرجة الدرامية الإنجليزية.

وقد سار المسرح الفرنسي سيرا حثيثا في تمثل الأهداف الدينية والتربوية مع ممارسة النقد الكوميدي والسخرية على غرار الكوميديا المرتجلة الإيطالية مع احترام قواعد المسرح الأرسطي. وقد انتقل المسرح من المدينة إلى الأرياف مع رائد المسرح الفرنسي موليير الذي بدأ التجوال بمسرحه المتنقل في الضواحي والأرياف لمدة اثني عشرة سنة. وكان للمسرحي الساخر موليير تأثيركبير على الجمهور الفرنسي بمسرحياته الكوميدية التي تثير الضحك والمتعة والتسلية مع تقديم الفائدة الواقعية والجمالية. وبهذا يكون موليير قد أسس المسرح المتنقل أو المسرح المتجول دون أن ننسى ماتركه المسرحيان الفرنسيان الآخران كورناي وراسين من أثر ووقع جمالي على جمهور المسرح الكلاسيكي الفرنسي.

هـ- المسرح التجريبي:

مع القرنين الثامن عشر والقرن التاسع عشر، سينحو المسرح الأوربي منحى تجريبيا بالثورة على قواعد المسرح الأرسطي، ورفض فكرة المحاكاة، ونبذ الوحدات الثلاث، وتجاوز نظرية اندماج الممثل في دوره ، كما يظهر ذلك واضحا في انبثاق المدارس الأدبية والفنية والدرامية كالواقعية والرومانسية والطبيعية والرمزية والدادائية والسريالية والمسرح الوجودي ومسرح اللامعقول والمسرح الشعري ومسرح الخبز والدمى ... تلك المدارس التي بدأت تشكك في مصداقية المسرح الأرسطي بدءا بمسرح شكسبير الذي حقق انزياحا فنيا على معايير المسرح اليوناني وما كتبه ديدرو حول مفارقة حول فن الممثل(1830) الذي طعن في صحة مفهوم الاندماج.

هذا، وتشكل مسرحية "هرناني Hernani" لڤكتور هيـﮕو Victor Hugo تخييبا لأفق انتظار الجمهور والقراء على حد سواء؛ لأنها كسرت الوحدات الأرسطية الثلاث. كما جنحت المسرحيات الألمانية مع ليسينغ (Lessing ) إلى الجمع بين الأنواع والأجناس وعدم الفصل بينها .

وإذا كان المسرح الكلاسيكي قد عود جمهوره على ذوق معين ووقع جمالي خاضع لمجموعة من قواعد المحاكاة والاندماج ومراعاة الوحدات الثلاث ومراعاة تطلعات وأعراف جمهوره، إلا أن المسرح التجريبي خلخل هذا الوقع الجمالي وخلق مسافة جمالية بين المبدع الدرامي والمتلقي وخيب أفق انتظاره مع التيار الرومانسي والمسرح الشكسبيري اللذين ثارا على كل قواعد المسرح الكلاسيكي.

وإذا انتقلنا إلى المسرح الطليعي، فإنه سيؤسس ذوقا جديدا على مستوى التلقي والتقبل المسرحي ، ولاسيما مع مسرح اللامعقول الذي أعلن تمرده الكامل عن كل مقاييس منطق الجمال الأرسطي ومقومات الفن الدرامي الكلاسيكي المعروف في بلدان أوربا وخاصة مع صموئيل بيكيت وأداموف ويونيسكو وأرابال. فقد أدهش هذا المسرح التجريدي الطلائعي الجمهور بثورته العارمة على قواعد المسرح الإغريقي وارتكانه إلى اللامبالاة والتجريد والعبث وإشاعة الفراغ وفلسفة الملل والصمت وتغريب الواقع. وبذلك تغير ذوق الجمهور جذريا مع هذا المسرح الذي انزاح عن المسرح الأرسطي فنيا وجماليا . وترتب عن هذا الذوق الجديد أن تبني الجمهور الأوربي بعد الحرب العالمية الثانية أعرافا جديدة في التأقلم مع هذا المسرح الطليعي.

وإذا كان الجمهور قد أعطى أهمية كبرى للمؤلف وبعد ذلك للممثل النجم مع المدرسة الرومانسية، فإنه في فترة المسرح التجريبي ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر سيعطي الجمهور الأهمية للمخرج الذي سيتكلف بتنظيم العملية السينوغرافية وتأطير ممثلي فرقته وتكوينهم تكوينا حسنا.

وستتبلور نظرية التفاعل بين الممثل والمتلقي مع المخرج بريخت الذي أعطى أهمية كبرى للمتلقي عبر تكسير الجدار الرابع وتعويض مفهوم الاندماج بمفهوم التغريب والتباعد مع إشراك الجمهور في المسرحية عن طريق إثارتهم عقليا وحجاجيا ، وحثهم على مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية متبنيا في ذلك المادية الجدلية وتوجيه الخطاب السياسي المباشر إلى الجمهور. وقد تأثر بريخت في ذلك ببسكاتور وبيتر فايس.

وقد عمل المخرج الفرنسي أندريه أنطوان على تكسير الجدار الرابع لخلق ستار شفاف يسهل التواصل الحميمي بين الممثل والجمهور. أما ستانسلافسكي وميرهولد وﮒروتسكي فقد عملوا على تكوين الممثل بطريقة حرفية صارمة وتدريبه على الأداء الصوتي والحركي واللعبي من أجل إقناع المتفرج والتأثير عليه بتمتيعه وإفادته على حد سواء.

وعمد المخرجون الطليعيون كـﮕريـﮕ وآدولف آبيا وأرتود وبيتر شومان وبيتر بروك إلى استحضار الجمهور في عروضهم الإخراجية، نظرا لاهتمامهم بتجويد أعمالهم وإتقانها وتأهيل الممثلين لينفتحوا على المسرح الشامل قصد المساهمة في خلق ذوق مسرحي جمالي جديد وتأسيس عرف جديد في القراءة الدرامية والسينوغرافية قصد الرفع من مستوى المتقبل والمتذوق للمسرح الطليعي الذي ثار على المسرح الغربي مسترفدا المسرح الشرقي. كما عمد هذا المسرح إلى استكشاف مسرح أنتروبولوجي موغل في البدائية يستعمل العنف والقسوة في ردع نوازع الشر والانفعالات الغريزية السيئة لدى متلقي الفرجة الدرامية وخاصة مع أنطونين أرتو.

و- المسرح العربي والجمهور:

إذا انتقلنا إلى المسرح العربي لرصد علاقته بالمتلقي على مستوى التواصل، فإنه قد اهتم كثيرا بالجمهور منذ مسرح أبي خليل القباني الذي كان جمهوره من عامة الناس حيث اتخذ المقهى فضاء للفرجة الدرامية والتلقي المسرحي. وقد استهدف سعد الله ونوس كذلك التأثير على جمهور عروضه متبنيا في رؤيته الإخراجية مسرح التسييس الذي كان يرتكز بدوره على مجموعة من الوسائط الفنية والجمالية كالمادية الجدلية والمسرح البريختي والتغريب، وكانت كل هذه الوسائل من أجل تنوير الجمهور وتوعيتهم ودفعهم إلى التغيير. ويقول سعد الله ونوس في هذا الصدد:" إن المتفرج يستطيع أن يقوم بدور إيجابي كبير في توجيه المسرح، وعلينا أن نعلمه كيف يقوم بهذا الدور، وأن نشجعه على الاضطلاع به بشكل فعال، حتى يتحقق لنا فعلا توجيه المسرح، وتقويم أساسه...

ولكي يقوم المتفرج بهذا الدور ينبغي أن يتغير هو نفسه، وأن يمارس دوره كمتفرج بطريقة جديدة ومختلفة عما نعرفه حتى الآن في متفرجينا...". [1]

وإذا كان المسرح العربي الكلاسيكي أو المسرح التجاري المصري قد استهدف دغدغة عواطف المتفرج وترفيهه فنيا بكوميدياته الساخرة وتسليته بهزلياته الكاريكاتورية وملاهيه الانتقادية وعروضه الدرامية الشعبية، فإن المسرح الجاد وخاصة المسرح الاحتفالي قد جعل المتفرج محور اهتماماته واعتبره عنصرا فعالا وشخصا محتفلا يشارك في ارتجال العرض وبنائه من جديد والمساهمة فيه بتدخلاته وإبداء آرائه والدخول في حلبة التمسرح عبر تكسير الخط الفاصل والجدار الواهم للمشاركة بعرضه المنطوق ولغته الجسدية وتمثيله اللعبي.

أما فيما يخص المسرج الجامعي، فإنه مسرح تجريبي ثقافي لا يخاطب سوى فئة من الطلبة والأساتذة الجامعيين المثقفين الذين يعتبرون المسرح تشكيلا فنيا جماليا وخطابا بصريا يستلزم ملء نقط فراغه وتأويله والبحث عن خصائص المسافة الجمالية وشعرية الانزياح الدرامي وأسرار بلاغة انتهاك الوقع الجمالي . بينما المتلقي في مسرح الطفل أو المسرح المدرسي فهو من نوع آخر قد يكون طفلا أو تلميذا، لذلك نجد التلقي عنده مبنيا على التصفيق والضحك والصفير و الصمت و الخوف والتأمل والإحساس بالرعب أثناء معايشة الدور سواء أكان دور تطهير أم دور تغريب.

وخلاصة القول: لقد ارتبط المسرح بالجمهور منذ ظهور المسرح لأول مرة في تاريخ البشرية، وقد تطور هذا الارتباط عبر تطور المسرح الغربي والعربي والشرقي في إطار بنيتين متناقضتين وهما: البنية الأرسطية وبنية التجريب . وسينتقل الذوق المسرحي تبعا لهاتين البنيتين من ذوق كلاسيكي يتكيف مع المسرح الأرسطي ومعاييره المقننة بمبدأ المحاكاة إلى ذوق طليعي مبني على الانزياح وخلخلة السائد والإعداد لتأسيس ذوق آخر أكثر حداثة وتثويرا.

2- المسرح الأمازيغي على ضوء جمالية التلقي:

أ- مسرحية" ثشومعت/ الشمعة" وتأسيس الذوق الجمالي

قدم نادي مسرح الشباب بني أنصار يوم23 مارس 2007م مسرحية "تشومعت/ الشمعة" في نسختها الثانية بالدار الشباب بأزغنغان، بعد أن اشترك بها النادي في الإقصائيات الإقليمية لمسرح الشباب بالناظور وحصل بفضلها على الجائزة الثانية بسبب غنى العرض بالنظريات المسرحية والتقنيات الإخراجية الدسمة. وقد ألف الشاب الصاعد عبد الواحد الزوكي هذه المسرحية وأخرجها على ضوء تصورات إخراجية جديدة، أما السينوغرافيا فهي من توقيع جبران الملوكي. وقد استفاد مخرج المسرحية من الأخطاء التي وقع فيها سابقا وأعد عرضا رائعا ومتميزا ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رغبة شباب فرقة النادي وإصرارهم على تجاوز السلبيات من أجل تقديم فرجة سينوغرافية متكاملة وحبهم للعمل الجماعي وعشقهم لفن المسرح وفعل التمسرح.

وعليه، فالمسرحية تناقش قضية الأرض والهوية الأمازيغية والصراع بين الخير والشر والدعوة إلى السلام والمحبة. كما تجسد تيمة اليتم بكل معانيها المجازية والتجريدية. إذ تدين المسرحية التهميش والإقصاء والنبذ وإقصاء الإنسان الأمازيغي منذ ولادته حتى موته. وهذا ما يجعل هذا الإنسان يعاني من الظلم والغبن الذي يمارسه الآخر ضده. وبالتالي، يحس باليتم في جميع مظاهر الحياة وعلى جميع الأصعدة والمستويات. كما تصور الحياة السوداوية التي وصل إليها الإنسان ولامبالاته وعبثه مع انحطاط القيم وتردي المثل وانبطاح الفرد أمام متاريس الجهل والفقر والجشع والطمع وتغريب الآخر.

وقد وظفت المسرحية الضوء الأسود للتأشير على مسرح القسوة كما عند أنطونين أرتو وشغّلت التجريد العبثي كما في مسرح اللامعقول والمسرح المنفتح على الحضارة الشرقية وذلك بتوظيف التنين الصيني وكرسي الاعتراف . وشغلت المسرحية الكوليغرافيا بدقة متناهية في الروعة وتفوقت في الانتقال فوق خشبة الركح دائريا وعموديا وأفقيا وتقاطعيا، كما استعانت المسرحية بالموسيقا الوظيفية والأغاني المؤثرة والإيقاعات المتناغمة الدالة برمزيتها وأبعادها السيميائية. والتجأ الممثلون إلى الماكياج لتشخيص الأدوار التي أنيطوا بها بصريا ولسانيا وسيميائيا، وقد عكس هذا الماكياج البصري بدقة وأصالة ما كانوا يريدون التعبير عنه.

وتبدأ المسرحية ببرولوج حركي طويل في إيقاعه، وقد كان في شكل كوليغرافيا صامتة جنائزية تعقبها أغنية تراثية وهي "هلاليرو" تحيل على عالم النوم وحنان الأم والاستعداد لليقظة والانفتاح على توهج الحياة. وقد صاغها المخرج في طابع سينوغرافي مأساوي كما تبين ذلك الأزياء السوداء المشحونة بالتوتر والحزن. وفي هذا الظرف الصامت أحس الجمهور بالرهبة والخشوع والتوتر والتأزم النفسي والمعايشة الوجدانية الحقيقية لكل الأدوار التي تم تجسيدها فوق الركح. ونسجل كذلك أن الإكسسوار كان وظيفيا في هذه المسرحية وخاصة الشمعة التي تتحول إلى رمز للتغيير والبحث عن الحرية ومسلك لإزالة الظلام استعدادا لانبلاج النور والصباح المشرق ، ومن منظور آخر تنير الشمعة للممثلين بصفة خاصة والجمهور بصفة عامة درب الخلاص وطريق التنمية والازدهار والبحث عن الحقيقة الصادقة اليقينية.

وتجسدت علاقة الممثل بالمشاهدين في تطهير نفوسهم المنبهرة بوقع المشاهد المسرحية، وذلك بإثارة الخوف والشفقة واستعمال العنف والقسوة في جذب المتفرج واستفزازه بالصمت الكوليغرافي. ويعقب هذا الصمت إيقاع الحركة والتمسرح الدرامي الديناميكي من خلال تحبيك سيمفونية اليتم والتغني بأغنية أمازيغية رائعة :

يامّا أيامّا يامّا أيامّا

يامّا أيامّا يامّا أيامّا

وهنا يتدخل الجمهور بالتصفيق والتشجيع والانسياق وراء روعة المسرحية التي كانت في بعض الأحيان تبهرهم بالحركات الكوليغرافية المتناسقة والحبكة القصصية الحزينة. لكن هذه المسرحية بدلالاتها الرمزية تثير صعوبة على مستوى التلقي؛ لأنها تخيب أفق انتظار الجمهور وتنزاح عن ذوقهم السائد في التعامل مع المسرحيات الأمازيغية الكلاسيكية. وبذلك تؤسس لذوق مسرحي جديد في مسار المسرح الأمازيغي الريفي. ولا أبالغ إذا قلت بأن هذه المسرحية تشكل قطيعة فنية وجمالية مع العروض السابقة وتشكل انعطافا مهما في مسار المسرح الأمازيغي وتعبر عن نضجه السينوغرافي وكماله الفني ومجده الجمالي. وما ردود الجمهور بالاستحسان والإعجاب إلا دليل على روعة هذه المسرحية وسموها الدرامي وتشكل المسرح الناضج والعرض الشامل الذي ينفتح على أحدث التقنيات والمدارس والمناهج المسرحية لدى الغربيين والعرب على حد سواء.

وقد أظهر الممثلون كفاءة عالية وقدرة فائقة في مجال التمثيل والانتقال فوق الخشبة وتشخيص المأساة واليتم بأجسادهم ووجوههم وتعابيرهم الواضحة الدالة وصرخاتهم الصاخبة الموحية، وتوفقوا في تحقيق الوقع الجمالي وإثراء التحقق الفني من خلال جدلية العرض والمتلقي ، تلك الجدلية الفنية الممتعة التي جعلت المشاهدين ينساقون وراء التخييل واستجماع الصور الممكنة والمحتملة لبناء المعاني وترجمتها عبر التفاعل الحميمي والتصفيق الحار والاندهاش الناتج عن إعادة القراءة وملء الفراغات الفنية والجمالية.

ومن أهم الممثلين الذين بينوا براعتهم في التشخيص وتجسيد الدوال الرمزية والعوامل الموضوعية وتحويلها إلى تقمصات ركحية نذكر: عزيز إفلت وعبد الواحد الزوكي وشفيق التاويل وأنس عبد الله ومراد بلكنش.

هذا، ويتمظهر التواصل الحميمي بين المسرحية والمتقبل أيضا في استعمال الخطاب المباشر الموجه إلى الجمهور والتأثير على عقولهم وعواطفهم من أجل أن يتمثلوا دلالات المسرحية واستيعاب مراميها ومقاصدها السياقية.

وعليه، فمسرحية "تشومعت" مسرحية ناضجة من حيث البناء الفني والمعالجة الدرامية، وهي كذلك مسرحية شاملة ومتكاملة حققت تميزا جماليا وحداثيا في مسار المسرح الأمازيغي الريفي، واستطاعت أن تؤسس ذوقا فنيا طلائعيا جديدا يتجسد بكل وضوح في ردود أفعال المشاهدين الإيجابية من خلال تصفيقاتهم المتواصلة وإعجابهم الكبير بالمسرحية سواء من قبل المثقفين أم الجمهور الهاوي . وتعد هذه المسرحية بكل صراحة وموضوعية إضافة جديدة للمسرح الأمازيغي فنيا وجماليا . وفي المقابل، تركت هذه المسرحية المشاكسة العنيدة في أبعادها القريبة والبعيدة بياضا دلاليا ينتظر التأويل ونقطا فارغة في حاجة إلى التفسير السياقي والمعايشة البانية والتفاعل القرائي الهادف.

ت‌- مسرحية" أنان إيني ن- زمان/ قال الحكماء" كساد الذوق المسرحي:

قدم عمرو خلوقي مسرحيته " أنان إيني ن- زمان/ قال الحكماء" في نسختها الأولى ضمن الإقصائيات الإقليمية لمسرح الشباب في مدينة الناظور وأعيد تمثيلها من جديد في دار الشباب بازغنغان يوم 23 مارس 2007م. وغذا كانت المسرحية اعتبرت في نسختها الأولى على انها متميزة بنصها المفتوح على عدة قضايا تؤرق الإنسان المعاصر كالهوية الأمازيغية ولغتها وما تعرض هذه الهوية من تهميش وغقصاء. كما تتعرض المسرحية بالنقد لزيف الانتخابات وما يعانيه العالم من إرهاب وظاهرة الرشوة كما يدعو على نبذ الحرب والدعوة إلى التعايش والسلم.

هذا ولقد اندهش الجمهور لرداءة هذه المسرحية وتدني مستواها وتفكك روابطها ولوحاتها بسبب ارتجالية المخرج وتسرعه في تقديم الفرجة بدون تدريب جيد للممثلين الصغار الذين كانوا يقدمون معه الفرجة الدرامية.

ويتمثل التحقق الجمالي اثناء تكسير الجدار الرابع ومشاركة الممثلين للجمهور في معايشة التجارب الذاتية والموضوعية التي يعيشونها في الواقع المغربي. وهذه التقنية أثارت دهشة الجمهور خاصة ان الممثلين الذين كانوا يتجاويون مع المتفرجين هم أطفال صغار ثائرون على الواقع المتردي. وقد بدأ التحقق الفني والجمالي عندما بدأ الراوي الحكيم يتحدث مباشرة مع الجمهور يسرد عليهم قصص الحكماء والأجداد حول التشبث بالأرض والهوية الأمازيغية. وقد طال هذا الخطاب التوجيهي المباشر الذي اتخذ كابعا تحريضيا ورمزيا في ىن معا ليعقبه دخول الطفلين إلى الحلبة فيوظف التراث الأمازيغي ورقصة إمذيازن. وهنا افتح قوسين فاقول كيف يعقل ان يكون الممثل عاجزا عن ضرب الدف ومحاولة إتقانه والتدريب عليه لأن خلوقي عمروا لم يمتع الجمهور بضرباته على الدف بل بقيت تلك الضربات صامتة مختلة تسيء كثيرا على المسرحية. وبعد المقطع التراجيدي يتحول الجمهور إلى مقطع كوميدي ساخر عندما استحضر لوحة الانتخابات وانتقاد ظاهرتي الإرهاب والرشوة التي تنخر المجتمع العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة. وهنا ينساق المتفرج مع متعة المشهد على الرغم من ركاكة اللوحة وخطابها المباشر التقريري الذي يذكرنا بمسرح بيتر فايس.

وتنتهي المسرحية بتصفيقات الجمهور العاطفية والتشجيعية على اللوحة الأخيرة التي تؤشر على تردي الواقع المغربي وضياع الإنسان الأمازيغي والتفريط في هويته حضارة ولغة وكتابة وأرضا.

وعليه، فمسرحية أنان إينين- زمان مسرحية رديئة بكل مقاييس الرداءة بسبب السينوغرافيا الصامتة والديكور المشتت والإكسسوارات المبعثرة غير الواضحة وغير الدالة وهذا راجع إلى نقص الإمكانيات ولكن المسرح لا يعترف بهذا المبرر لأن الجمهور يريد فرجة ممتعة هادفة تخاطب فيه العقل والوجدان. ومن ثم، خرج الجمهور بانطباعات سلبية على هذه المسرحية التي أساءت إلى ذوق الجمهور على الرغم أن المسرحية في نسختها الأولى كانت أفضل بكثير بنصها المحبك جيدا على المستوى الدرامي والفني. كما أن صورة التحقق ظلت مختلة بسبب الفجوات الفنية والجمالية. كما سببت العشوائية في التمثيل في انغلاق المسرحية وقتلها على مستوى التقبل والمشاهدة ناهيك عن انغلاقها وانفصالها عن الجمهور وانفكاكها البنيوي.

ث- إشكالية الهوية والسلطة في مسرحية (ثايوجيرث) لمحمد بن سعيد :

قدّمت فرقة جمعية ثيفاوين للمسرح من مدينة الحسيمة بدار الشباب أزغنغان (إقليم الناظور) يوم 25 مارس 2007م مسرحيتها الرائعة "ثايوجيرث/ اليتيمة" بمناسبة الأيام الربيعية الأولى للمسرح. وهذه المسرحية التجريدية الواقعية من إخراج الممثل الشاب محمد بنسعيد وأداء كل من يوسف زريوح وشيماء بنعمي ومحمد بلحاج وسهام المشوشي وأحلام بنزيان وعمر اليونسي ووليد التسولي ووائل التسولي وطارق أفاسي وعادل أمغار.

هذا ،وتصور هذه المسرحية التراجيدية صراع الإنسان الأمازيغي مع السلطة التي تستهدف إقصاءه وتعذيبه بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة وتهميشه بعزله ونفيه وتسويره بالإهمال واللامبالاة والنسيان، وتتبع المناضلين الملتزمين بالأسر والاعتقال والترصد والنفي غير المبرر.

كما تطرح المسرحية قضية التشبث بالأرض والالتحام بالهوية الأمازيغية والدفاع عن كتابة تيفيناغ من أجل إثبات وجودنا وأصالتنا وكينونتنا الحقيقية أمام الانسلاخ الحضاري والتغريب "المعولم" والتفريط في مقوماتنا التاريخية والابتعاد عما تركه لنا الأجداد من أسس البناء الثقافي والاجتماعي وتعزيز الذات والحفاظ عليها في إطار التمسك بالهوية الأمازيغية التي تعني الحياة والوجود بالنسبة لنا.

وتبدأ المسرحية بلوحة الصمت الكوليغرافي المجسدة لشراسة الطبيعة وغضبها الصاخب الذي يحيل على تجبر السلطة وقمعها للإنسان الأمازيغي الذي يبحث عن نفسه وكينونته وينحت في الصخر من أجل أن يفرض وجوده ويتصدى للأسر والنفي والتغييب الحضاري والمسخ الوجودي والانصهار في مجتمع لا يؤمن بخصوصيات الإنسان الريفي الذي له الحق في العيش الكريم والحياة الإنسانية الشريفة.

وننتقل في اللوحة الثانية إلى الممثلة سهام المشوشي بطلة المسرحية وهي تبحث عن أمها التي هي رمز للهوية والأرض والكينونة الحقيقية التي ينبغي أن يفتخر بها كل فرد أمازيغي ، تلك الكينونة التي مازال يفرط فيها الأمازيغيون بتفرقتهم وأنانيتهم وتقاعسهم عن إثبات وجودهم وثقافتهم وهويتهم الأصيلة.

إذاً، تدين المسرحية تشرذم الإنسان الأمازيغي وغيابه وتضييعه للغته وكتابته وخصوصياته الحضارية . و قد سببت هذه التفرقة المفروضة وهذه اللامبالاة المتعمدة في موت الأم رمز الهوية والأرض والتراث والأصالة والكينونة المحلية؛ مما جعل السلطة تحارب الأمازيغية وتحاول قمعها وقتلها بكل وسائلها المشروعة وغير المشروعة ،لأنها تعتبر الأمازيغية عدوة لها، وبالتالي، تشكل خطرا على مستقبل السلطة وشرعيتها وأحقيتها في الاستيلاء على زمام الحكم والاستفادة من ثروات الوطن. ومن ثم، تستنكر المسرحية ظلم السلطة وبطشها الجبار وما ترتكبه من شطط وتعسف وقهر في حق الإنسان الأمازيغي. لذلك يتقابل في المسرحية لونان متضادان: الأبيض رمز الأمل والحرية والخير والحب والحياة والكينونة الأمازيغية وفي نفس الوقت رمز للتضحية و الموت والحزن الجنائزي. أما اللون الأسود فيحيل على القمع والكراهية والشر وحقد السلطة وتجبرها الفظيع وقهرها الدامي.

وتنتهي المسرحية بلوحة الأمل والحياة وانبعاث الكينونة وانبلاج نور الحرية بتوحيد الأمازيغيين وتشبثهم بالأم وعدم التفريط في أي شبر من أرضهم وفي أي مقوم من مقومات أصالتهم وحضارتهم وكينونتهم.

ويلاحظ المتلقي أن المسرحية تجرب خصائص المسرح الرمزي وتمتح من مسرح اللامعقول المجرد. وتتحول فيها عناصر الطبيعة (الرعد، والبرق، والمطر، والفراشة، والشمس، والألوان...)، وعلامات المسرحية سواء اللغوية منها أم البصرية أم المادية إلى رموز إحالية ودوال سيميائية تعكس الصراع بين مجموعة من الثنائيات الضدية: الخير والشر، السلطة والأمازيغية، التمزق والوحدة، والخير والشر، والحب والكراهية، والتأصيل والتغريب....

وتنساق المسرحية مع التطهير الأرسطي وقسوة أنطونين أرتو وتكسير الجدار الرابع على طريقة بريخت وبسكاتور والتحليق في الرمزية الذهنية على غرار مسرح إبسن وميترلنك والاستفادة من الكوليغرافيا الصامتة لدى رواد مسرح اللامعقول( أرابال وآداموف ويونيسكو وبيكيت).

ويطغى السواد التراجيدي المغلف بالحزن على إيقاع المسرحية وأزيائها وفضائها البصري على غرار المسرح الأمازيغي بصفة عامة كما يظهر ذلك واضحا في مسرحية "ثشومعت/ الشمعة" من إخراج عبد الواحد الزوكي، ومسرحية" أرياز ن- وارغ/ رجل من ذهب " في نسختها الأولى وهي من إخراج فخر الدين العمراني، و"ثيرجا سثنيفست/ أحلام من الرماد" من إخراج محمد بنعيسى، و"ثابرات/ الرسالة" من إخراج فاروق أزنابط، و"نشين نسّا" من إخراج فخر الدين العمراني...).

وتظهر المسرحية قدرات الممثلين العالية في فن التمسرح ومهارة الانتقال والتواصل الحركي على خشبة الركح على الرغم من كونهم مازالوا شبابا يافعين متعطشين إلى الفعل المسرحي يفتقدون إلى التكوين النظري والممارسة الاحترافية والاحتكاك التطبيقي، وذلك لغياب بنية التنشيط الثقافي وعدم وجود المعاهد المسرحية بالحسيمة التي ستؤهل هؤلاء إلى الوعي بالفعل المسرحي نظرية وتكوينا وتطبيقا.

ومن أهم الممثلين الحاذقين نستحضر الممثلة القديرة سهام المشوشي التي أظهرت قدرات رائعة أثناء انتقالها على خشبة الركح وأداء دورها التراجيدي من خلال البحث عن أمها التي فرط فيها أبناؤها الأمازيغيون. ومن ثم، فقد تقمصت دورها أحسن تقمص ومثلته عن صدق ومعايشة، وهذا الحكم ينطبق على الممثلين الآخرين البارعين في أداء أدوارهم. وتذكرني هذه الممثلة القديرة الصاعدة بالممثلة الحسيمية البارزة فدوى والقاضي في مسرحية "ثيرجا ثسنيفست/ أحلام من الرماد" لمحمد بنعيسى التي أدت دور الأم أحسن أداء فني وجمالي.

وتتسم السينوغرافيا في هذه المسرحية بالطابع الوظيفي الجيد، لأن الممثلين شغّلوا جيدا عناصر الديكور( السجن، وباب المعتقل، والضريح....)، وكل العلامات السمعية ( الموسيقا، والأغاني...)، والبصرية ( الستارة المرقعة، وتداخل الألوان وتقاطعها لتشكيل ثنائية الخير (اللون الأبيض) والشر (اللون الأسود)، والعلامات المادية (الديكور).

ومن تجليات التلقي في هذه المسرحية أنها أحدثت وقعا جماليا بلغتها الشعرية الرمزية، وحققت انزياحا في مسار المسرح الأمازيغي عندما خيبت أفق انتظار الجمهور الأمازيغي بتجريبها لمبادئ المسرح الرمزي ومسرح اللامعقول. ومن جهة أخرى بدأت المسرحية بلوحات صامتة حركيا أثارت اندهاش النقاد وأبهرت المشاهدين بالكوليغرافيا الجسدية التواصلية والألوان المتقاطعة التي خلقت في ذهن المتلقي صور المعنى والتخييل والسعي نحو إعادة الإنتاج والتفاعل مع فراغات العرض التي تستلزم قراءات منفتحة تستند إلى التأويل والربط بين اللوحات ومؤشراتها السيميائية وملء البياض بالمعنى والدلالة والمقصدية المرجعية.

وقد كان الاتصال الفني والجمالي يتم داخل قاعة المشاهدين عبر التحقق الحركي بين ممثلي الركح والجمهور من خلال تكسير الجدار الرابع والاحتكاك بالمتفرجين مباشرة علاوة على الاستخدام الجيد لتقنية المواجهة الأمامية وتوظيف الخطاب الدرامي الموجه إلى الجمهور للتأثير عليه إما بشكل كوليغرافي بصري وإما باستخدام العلامات البصرية والمادية قصد جذب المتفرج للتفاعل مع العرض وتمثله كما يتمظهر ذلك في التصفيقات الحارة وحالة الصمت التي كان عليها الجمهور في بداية العرض بسبب المعايشة الوجدانية والذهنية التي أحدثها الوقع الجمالي ولذة العرض والانزياح عن مقومات المسرح الأمازيغي الكلاسيكي.

وعليه، فمسرحية "ثايوجيرث/ اليتيمة" تشكل منعطفا بارزا في مسار المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف ؛لأنها تتناول إشكالية الهوية الأمازيغية من خلال منطلق فني وجمالي يرتكز على التجريب وخلخلة المسافة الجمالية وتأسيس أفق انتظار جديد يسمو بالمتفرج الأمازيغي إلى مراقي الفن الرفيع والذوق الجمالي العالي. ومن هنا نقول: بأن الجمهور الأمازيغي قد بدأ يحس بوجود فرجة مسرحية متكاملة في كل مكوناتها السينوغرافية والإخراجية. وهنا نشيد أيما إشادة بالمخرج الشاب محمد بنسعيد الذي أخرج لنا هذه المسرحية الرائعة التي تتسم بالحداثة والتجريب الرمزي والذي استفاد أثناء إعدادها وتحبيكها دراميا وإخراجها سينوغرافيا من التطبيقات والعروض المسرحية المحلية ومن التصورات والتقنيات الإخراجية الغربية والعربية على حد سواء.

ولقد نوه أيضا كل من المخرج فخر الدين العمراني والمخرج سعيد المرسي والسينوغراف الكبير محمد العمالي والناقد الدكتور جميل حمداوي باعتبارهم قراء ضمنيين ونقادا واقعيين ومتخصصين في الميدان المسرحي بهذه المسرحية الرائعة تنويها كبيرا عقب الانتهاء من عرض المسرحية في مهرجان المسرح الربيعي بأزغنغان، وقد أجمعوا على تثمينها والإشادة بها تقويما وتشجيعا وتوجيها . واعتبروها مسرحية ناجحة ومتكاملة في كل أبعادها الدلالية والمرجعية والسينوغرافية والإخراجية والتشخيصية.

خاتمــــة:

هذه هي أهم العروض المسرحية التي تندرج ضمن المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف، وهي ترسم لنا طبيعة التفاعل بين الممثل والمتفرج ونوعية التواصل على المستوى اللفظي وغير اللفظي لسانيا وسيميائيا. كما يكشف لنا هذا التفاعل الركحي و التراسل الجمالي مجموعة من الآليات التي نتكئ عليها وصفا وتأويلا لفهم عملية التلقي وطبيعتها في المسرح الأمازيغي والوسائط التي يستعملها في مخاطبة الجمهور والاحتكاك به. ولقد رأينا أن ثمة عروضا مسرحية استطاعت أن تأسر جمهورها بوقعها الجمالي وانفتاحها النصي وفراغاتها الفنية الموحية، ومن جهة أخرى هناك عروض ظلت ضعيفة في التعامل مع جمهورها بسبب رداءتها وضعف إمكانياتها التقنية وفشل تمظهراتها التشخيصية والسينوغرافية والإخراجية.


[1سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد،الطبعة الأولى 1988م، ص: 42.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى