الجمعة ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

لوحة هوى

هرباً من زحام المرارات ، أخذتني المسافات إلى وادٍ أخضر يرتدي نهرا يموج بخضرة مياه صافية، ويتفرع إلى سواقٍ صغيرة تروي عطش الأرض ، وهناك عند ضفته اللينة , شكوته وحدتي وأحلامي التي تصادق المستحيل دائما ، لكنه لم يستمع إليّ وظل يجري ويجري.

عسكرت فيّ وحدة معشقة بتأملات تتغلب على انكساراتها ، ففردت أجنحة تعبي وشجني الداكن ، وبحثت عند الحقيقة وعند الخيال, عن وصل أو وصال، أو مسرّة, أو لعبة تبعد أوجاع الروح.
ذاكرتي كانت تثرثر مع الفراغ وأنا أتهشم في واجهات الحســــرة حيناً, وحيناً أقرأ رسائل شوق لا أدري لمن , فجأة سمعت دندنة أغنية حزينة تأتي من خلف شجرة وارفة ، أغنية التفت كلماتها وألحانها من حولي فترنمت بها , تملكني شوق لمعرفة مصدر الصوت, فنهضت بهدوء واقتربت كالمسحور، بينما أحاسيس متيمة بالخدر اللولبي تتلاطم في داخلي.

وآه من المفاجأة.. رأيت فتاة تسترخي فوق بساط أخضر ، تفرد ضفائرها الطويلة ، ومن حولها مدىً من ندى , فتاة حبلى بالمحبة مفعمة بالسحر ولحن الناي ، لها نقاء ثلج فوق قمة جبل ، ونكهة وطعم ولذة البرتقال والعنب والكرز ، زرعت نظراتي الجائعة فيها وهي تدندن وتهز رأسها يميناً ويسارا ً، فتفجر نبع الإعجاب كاسحاً كل كياني وأنا أرى فيها جمال الياسمين ، وطيبة الأم ، وكبرياءً مغمساً بالشهد ، بدا لي الوادي جنة على الأرض لأنني وجدت بعد طول انتظار أنيساً أو وليفاً، وبدأ نبضي يركض في المدى كالنهر.

لا أعرف إن كنت نائماً وأحلم، أم كنت واقفاً عند الأصيل بالقرب من شجرة تتمدد تحتها بطة ممتلئة على شكل فتاة رائعة تشبه (كريمة) ولكن من (كريمة) هذه التي أتحدث عنها ؟ هل هي الفتاة الأولى في الغياب؟ أم الفتاة الأولى الحاضرة في كل الأوقات ؟

في واحدة من أكثر لحظات العمر عذوبة ، تمنيت لو أضمها بين أقصى الصدر وأعلى ومنتصف القلب ، و بعد لأي اقتربت منها بخطوات هامسة على نعومة العشب ، ألقيت السلام وأنا تائه بين دروب الحب والإعجاب، فالتفتت إليّ باندهاش، توقفت عن الغناء، وبعد نظرات حلوة من عينيها السوداوين ، ابتسمت كقمر في ليلة صيفية ، ومثل مهرة نهضت ، وتركت نسيمات الهواء تغازل خصلات شعرها، وقلبي يغازل كل ما فيها.

اجتاحتني حسرة الظمآن حين يرى ماءً بارداً ، شعرت بأنها أعادت إليّ الطفولة ، ودون وعي مددت يدي نحوها ، وكم كانت فرحتي كبيرة حينما صافحتني وهي تزنرني بنظرات مليئة بالمعاني.
 كل الأشياء الجميلة تأتي لوحدها ودون ميعاد. قالت بصوت أشبه إلى الهمس حين قلت:
 ياااااااه.. كيف كانت الدنيا قبل ربع ساعة وكيف أصبحت الآن؟
ظل وجهها شعاعاً يملأ الوادي ، أجبرتني على أن أذيبها في عمري ليتجدد وليزداد عنفواناً وجمالاً ، فتجرأت أكثر وقرأت لها أول رسائل الحب، وحين سقتني من حنانها قلت:

 كل مساحات قلبي صارت بلادك.
 هل تصدق أنني كنت انتظرك مع العلم أنني لم أرك من قبل؟
أذهلتني كلماتها، فتمددت في منعطفات جسدها, ومن شدة بهجتي لم يستطع المكان أن يحتويني:
 ما رأيك لو نرسم أنت وأنا على أعشاب هذا الوادي وبكل ألوان الحب لوحة لم ترسم في دفاتر العشاق من قبل.
قرأت في عينيّ كل الصدق وكل الحب وكل النجوى، فعادت إلى مكانها تحت الشجرة، جلست ودعتني للجلوس إلى جانبها , شعرت بأن الدنيا بدأت تفتح لها اتساع ذراعيها، فأرسـلت يدها الطرية ببطء إلى كفي الخصيب وهيأت الألوان.
مع الدفء المتولد من الأصابع العشرة، تغيّر سلوك الدم فينا كلياً، وتغيرت نظرتنا للحياة ، وشيئاً فشيئاً صارت الشجرة غطاءً من غار، وصار العشب سريراً وثيراً ومليئاً بالعـــطر المميز، والأحلام الكثيرة، وهسيس الكلام، وزقزقات العصـافير، وألحان الناي، وندى المساء، وعبق الياسمين، ودفء الهوى الذي لا يشبه الهوى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى