الأربعاء ٢٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم هشام آدم

لوحة بريشة لا أحد

ذلك اليوم لم يأخذ حذره، فليس من شأنها أن تمطر في مثل هذا الوقت من العام، لذا فإنه لم يغلق نافذة مرسمه. وفي الصباح وجدها ممسوحة وملطخة الألوان. ربما هبّت رياح شديدة مصاحبة للمطر غير المتوقع، فبات المرسم كما لو أنه تعرض لهجومٍ من قطط مشاكسة. لم يكن أي شيء في مكانه، فعلب الألوان منزوعة الأغطية كانت متناثرة على أرضية المرسم السيراميكية. "حسناً فعلت جوليا، فتنظيف السيراميك أسهل من تنظيف الموكيت" قالها وهو يحاول تهدئة نفسه، قبل أن يغادر منزله متجهاً إلى المستشفى المركزي حيث يعمل هناك. وقبل أن يلّف شاله الكاروهات حول رقبته، تفحص صندوق بريده فوجده فارغاً، فنفث من فمه هواءً ساخناً كمن يرمي أكياس رمل لتفريغ حمولة قارب صيد في عاصفة بحرية.

دخل من بوابة المستشفى الأتوماتيكية، واستقبلته نظرات المراجعين المرتجفة بخوف. يتكرر هذا الخوف كلما فُتح الباب الأتوماتيكي سامحاً للهواء البارد بدخول المستشفى الدافئة من الداخل مع كل زائر. بعضهم قرر قضاء بقية النهار داخل المستشفى خوفاً من الصقيع المفاجئ الذي حلّ في غير موسمه. بينما ألقى هو تحيته الصباحية على رجال أمن المستشفى أولاً ثم موظفة الاستقبال التي يشاع عنها أنها لعوبٌ شبقة، وأخيراً البدين الذي يقف عند مدخل متطرف يحول دون دخول غير الموظفين إلى الداخل. "كان الأجدر أن تكتب لافتة بدل وقوفك هذا" فابتسم الرجل البدين، وقال في سرّه "هذه اللافتة قد تغلق أربعة أفواه مفتوحة بشراهة"

كان مجرد عامل سنترال في المستشفى المركزي، وقلّة من عمّال المستشفى وأطبائه الذين يعرفون اسمه بالكامل، فقد كان صامتاً مكثراً من الصمت. كان يستاء عندما يرّن الهاتف ليقطع عليه تأملاته التي يستفيد منها لاحقاً في خلق موضوع لوحة جديدة. دائماً يضع رزمة أوراق بيضاء أمامه، ومقلمة لا تحوي إلا أقلام رصاص. كل ما يفعله أن يستوحي من الأصوات التي تمر عليه صورة وجوهها، وكيف يمكن أن تكون.

امرأة بصوت هادئ، تخرج الكلمات من فمها بوضوح، مخارج حروفها سليمة، ولكنها تبدو تعبة أو قلقة. يخمّن أن لون شعرها بني، وأنها ترتدي عدسة لاصقة متماشية مع لون شعرها. شاب ثلاثيني صوته أكبر من سنه – أو هكذا يتخيّل – يعاني من متلازمة لفظية تجعله يكرر حرفاً ما في كل مرة، يبدو أنه ذو شعر أسود كثيف، لا يرتدي نظارة، طويل القامة. ويمضي يومه يرسم الوجوه التي يتوقعها ويسمّيها.

يعود إلى منزله في المساء، ليجد أن الخادمة التي تأتي بعد انصرافه قد أعادت ترتيب المرسم، ولكنها – ككل مرة – لا تجيد وضع الأشياء في أماكنها كما ينبغي. ثمة لوحة في الجانب القصي من المرسم ما تزال مغطاة بقماشٍ أبيض. يرفع القماش بحذر، ويسحب كرسيه الذي بلا ظهر، ويحدق في اللوحة. رسمة لفتاة بلا عينين، لم يستطع أن يحدد شكل عينيها أو حجمهما أو حتى لونهما. بطريقة ما أحس أن عينيها هما ما يحددان اسمها، ولذا فقد تركت اللوحة دون تسميتها. كانت الفتاة التي بلا عينين تلك تشغل باله كثيراً. وكم تمنى أن لو عاودت الاتصال مرة أخرى، ولكنها لم تفعل طوال ثلاث سنوات.

ها هو البرد يختفي مجدداً، فتسكن الريح في أوراق الأشجار المجاورة، وفي مسامات الجدران والقرميد والآجر الأحمر. ورغم ذلك فما يزال لهب الشمعة يهتز كراقصة شرقية مكتنزة الجسم. يظل متمدداً على صوفا فضية دون أن ينزع حذائه، ويفكر. هو لا يفكر في تسمية اللوحة، بل في كونه لم يستطع أن يرسم عينيها. عشرون عاماً، وهو يمارس هوايته، دون أن يتعذر عليه أمر كهذا. فلماذا الآن، ولماذا هذه الفتاة بالتحديد! أشعل سيجارته واستنشق أول أنفاسها بشراهة، ثم نفثها في الهواء. كان الدخان يرسم خيوطاً في قماشة اللون الأسود المصاب بالضوء الباهت، فيتخيلها تارةً كلمات، وتارة وجوه.

تزحف على السيراميك مخلوقات ضوئية بانسيابية، فيلتفت ليرى جوليا تقف على باب المرسم "أهي اللوحة مجدداً؟" كان سؤالها قلقاً وموتراً لدرجة أنه لم يستطع الإجابة عليه. فتقدمت نحوه ومسحت على شعره "ربما كانت عمياء!" فالتفت إليها بحركة لا إرادية، وكأنها نطقت بهرطقة. حدّق فيها كثيراً ثم نهض إلى اللوحة وأمسك بفرشاته، وظل يبحث عن أنبوب اللون الأسود والأبيض والكأس التي يضع فيها الماء "هذه الخادمة اللعينة، تضع الألوان في غير أماكنها"

في الصباح، وقبل أن يغادر المنزل، وقف بكل ارتياح وفخر أمام لوحته التي انتهى منها بالأمس فقط. وتمطّى وهو يشعر بإنجازية عالية. أحس أنها اللوحة الأجمل له منذ عشرين عاماً. فتاة بعصابة سوداء. اكتشف أنها معبّرة أكثر مما لو كانت بعينين حقيقيتين. ولكنه كتب أسفل اللوحة "لا أحد "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى