الاثنين ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

عودة إلى الشمال

بعينيه الواسعتين وأذنيه اللاقطتين وجوارحه التي تترقب كل حركة تصدر من الطابق الرابع في تلك العمارة، و أحاسيسه المتحركة داخل جسده المنفعل التي تنشط من حين لآخر، وذهنه الْمُسْتَرِقِّ لأجواء المكان.. جلس "راضي" يشق أطباق الورق المقوّى ويصنع منها أشكالا هندسية لتلائم دروسه الرياضية.. وكان كلما سمع كلمة هنا أوهناك ووصل صداها إلى مسامعه المترقّبة، تبددت نظراته الذابلة، واعتمد بفكره الراصد على التفسير والتحليل المنطقي. ومع آخر قطرة من اليقظة حينما ذبلتْ عيناه، سمع قهقهاتٍ أنثوية كدبيب القطار تنم جميعها عن انغماس في جو مرحٍ واندثار في ساعةٍ فَكهةٍ في ليلٍ سجسجٍ كهذا.. ومن الطبيعي أنَّ كل حركة تحدث في الشقة يسمعها أصحاب الشقة المجاورة والشقة السفلى.. وهذا يحدث في كل الشقق..

في تلك الشقة المتواضعة المقابلة، ترقد كل ليلة أربعة أجساد ملتهبة، أوشكت بعضها على الزواج وتنتظر بعضها مجيء الفرج.. فتيات لم تتجاوز أعمارهن النصف الأول بعد العقد الثاني. ولم يكن لهن حظ في الحصول على وظيفة مناسبة في مدارس قُراهنَّ؛ ولهذا فقد جاء بهن قدرهن إلى هذه الصحراء.. قِبلة الخريجين الجدد...

كانت تطغى على حديثهن في كل يوم أنباء العمل ومشقاته.. إذْ تَعْرض كل واحدة منهن أحداث يومها بتفاصيله في المدرسة التي تعمل فيها، ثم تتطرق إلى الطرائق الإيضاحية التي استخدمتها في تمرير درس من الدروس المقررة.. ولطالما تحدثن في أمور الزواج وتمنت كلٌ منهن أن تكون سندريلا قريتها فتُزفّ إلى قصرها بلباسها الملكي الجميل، تركب مع فارس أحلامها عربةً يجرها حصانان يطوفان بهما أنحاء الدنيا.. ثم سرعان ما يكركرن بضحكات هستيرية تتلوها قهقهات عالية لا تلبث أن تغور بإشارة من " زينب"، أن المكان محظور؛ وتمنع فيه مثل هذه القهقهات. ثم تستأنف حديثها وتقول لهنّ: "إن من عفاف المرأة المؤمنة الصالحة أن لا تصدر مثل هذه الأصوات، ولذا ينبغي على الفتاة أن تكون اكثر حذرًا وأشد انتباهًا".

لكنْ توالت القهقهات هذه المرّة، فتنبه الشاب بعد معمعة قاسية مع الكرى وأرخى العنان لأذنيه المشدودتين، بعد أن رمى ببصره نحو صديقيه اللذين قطعا شوطًا طويلا في قطار نومهما، فتناهى له صوت "نبيلة" وهي تقول في صوتٍ أشبه ما يكون بصوت إنسانٍ مخمور: " هذا "محمود" طويلٌ كالزرافة .. إذا خرج من الباب يحني قامته لئلا يصطدم رأسه بالحائط ، وحين أراه مقبلًا أجفل منه وأولّي هاربة.. إنه إنسان مخيف للغاية.. أعان الله الفتاة التي ستكون زوجة له .. أما "عماد" فهو كالسلحفاة. صحيح أنه مؤدب ولكنه " إنسان معقّد" إذا رأى فتاة دار بوجهه جانبًا أو حنى عنقه كأنه يبحث عن شيء فَقَدَهُ.. ولا يلائم إلا "لزينب".. أما "راضي"!! فهو جميل الطلعة.. حسن الهيئة.. أنيق الملابس ولكنه مثل "الأرنب".. خجول أكثر مما يلزم.. إذا تحدثتُ معه احمرّ خدّاه وصارا كالتفاحة.. ما هؤلاء الجيران!! زرافة وسلحفاة وأرنب!!.... "

ثم قطعتْ صوتَها قهقهاتٌ عاليةٌ سادها مدٌّ وجزرٌ، سرعان ما تبددت ثم تلاشت أصواتهن شيئًا فشيئًا.. وخيّم على العمارة صمتٌ عميقٌ..

استلقى "راضي" على سريره متذمرًا من نفسه ومن عدم مقدرتها على المبادرة والحديث مع الجنس الآخر. وراح يلومها ويتهمها بالضعف والتردد والخجل.. وأخذ يتساءل حينًا ويندب حظه حينًا آخر: ما لي لا أستطيع أن أواجه الحقيقة؟؟ "أرنب!! وخجول أكثر مما يلزم!!".. أنا فعلا ضعيف الشخصية.. وشحيح الفكر أيضًا. فاشل في المهمات.. لماذا لا أقدر على محادثة "جميلة"!!. نعم فاشل.. هذه حقيقة وعليَّ أن أعترف! يجب أن أذهب ! وأتقدم! وأحاول! وأتخلص من ضعفي! لأن ما يقوله عني الناس لا يعدل الضعف الذي أنا فيه الآن.. لن أخسر شيئًا.. سأجرّب! أَما إني خجول فهذا لا يعني أني لا أقدر أن أصنع المعجزات.. سأتحدث معها ولن أتردد!! غدًا سوف أراها..

النعاس الذي طرده عن جفنيه، يتمنى الآن عودته مرة أخرى.. والكلمات التي سمعها لا تفارق ذهنه لحظةً.. وتقلباته في الفراش لم تسعفه هي الأخرى من أرقٍ يتمنى أن يهجره.. ورغم الصداع الخفيف الذي ألمَّ به فقد جاء استسلامه أخيرًا للنوم مع سماعه الصفير الأخير من قطار الليل. ومع دقات الساعة السابعة هدر "عماد" بصوته الأجش: " صباح الخير للجميع.. الفطور جاهز! انهضوا يا جماعة!"

بهمة متثاقلة وهامة ثقيلة وذهن مشوّش، ركب "راضي" الحافلة المتجهة إلى مدرسة "السلام" البدوية وكان شارد الحجى، يشيع بنظراته الضعيفة بيوت مدينة "بئر السبع" وقد أضمر في نفسه إصراره على تقديم رسالة لها، يعرب فيها عن إعجابه بها وحبه لها.. وخُيّل إليه أن السعادة التي ستغمر قلبها حال استلامها لرسالته هذه وقراءتها ستكون عظيمة الشأن؛ فهي دائمًا تستلطفه..

قُرع الجرس في المدرسة معلنًا انتهاء الدرس الأول والاستعداد من أجل البدء في الدرس الثاني.. وتوقع أن يراها في أية لحظة في الممرات المؤدية إلى الغرف الدراسية؛ لكنه شعر باختناق حين سمع من أحد المعلمين أن "جميلة" قد حزمت أمتعتها ورحلت قبل ساعة منذ أن وصلها بلاغ يبشرها بنقلها للعمل في إحدى مدارس قريتها وهي الآن في طريق العودة إلى الشمال..

اندفع "راضي" يسأل عنها في اهتمام بالغ، وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة..متمنيًّا له ولنفسه النقل السريع والفرج العاجل.. ثم سُمع على حين بغتة صفير القطار القادم من مدينة بئر السبع والمتوجه إلى الشمال. وقف يحدق فيه في تهالكٍ كأنه يختلس النظر إلى مَنْ فيه.. وخيّل إليه أنها تجلس قرب النافذة المطلة نحو المدرسة في العربة الأخيرة وتلوّح له بيدها اليمنى. لبثت نظراته تلاحق القطار في الأفق البعيد. ولبث يصغي إلى صوته المتلاشي وهو شارد الذهن، غائر العينين، ضيق الصدر يتمعن في صورتها التي طبعت في ذاكرته. ثم أحسّ بيدٍ ثقيلة تهزُّه من كتفه وتوقظه من غفلته وأحلامه.. نظر خلفه فوجد زميله "خالد" يحدثه بكلام سمع منه آخره : " ...... منذ عشرة دقائق اذهب لدرسك".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى