الخميس ١٠ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

التحرُّر من العبودية

وأخيرًا نطق القاضي بالحكم...

الحكم الذي انتُظر صدوره سنةً من الزمان..
بعد جلسات مطوّلةٍ تخللتها مشادات كلامية ، واتهامات متفرقة.. ثم مماطلات من القاضي نفسه، مثلما اعتاد فِعله في كل حالة طلاق تصل إلى مكتبه.. واستلم المحامون أجورهم التي حددوها من كلا الطرفين. وهكذا انطوت صفحة أخرى من صفحات الحياة. وتشعبت الأسرة إلى شعبتين.. الأولى تقودها امرأة في الخامسة والعشرين تكفّلت بتربية صبيتين لم تتجاوز الكبرى فيها، سن السابعة. وأطفأت الصغرى شمعتها الخامسة قبل أسبوعين.. والثانية تتألف من رجل واحدٍ راح يفكر في حياة أكثر انفتاحًا من الماضي، وأقلّ انشغالا بأمور عاطفية. ويستطيع من خلالها تقرير مصيره..

وقرار المحكمة هذا يقضي على أن تحصل المرأة المطلقة بموجبه على ما يعادل ثمن نصف البيت عدًّا ونقدًا، دون أن ينقص قرش واحد، كما وتبقى البنتان في عهدتها، في حين يدفع الرجل مبلغًا شهريًا لإعالة الطفلتين إلى أن تبلغا سن الثامنة عشرة..
اندفع "يوسف الحاوي"، بعد أن استلم وثائق الحكم المختومة بختم المحكمة ، بسرعةِ البرق خارج المحكمة الشرعية، شاعرًا أنه قد تحرر من حقبة زمنية قاسية بددت أحلامه وقيّدت حريته ومنعته من التحرك نحو رغباته.. حياة كلها أسئلة ونكد ومحاسبة دقيقة وسوء ظن حتى لكأنه أصبح عبدًا مطيعًا لها أو حصانًا مروّضًا تركبه.. ستصبح الآن حياته أكثر هناءً وأقل بؤسًا وبإمكانه الآن أن يتفاخر أمام صديقتيه "دانييلا" و "سلفيا" كلتاهما دون حياءٍ منه، أنه متحرر لا تتحكم به أي امرأة. والعرب اليوم يعيشون في جاهلية عمياء. نساؤهم ترسم وتخطط أما هم، فينفذون. شعبٌ متقوقع على نفسه كل شيء عندهم محرّم.. العادات والتقاليد تخنقهم.. ولسوف يذوق طعم التحرر من العبودية. وليس هناك من يراقب تحركاته أو يحاسبه على أفعاله. سيخرج حيثما يشاء وسيعود إلى بيته متى يشاء.. توقف برهة قرب مقصورة الحارس القائمة على يمين البوابة الرئيسية. التفتَ يمينًا ثم يسارًا وأخرج من جيب قميصه علبة السجائر وأشعل سيجارة ومضى في هدوء المنتصر. عيناه الواسعتان تتأملان واجهات الحوانيت البعيدة وكأنه متحفز للدفاع عن نفسه من شخص يهاجمه بغتة أو من عربة تدهمه. خطر في نفسه عبوسها النافذ وصورة وجهها الممتعض وعيناها البراقتين فافترَّتْ عن شفتيه ابتسامة عريضة وهو يتوجه نحو الشارع المحاذي لبناية البلدية إلى أن بلغ محطة الباص ثم انعطف يمينا نحو سوق الخضار قاصدًا قهوة "السيد أنطون" التي اعتاد زيارتها بعد كل جلسة من جلسات المحكمة.

توالى الناس متدفقين في الخروج من باب المحكمة الشرعية بحُريَّةٍ تامة دون انقطاع ودون أي ثريّث. وظل رجال الأمن منهمكين في فحص جميع القادمين وأمتعتهم بأجهزة كشف المعادن دون استثناء قبل أن يأذنوا لهم بالدخول..
لم يلبث الحاج "عبد الإله المصري" طويلا حتى خرج من المحكمة برفقة ابنته المطلقة ممعنًا النظر في الأوراق في صمتٍ ومدققًا في قراءة تفاصيل حُكْمٍ لولا حضوره ومتابعته المستمرة، لما صدر بهذا الشكل. بيد أنه قطع صمته وقال بصوت أجش ينم عن غضب داخلي شديد وتفل على الأرض:
 لعنة الله عليه.. لقد استرحنا منه .. لم أعرف المحاكم في حياتي إلا بعد أن ابتُلينا بهذا الكلب الشرس. احمدي الله يا "غادة"! احمدي الله الذي خلصك وخلصنا جميعنا منه!
هتفت "غادة" بنبرة فيها تحدٍ وإصرار:

 أبي! لا يمكن أن أتأسف على هذا النذل. لقد كان بالنسبة لي بمثابة قطعة بالية من القماش رميتها في سلة القمامة.. الحمد لله الذي أراحنا جميعنا منه. الحمد لله. لقد جُنّت البنتان بسببه. ثم إن الحياة لا تتوقف بمجرد انفصالي عنه.. وأسأل الله أن لا يوفقه في حياته. كان دائمًا يتردد على بيوت الدعارة ويبدد أمواله على اليهوديات العاهرات. تصور يا أبي أنني وجدت في جيب قميصه صورة له يحتضن إحداهن وهما يتسفّعان بلباس البحر. وفوق هذا كله فقد كذّب وافترى وشهد زورًا وبهتانًا على أمور لا تُصدق. عدا عن القصص المختلقة والمفبركة.
 المهم عليكِ الآن أن تحرصي على تربية ابنتيك ولا تحملي همًا. عليك أن تبدئي حياة جديدة. ولا تحسبي حسابًا لأحد مهما كان.
سأقف أنا وأخوك إلى جانبك وسنبني لك بيتًا بجانب بيتنا تعيشين فيه عيشة وأنت مطمئنة.
 لو كان فيه ذرة خير لما تردد في رمي ابنتيه والتخلي عنهما بكل بساطة. هو إنسان عديم الشفقة والإحساس. عشت معه سنوات فاقت عصر الظلمة. كانت الأيام تمرّ ونحن نتجرع المُرَّ والعلقم. فترة مثل الاحتلال الظالم الجاثم على صدور البشر. وأمه الظالمة وقفت إلى جانبه.. شوّهت سمعتي.. واختلقت القصص الكاذبة ، مع أنها تعلم كل الحقيقة عن ابنها الفاجر.
تمتم عبد "الإله" وكأنه لا يودّ أن يسمع عنه شيئًا:

 ليذهب هو وأمه إلى الجحيم! هو الآن ليس منا ولسنا منه. أنت أشرف منه ومن أمه.
ركبا السيارة المتوقفة بجوار الرصيف القريب من المدخل حيث أحدثت ضوضاءً خفيفًا وغادرت المكان قبل أن يُرفع أذان الظهر بقليل.

أسبوعان مضيا على هذا ، حيث امتعضت خلالهما أمها امتعاضًا شديدًا وسخط أخوها المتهور الذي لولا حكمة "عبد الإله" لأصبح الآن في السجن يحاكم بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار. بينما انكبّت البنتان في حضن أمهما تنتحبان في يأس. وظلت "غادة" تردد لهما عبارة ترجو منهما حفظها غيبًا:
 لقد مات والدكما ورحل عنا إلى الأبد..
بينما كان َ الحاجّ "عبد الإله" متوجّها وفي يده سبحته العنبرية التي اشتراها من سوق غزة عند سفره إلى مكة لأداء فريضة الحج، قبل عامين، واعتاد أن يأخذها معه كل يوم وقت خروجه لأداء صلاة الصبح في المسجد ، وبعد أن صلّى ركعتي السنة في بيته ، إلى المسجد بقلبٍ خاشع وعين دامعة ثم خرج وهو يقرأ وِرد الصبح حتى وصل بوابة مدرسة الرحمة، إذا بالمؤذن يقرأ في تأنٍ وخشوعٍ ،عبر مكبرات الصوت آية إعلان الوفاة:

بسم الله الرحمن الرحيم
"كلُ نفسٍ ذائقةُ الموت. وإنما تُوفوْنَ أُجوركمْ يومَ القيامةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عنِ النارِ وأُدخلَ الجنةَ فقدْ فاز. وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغرورْ". إنتقل إلى رحمة الله تعالى الشاب "يوسف الحاوي" ابن المرحوم "فتحي النمر"، رحمة الله عليه، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وفي تمام الساعة السابعة وخمس دقائق صباحًا ، أعلن المذيع تفاصيل الحادث المروّع الذي وقع في ساعة متأخرة من الليل وأدى إلى مقتل شخص مخمور كان يقود سيارته بسرعة جنونية وجرح فتاة أخرى كانت ترافقه بجروح بالغة. وتبين بعد التحقيق في الحادث أن نسبة الكحول في الدم كانت عالية جدًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى