الثلاثاء ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم هيثم محسن الجاسم

حظيرة المتعة المحرمة

أخيراً ، قرر العبور للضفة الأخرى للنهر . بعدما هيمن الضجر على كيانه وباتت المدينة تشعره بالفراغ والأسى وهام في الأزقة والأسواق ، حيث استحالت الأحياء إلى مقابر والشوارع ممرات هوائية عاصفة مترعة بالعادم والغبار والأوساخ وشحبت واجهات المحال التجارية الخالية من السلع والبضائع الجديدة الا من بقايا السلع الملقاة على الأرصفة التي تضّيق الطريق على المارة الجائبين للأسواق تجعلهم طوابير قسراً . فقدت المدينة حيويتها واستحالت إلى قرية ريفية تسودها أعراف وتقاليد بالية ملأت روحه بالإحباط والقنوط . شعر ان أيامه وسنينه تتآكل حيث اصبح عاطلاً عن العمل متسكعاً ، جائعاً ، مضطرباً ، روتين قاتل هيمن على حياته . كانت الضفة الأخرى حضيرة للمتعة المحرمة ، تعج بالغجر، بعوالمهم العابقة بالشعوذة العالقة برائحة البخور ورائحة الأجساد المدنسة بسوائل الشهوة والغريزة المنحطة . بعد الغروب ، كل العابثين الباحثين عن المتعة المحرمة ييممون وجوههم نحو الشاطئ تقلهم الزوارق الصغيرة إلى هناك ، إلى عتبة جهنم كما يطلق عليها الأهالي الورعون . ( لقد سئمت المدينة القاحلة يئست من الزواج القريب ، لا املك ما يسد الرمق عاطل ، كيف إذن نتزوج ؟ لم يعد هناك محسنون لله يتكفلون بنفقات الزواج ) . لقد جفت الأنهار وتصحرت الأرض وانقطع الغيث منذ ثلاث سنوات ولن تعد هناك بيادر قمح أو عصافير تفزعها الفزاعات أو صغار يلعبون حول الساقية لم يبق سوى العتالون والتجار الصغار المفلسون والباعة المتجولون الموثوقون إلى (جنابر ) موزعة بشكل عشوائي على الأرصفة في سوق يأن تحت وطأة الكساد والتضخم النقدي .

( كانت فكرة العبور للتسلية والتغيير ، لا أكثر ، صفدت ضميري لليلة واحدة كذلك تلبية لنداء الطبيعة الذي لا مناص منه . على متن الزورق يتقاذفنا الموج ، أربعة ركاب حالما لامس الزورق رمال الضفة الأخرى تفرق كل واحد في اتجاه إلا أنا بقيت أتطلع في كل الأرجاء . كان نور الغسق يؤطر حافات البيوت العليا ويغسل الأرض المفتوحة . تمشيت بهدوء في شارع ترابي غير مبلط نحو الميدان الرئيس في القرية ) . هناك محال وأكشاك صغيرة مفتوحة على الميدان تقدم المشروبات الروحية والغازية المبردة وكافتيريا للأكلات الشعبية . من الميدان تستطيع إن تدخل الأزقة كافة ، كذلك يمكن للناظر إن يحصي عدد الوافدين إلى القرية. منهم من تفرق على الحوانيت برفقة صديق أو بغي وآخرون تحلقوا حول الأبواب المواربة المحروسة بأفراد ينضمون دخول الزبائن إلى المضاجع المدنسة بالرذيلة . أمام كل باب تقف فتاة نموذجا للناظرين تجتذب الزبائن الوافدين عارضة جسدها بشكل مغر وفاضح مرددة كلمات بذيئة معددة الأوضاع والأساليب للحصول على السعادة . ( عندما ولجت القرية لفتت نظري فتاة جميلة لكن فضولي غلب فحولتي فتجاهلتها . سرت إلى نهاية الشوط ، وقع نظري على فتاة سمراء مليحة ، خلعت ملابسها فأصبحت عارية تماما كاشفة عن جسد يتفجر أنوثة ، أطلت التحديق بها ، لها نعومة الحرير أما فخذاها فممتلئان قليلا لها نهدان متماسكان صلبان ، بطنها مستديرة غير مكتنز لحما وشحما . تحلق حولها شبان كثيرون ليطفئوا شهواتهم البهيمية ونزواتهم الطارئة في جسدها ) . أتجه صوب حانوت لبيع المشروبات الغازية ، احتسى قنينة بيبسي كولا باردة ، أخمد أوار النار المتأججة في أعماقه المكبوتة .

أنبهر بما رأى ، أطلق العنان لعينيه في تصوير المشاهد المسجلة في ذاكرته الثملة بدقة والتي تؤرق حياته وتسهده في الأيام القادمة . حدث نفسه ( يتراءى لي إن الفتاة الجميلة في مدخل القرية مختلفة ، لأعد أليها وأتأملها بدقة … لقد استهوتني ).
دنا من الفتاة قليلا ، أخذ يتفرس بها كمن يحاول سبر غورها . أخذ صدرها يعلو ويهبط . أطال التحديق بها ، طأطأت رأسها خجلا ، ظل يطيل التطلع متفرسا بوجهها ليقرأ من الأسارير المرتسمة عليها ما يجول بخاطرها .

صاحت بصوت حاد منبه : هيه … ماذا ، ماذا تريد ؟
انتبه ، أفاق من ذهوله ، فكر قليلا بينما الليل داهم القرية فجأة . قال بصوت خافت : أريدك .. هل هناك مانع ؟
قالت بصوت أجش تشوبه نبرة حزن : لا بأس تعال ، اتبعني .

تبعها الى الداخل سارحا في أفكاره ، كان يؤرقه دائما ، ان الحب المدنس حرام بحكم النواميس والأديان السماوية .
بدأت تنزع ملابسها بسرعة حالما وطأت قدماها أرض الغرفة ، فالوقت عندها من ذهب .
قالت ضاحكة : اعتدت على ممارسة الدعارة ، أني صريحة معك . قضيت ست سنوات أعمل فيها كامرأة ساقطة … اعتدت على تلك الحياة القذرة . كانت جادة فيما تقول . شعر في قرارة نفسه بالأسى والمرارة . وعادت أليه هواجس الوحدة والضياع . ( رغم أن ذاكرتي لم تسعفني كثيرا ، تراءى لي أني رأيت الفتاة من قبل ، لكن منذ زمن بعيد ، إن الأصباغ ولون الشعر الأشقر يشوش رأسي .. لا يمكن ، مستحيل ) .
قرر ان يسألها عن ماضيها ، رغم اعتقاده ان البغي لا تتحدث عن الماضي أبدا .تأكد أن الفتاة لم تكن غجرية ، أنها مختلفة كليا ، أنها تشبه فتيات المواخير والملاهي في المدينة .

أخرج من حافظة نقوده رزمة من الأوراق النقدية ، توسل أليها ، استعطفها ان تجيب على سؤال واحد ، بعدها يغادر الغرفة تاركا المبلغ كله هدية لها .
تأتأت بصوت خافت متهدج قائلة : ماذا تريد ان تسأل ؟
قال بإصرار وإلحاح : أين كنت قبل ان تكوني هنا ؟!
قالت ممتنعة : لا ينبغي التحدث عن الماضي .

لم تنبس ببنت شفة بل ظلت صامتة . ألح بالسؤال . لم تتمكن من الدلاء بأي شيء في جلاء ووضوح .
كان مصرا وحازما وقال : لن أتركك … حتى تجيبي على سؤالي .
بصوت متهدج والدموع تذرفها عيناها قالت : لقد مر زمن طويل يا أحمد .
ذهل وارتعب لما نطقت بأسمه وصاح : لا يمكن … وفاء .
قالت : فيفي … اسمي الجديد فيفي .

( كانت وفاء الممثلة الأولى في فرقتنا الشبابية ، لقد أسرت قلوب وعقول المشاهدين في كل أعمال الفرقة المسرحية ، كانوا يتفرسون في مفاتن جسدها ، كانت البداية في مسرحية عاطفية ، كنت الحبيب وكانت الحبيبة ، استغرقت في التمثيل حتى النهاية ، لما لامست أطراف أصابعي كفيها المفتوحتين المشتاقتين ، طويتها بين ذراعي ، ضممتها إلى صدري الثائر بالأشواق ، وتلبسني الدور بشكل مذهل ، جعل الجمهور يتأوه والحبيبة مستسلمة لا تدري ما تفعل أمام الجمهور . لما انتهى العرض ركضت نحوي قائلة : ماذا دهاك … كادت أنفاسك تحرق وجهي . بعد ذلك ، تطورت علاقتنا بالسر والعلن صداقة وحب ، لهو وعبث ) .

قالت بحرقة : تزوجت رجلا قسرا ، انتهى بالهجران بعد ثلاث سنوات ثم تابعت : كنت أسير في طريق الخطيئة طيلة المدة التي هجرني زوجي بها . كيف يمكن لفتاة مثلي أن تبقى طاهرة شريفة في هذه الأيام السود ؟ . لا يمكنني تغيير قدري ، لقد ضاجعت آلاف الرجال طيلة مدة امتهاني مهنة الدعارة .
توسل أن تذهب معه ، تهجر تلك الأرض الموبقة .

توسلت راجية ان يذهب تاركا إياها قائلة : القرية المخبأ الذي يخفيني عن أعين المعارف والأقارب … وودعته وأجهشت بالبكاء .
طرق شديد على الباب وصوت جاف يصرخ : أقفلنا المحل .. هيا أسرع .
كان الظلام يغرق القرية ، يغيب ملامحها بينما أنوار المدينة تتلألأ من بعيد متشظية في السماء . صاحية ، تبدأ حياة جديدة في الليل المكتحل بدموع الضحايا والضائعين .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى