الثلاثاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

أوطان صغيرة

(4) فلّ.. طين

كأذان، كأن لم يترك الحنين في أحلامي غير هذا التوق للنداء، لم يعد إلا اسمها يملأ الجرح، ويرجّعه وجعي متوترا كأنه بقية أنفاس.

لا أقول بأنني أتورط فيه لصالح رفضي أو ضده، لا أدعي بأنه يختزل المعاني والدلالات أو يتوسع فيها، أو أنه يفتح في سماواتي بابا للفهم أو آخر للإحساس، أو غيرهما للتصديق أو التكذيب، ولكنني كما تعودت أن أرمي بقرص الأسبرين في جوفي بعد كل ضربة شمس، ثم تنتابني من جراء ذلك حالة طارئة من الجفول، أردت أيضا أن أعبر عن شيء ما مشابه تماما، أكبر من تعبيري، لا ينفي الامتنان، ولكنه في المقابل لا ينكر الألم.

* * *

لا زلت أذكر يوم أن دعتني والدتها للدخول ريثما تنتهي هي من أخذ حمامها. قدمت لي شايا وحلوى، وأخبرتني عندما أغدقت عليها بالشكر أن ذلك كان أقل ما يجب:

 أنت أكثر من زميل لابنتي.

قلت وفرح مشوب بالحذر يداخلني:

 طبعا طبعا سيدتي، نحن بلا شك أكثر من زميلين.

وافقتني على رأيي لكوني كنت حسب رأيها التالي كأخ لفاتحة بالضبط، ثم استطردت بحزن متحدثة عن ابنها الطاهر، وكأن دواخلها تفتقت فجأة عن تذكره إثر تعقيبها الأخير.

 إيه، قالت، فات الآن أكثر من سنتين لم يعد خلالهما من غربته ولو مرة واحدة، أعاتبه كثيرا كلما اتصل من هناك، سأعاتبه دائما.. السعودية ليست بالبلد البعيد.

دفعت بطبق الحلوى نحوي، تنهدت ثم عادت لتسترسل:

 لكم اشتقت إليه، مسكين، حتى وهو هناك لا يفتر يفكر في مشاكلنا، توسل إلي أكثر من مرة أن أسافر مع هذه العنيدة إليه لنعيش معه ولكنها رفضت.. ممانعة هي كوالدها، كفلسطين كلها، هما الوحيدان من أظن باستطاعتها أن تلبي لهما طلبا بالسفر إليهما، لو رحلت سيقتلني فراقها بلا شك، لولا أن يقيني كبير أنهما لن يفعلا، ما دافع أن يفعلا الآن وهما لم يفعلا من قبل عندما خيراني بين البقاء هناك أو أن أعود للمغرب ريثما يحرر الرجال الوطن؟

أثار رحمتي بها حديثها الحزين فقلت مواسيا على غرار محاولاتي دائما أن أفتح معها صفحة متصالحة:

 لا تكوني متشائمة إلى هذا الحد، الحياة جميلة رغم كل قساوتها، علينا فقط أن نتحلى بالصبر والأمل.

ورأيتني أكثرت من حكمتي فاختصرت موضحا أن الفراق سنّة من سنن الحياة.

اقتربت مني برأسها كأنها ستقول سرا وأخبرتني بخفوت:

 ما دمنا بصدد الحديث عن السنّة سأخبرك أمرا، يقول الطاهر بأن مدير المختبر الذي يستكمل فيه فترته التدريبية رأى صورة لها فطلبها منه.

تملكني فزع رهيب، كان لكلامها أكثر من معنى، ولكن همسها لم يكن يعني إلا شيئا واحدا، سألتها في بلادة تعمدتها وأنا يخنقني أمل كبير أن يكون جوابها شافيا:

 طلب صورتها؟

ضحكت، لم أتبين جيدا إن كان ذلك من بلادة السؤال أم من بلادة منظري وأنا أطرحه، وأجابتني من خلال ضحكتها:

 بل طلب صاحبة الصورة كلها، أليس أمرا مفرحا؟

 لا.. ليس مفرحا، قلت من فوري.

 ولماذا لا يكون مفرحا؟

داريت شجني وغالبت الغصة التي كانت قد شدت فجأة على حلقي محاولا أن أبدو غير مبال:

 أنت قلت بأن ابتعادها قد يقتلك.

 ابتعاد البنت في حالة زواج أمر مختلف، وسعودي سيقتل الواحدة منا وهي مطمئنة على الأقل.

ضاعف جوابها من خيبتي، مع ما ظللت أتمنى لو أنها تقاسيه قبل أن تموت لطول ما وظفت سنان لسانها في التجريح بكفاءتي ولو تمريرا من تحت الدف، مشهرة فرحا ومبطنة إعلانها عن حرب ضروس، ولم أتقن عضي على جمرة رفضي واحتجاجي ففححت في وجهها بجواب كالشواظ أن سعوديا سيكتفي بصورة لكي يتزوج من مغربية يجربها أولا لشهر أو شهرين قبل أن يقرر الاستمرار معها أو رميها للشارع ككلبة.

لم يفلت جوابي مرماه، والأصول الفلسطينية لفاتحة لم تمنح لوالدتها المبرر الكافي لاستثنائها من لائحة اتهامي وحمل ما قلته على محمله العام والعفوي الذي كنا نتداوله كلما دار الحديث عن زواج المغربيات من السعوديين، لتتحرك في خطمها ردود شرسة من نفس جنس ردي، وتوالى الأخذ والرد بيننا على نفس منواله ووتيرته حتى لم يعد يصدي في كل ركن من أركان الدار إلا ما كان له علاقة وطيدة بالكلاب وفصائلها.

خرجت فاتحة إلينا مذعورة عندما وصلتها أصداء نباحنا، كانت شبه عارية، لا تغطي نفسها بغير فوطة قصيرة لم تستر من جسدها إلا من حدود نهديها بالكاد إلى حدود أعلى من ركبتيها بكثير، شعرها كان مسدلا وطويلا يكاد يتجاوز وركيها، وكانت قطرات الماء تنزلق ببطء لاحسة قوامها المستقيم ودافعة إياي أن أبارك لنفسي اختياري وأنا أقسم في سري ألا يتيمم بذلك البياض غيري، وحاولت هي ثنيي بإشارة من شفتيها وعينيها عن الاستمرار في مسحها بعيني صعودا وهبوطا بذلك الشكل البليد عندما بادرتها والدتها بغضب:

 شوفي هذا اللي تظلي تحلفي بأنك ما تكوني لغيره.

واعتبرتُ أنا تناسب كلامها مع ما كنت أضمره تجاه فاتحة لحظتها فأل خير، ولذلك جللت وجهي ابتسامة عريضة أضرمت التهجم في نابها أكثر، لتتساءل فاتحة إثر ذلك وهي تتحرك بسرعة واقفة بيننا في محاولة لحبس والدتها عني:

 مالو، آش عمل ثاني؟

 قال عليك كلبة.

 أوَ ليس هذا شأنا يخصني يا ماما؟

 وبالتالي فأنا أيضا كلبة، ألا يورطني ذلك فيما تعتقدين أنه شأنك وحدك؟

 لا بأس، قالت فاتحة، لعل الأمر لا يعدو كونه انتقالية رياضية في غير محلها.

 بل سوء فهم من أساسه قلت.

 مما لا يغني عن اعتذارك، أنت على الأقل لم تتورع عن رفع صوتك في وجه سيدة تعتبرك مثل ابنها.

ولم تكن غمزتها لي بعينها الدافع الأكبر لمسارعتي نحو سحب تدخلي السابق والاعتذار بكل جوارحي، فأنا كنت بذلك كما لو أنني أسحب أيضا من توهمها ما قد يحيل من جانب آخر على وفاء الكلب الذي رأيت من المجحف أن يكون في خلقها ولو النزر القليل منه، فهي لم تكتف في نظري بخيانة زوجها عندما أقبلت على الزواج بعده سبعة أشهر فقط من توصلها من طرف المقاومة في فلسطين بخبر وفاته، ولكنها خانت بذلك كل فلسطين.

* * *

لا زالت وعود فاتحة لي بانتظاري ما طال تعطلي تدمدم في صدري كنبض، ولا زالت رائحة نقائها تخدر غضبتي كلما جن بمخيلتي تذكرها، وتكون في كل مرة خصلات شعرها سياط حنين وتوق تشبع حرني ضربا إلى أن تروضه.

أترك الفراش بنهك، وكأن النسبة الأكبر من نومي لم تغادرني بعد، أتحامل ببعض يقظتي حتى أغادر البيت، عازما على تقديم شكر مباشر لها كونها لم تنقطع عن زياراتها لي ولو في كابوس.

أعبر القنطرة التي تمكن من اجتياز السكة التي تفصل حيينا عن بعضهما، أمشي لدقيقة تقريبا إلى أن أصل إلى المجموعة الوحيدة لأشجار الكاوتشو المتواجدة هناك، أتوقف عند إحداها وأنتظر.

يطول الانتظار، وكأنني أقف مستظلا تحت نفس الشجرة منتظرا منذ ذلك التاريخ، قبل ما أحسست أنه يزيد عن دهر خلا.

أزيل عدد كبير من أشجار المجموعة ليستبدل بها رصيف إسمنتي طوق أغلب الجزء المطل على الفج الذي يمر عبره الخط السككي، وهذا كشف الموقع إلى حد كان يسمح بأن يصلني الهواء الحار بكل سهولة ليلفح انتظاري حتى يكاد يسلخه.

يمر كثير من الوقت قبل أن يمر أول القطارات المغادرة للمدينة، دافعا نحوي ببعض الهواء الذي يهيئني لمزيد من الانتظار.. هذا الانتظار الملعون ثانية.. ودائما.

تطير بعد ساعة بالقرب مني عصافير من نوع "طبيبط"، تلاعب بعضها متوددة بشكل يوقظ جمر الاقتراب في قلبي ويذكيه، على الرغم من أنها لا تكون المرشحة المناسبة لتقوم بهذه المهمة.

بعد نصف ساعة أخرى يتحرك المكان قليلا بلعب أطفال الحي، ثم يفتح دكان وآخر، ثم ثالث صغير محاد لبيتها، ثم يسير في الطريق حمار محمل بقربتين كبيرتين من الماء تثقلان ظهره وسيره معا، يسير وراءه عجوز يستحثه على الإسراع بنخس دبرته المقرحة في مؤخرته، ويظل المشهد يتكرر كما لو أنه تسجيل للقطة تعاد من جديد كلما انتهت، وتظل الحالة هي نفسها، لا الحمار يسرع في سيره، ولا العود بيد العجوز يرحم دبرته.

يبتعد الحمار والدبرة في مؤخرته ترتعد، وجهه خال من أي تعبير، يستمر على نفس ديدنه وكأنه لا يبالي أن يكون له كرّ يعوض به قليلا عن فره الدائم، مكتفيا بإرعاد دبرته بعد كل نخسة عليها.

تتقبض أعصابي، ودون أن أتمالك حركاتي أركل الشجرة التي أسند إليها ظهري، أعرف في كل مرة أن الحمار لن يفعل بصاحبه ذلك، فأتمنى لو أنني أتبادل معه هيئتينا للحظة قصيرة جدا، أركل خلالها العجوز، وبعد ذلك يعود كلانا إلى سيرته الأولى، ثم تنتابني دائما إثر ذلك نفس نوبة الضحك وأنا أتخيل الحمار يهرب بهيئتي ويتركني أنعم بالنخسات بدلا عنه، أقول لنفسي:

 يكفي ما قاسته دبرتي، كل واحد يدّيها غير في كَرّه.

ثم أشعل بدل التخيل سيجارتي وتذكري، ومع أول نفس أصعّده تقفز فجأة في ذهني ككل مرة ظلال أول يوم تعرفت فيه إليها، كانت قد أقبلت لتوها من فلسطين، وحطت كقضاء جميل إلى جواري في الفصل، هي لم تكن حينها من نفس رأيي الذي ما إن سنحت لي الفرصة أن أبديه لها حتى عبّرت لي عن عكسه تماما، كونه كان الدافع الفظيع لاختيارها مع والدتها حياة المنافي، ثم أجهشت بالبكاء، وأقسمت أنا منذ ذلك اليوم الذي عشقتها فيه أن تكون منافيها هي منافيّ، إلى أن يحرر الرجال فلسطين.

أحاول أن أتفادى معاناتي جراء الجزء المؤلم في تذكري فأسحب نفسا آخر أعمق، لا يكاد يدغدغني لأغفو وأغفر إخلافها لوعدها لي أن تنتظرني ما طال تعطلي حتى يخزّني هو نفسه لأفيق على واقع إخلافي أنا أيضا لوعدي إياها أن أنقدها من براتن زواجها الذي دبرته والدتها لتأمين مستقبل يعوضهما عن سنين العوز والحرمان.

أشيح ببصري نحو الأفق الجميل الذي يقارب على الانطفاء، يكون هادئا إلى أن يكدر صمته صدح مجفل، يهسهس في البدء كاشتعال يمتد عبر فتيل، وفور أن تدفع يدٌ باب الشرفة ليشرع على مصراعيه يشتعل داخل رأسي كثغاء، ثم أفز من كابوسي وأنا أتخيلها وطنا تزفه الخيانة للمذبح.

هو كان دائما داخليا هكذا حتى وبدؤه الفعلي تم من عمق بيت فاتحة، لأنه كان كَشَكٍّ نائم كنت لأسباب لا إرادية أتغاضى عنه، تمدد كزئبق ثقيل عندما عبرت فاتحة باب الشرفة واشتعلت الزغاريد خلفها كجهنم، وطنا مذبوحا ومسلوخا تزفه الخيانة للجحيم.

أعود جهرا، أفتتح حضوري بما يشبه الشهقة، أغلب الظن أنني أكون ممتنا وأنا أفشيها، أقتحم اليقظة من خلالها كما لو أنها تميمة للعبور، خاطفة وبنفَس ناعس، ذلك أن التكرار في مثل هذا الاستيقاظ المتواصل داخل رؤاي لا يسمح بأكثر من واحدة، مبتورة ومتعبة:

 "فلّ.. طين".

وكأنما فاتحة أضحت أكبر من أن يحدها بصر في يقظة أو حلم.. زهرة فلّ تكابد لتطل عبر طين موحل.

(4) فلّ.. طين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى